ما معنى أن يدعو رئيس مجلس نواب الشعب إلى «حوار وطني دون إقصاء أحد»؟ أليس في هذا استنساخ للتجربة السياسية القريبة (قرطاج1 مع قايد السبسي)، والبعيدة («الوحدة القومية» مع بورقيبة)؟
إنه مصادرة للمطالب الشعبية التاريخية وللديمقراطية القاعدية التي كانت من المطالب الأساسية لحراك 14 جانفي. فقد كان من الأجدر الدعوة إلى حوار وطني شعبي مباشر وحقيقي.
فالمنظمات الوطنية- رغم الأهمية التاريخية للبعض منها- تشكو العديد من النقائص الضخمة، خاصة ضعف الديمقراطية الداخلية فيها- رغم خضوع بعضها إلى مراجعات ذاتية سابقة عن طريق البعض من مكوناتها (مثلا برسبكتيف- العامل التونسي داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، بطريقة عقلانية- واقعية، خاصة في سبعينيات القرن الماضي)- وهو ما يجعلها لا تعكس المشاكل الحقيقية للفئات الشعبية وهمومها. ومن هذه المشاكل ما هو مطروح حتى الساعة (قضية تسوية عمال الحضائر…)، وأخرى تتعلق بشرعية وجود منظمات لها قضايا، تطعن في شرعيتها، لم يتم نشرها إلى حد الآن (مثل المتعلقة بشرعية انتخاب النقابات القطاعية للصيد البحري، والاتحادات المحلية والجهوية للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري…).
وأهم دليل على تجاوز الأحداث لهذه المنظمات هو النجاح الشعبي التمثيلي الحقيقي لجهة تطاوين (تنسيقية الكامور- رغم بعض نقائصها-)، التي كشفت أزمة الهياكل الرسمية التاريخية (اتحاد الشغل، اتحاد الفلاحة، الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة…). وقد كانت منظمات سياسية شعبية سابقة في صدارة ذلك الكشف تاريخيا (مثل برسبكتيف)، ونجحت في معالجة بعض جوانبها، لكن السلطة السياسية نجحت مرة أخرى، في أواخر سبعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته في الالتفاف على ذلك النجاح.
وقد أثبت التاريخ والواقع حقيقة «الوحدة القومية» المزعومة عبر عدة أشكال، حتى التي تحصلت منها على جوائز عالمية (الرباعي الراعي للحوار).
ما هو مطلوب:
1) معالجة حقيقية لمشاكل البلاد، التي «فهمتها» السلطة السياسية يوم 13 جانفي 2011. ولا يكون ذلك إلا عبر محاسبة كل خائن للشعب، وعد وأخلف. وكذلك بإعادة الفتح المباشر للملفات الحقيقية، الاقتصادية والاجتماعية المسكوت عنها، دون المرور بالتمكين من السلطة (كما تحاول بعض الأحزاب السياسية منذ 14 جانفي 2011).
2) عدم الاستنقاص من مستوى وعي الفئات الشعبية المحتجة، ومحاولة رد حراكها إلى دمية لأطراف مجهولة، والاعتبار مما حدث في أواخر ستينيات القرن العشرين وبداية سبعينياته التي عرفت حراك اجتماعيا ردا على تردي ظروف شاملة بالبلاد التونسية.
3) فتح حوار شعبي مباشر، محوره ثورة من أجل الوطن، تكون لها قيادة شعبية غير مُصَادَرة من طرف المنظمات التقليدية.
4) تنسيقية وطنية للفئات المهمشة، تفاديا للعصبيات الجهوية ولمصادرة نتائجها والالتفاف عليها وتفاديا للاختراقات والعنف… مع العلم أنّ اللجان والتنسيقيات التي تعرفها البلاد هذه الأيام ليست سابقة تاريخية، وإنما كانت من نتاج وعي معارضة وطنية للسلطة (برسبكتيف- العامل التونسي)، ونشاطها في الداخل، وخاصة في المهجر خلال ستينيات القرن العشرين وسبعينياته. والقول بأنها سابقة هو مؤشر على تأخر وعي قائليها في الزمان والمكان، أو محاولة للهروب من الواقع وتشويهه، مستنسخا سلوك السلطة في فترة تاريخية سابقة (عهد بورقيبة وبن علي).
خاتمة:
إنّ الحوار الوطني المزعوم «دون إقصاء»، إنما هو أساسا إقصاء لأهم المكوّنات الرئيسية لحراك الفئات الشعبية المهمشة والضعيفة راهنًا، وتغييبها، رغم الأهمية الثقافية والتعليمية للبعض من تلك الفئات. ولكن إن لم يكن هذا الحراك مؤطَّرا بالمطالب الأربعة، فإنه مُعرَّض للمصادرة أو التحول إلى عنف عدمي.
من جهة أخرى، يجب أن تكون هناك قيادة شعبية تقدمية لهذا الحوار، متصدرةً موضعها المطلوب داخله.
فكيف يمكن أن تتكون التنسيقية بطريقة ديمقراطية وعقلانية ممثّلة للمجتمع؟