انتظرنا طويلا في أن تبدأ الحكومة بعد الإنتخابات الأخيرة، بالوفاء بوعودها في محاربة الفساد والمفسدين، وطال الإنتظار بسبب جائحة كورونا، التي أعاقت كثيرا من المسائل المتعلقة بأمن تونس الاقتصادي، والتي لها تأثير كبير على مستقبلها، ونجاح مشاريعها وشبابها المعطل، وفتح ملف الفساد المالي سوف يكون مفتاح الإنطلاق، من أجل استيفاء حقوق الشعب والدولة من الأموال المنهوبة، والتي طال انتظارها.
وقد كنا من قبل قد أبدينا أسفا على إطلاق سراح (نبيل القروي) السنة الماضية، لتعلق ملفات فساد به، ولم نر مبررا حينها لإطلاق سراحه، من دون بتّ فيها، ولئن كان التبرير وقتها لإخراجه من الإيقاف، خوضه الإنتخابات الرئاسية، وكان قد ترشح لها ليس من باب أهليّته السياسية، وهو غريب عن عالمها، بل من باب التستر على تجاوزاته وفساده المالي، وتاريخه المليء شبهات، بعدما ظهر بمظهر الصلاح المزيف بين الأوساط الشعبية، فإن بطاقة الإيداع بالسجن التي صدرت ضده أخيرا، في شبهات مالية، دون الإفصاح عن مزيد من التفاصيل. بحسب المصدر، وقضت محكمة تونس بعد استجوابه، بسجنه بتهمة الفساد المالي.) (1)
الوعود التي أُطلِقت لمحاربة الفساد طال انتظارها، إلى الحد الذي فقد الشعب منها الأمل، في أن يراها مفعّلة بشكل واضح، واعتبرها مجرّد دعاية، لا أثر لها في عمل الحكومة، ورأى في تكرر التعيينات المملاة حزبيا، وفي حقّ بعض المعيّنين شبهات فساد، مما زاد من تفاقم الأزمة السياسية بالبلاد، وتواصل المماطلة في تنفيذ الإصلاحات، وانقاذ البلاد من حالة التخبّط، والفشل في تحريك سفينة البلاد إلى الإصلاح، بدل غرقها المتواصل في الفساد، وبأيدي المفسدين المعروفين بأسمائهم.
بداية الإحتجاجات الجديدة في مختلف مناطق البلاد ليلا، تخللتها أعمال نهب وعنف وأسفرت عن اعتقالات، لا يمكن قبولها على ذلك النحو، واستغلالها من طرف المنحرفين، والمتعلق بهم جرائم سرقة وعنف، يدعونا إلى مناشدة المحتجين على الكف عن ذلك ليلا، ومواصلته نهارا، بكل مسؤولية ووطنية، حتى تُفوّت الفرصة على كل من أعد عدّته، لاستغلال الأوضاع لإشاعة الفوضى والفساد، وعلى المتسترين على الفساد والمفسدين في الحكومة اعتبار الإحتجاجات مسيسة ضدها، من أطراف لها مصلحة في عرقلة جهودها.
مرت علينا أربع حكومات لم تقدّم شيئا، يقنع هذا الشعب، بأن وضع بلاده سيصير إلى الأحسن، عشر سنوات بحصيلة تراجع في كل شيء، الحاصل الوحيد الذي جنته البلاد، زيادة كبيرة في نسب البطالة والأسعار، وتراجع مخيف في النموّ والناتج المحلّي، وارتفاع في معدّل التداين الخارجي، ينذر بعاقبة وخيمة، ستتحملها الأجيال الحاضرة والقادمة.
ما لم يعد خافيا أن نظام الحكم الحالي أصابه عقم لا علاج له، وأصبح يشكل عائقا جديا، في وجه أي محاولة إصلاح في البلاد، فمجلس نواب الشعب تحوّل إلى حلبة صراع وتجاذبات حزبية، أثبتت بالتّجربة أنها لم تقدّم شيئا للبلاد، وكل ما أنجزت تفاهمات ومحاصصات حزبية على حساب مصلحة الشعب، الذي أساء اختيار عدد من نوابه، وهو يعتقد أنه قد أحسن ذلك، وفي المقابل أخفى عنه هؤلاء المرشّحون حقائق أنفسهم اللاهثة، وراء التمتع بالحصانة البرلمانية، تفاديا لإثارة ملفات فساد متعلقة بهم.
لقد مرت عشر سنوات على زوال النظام البائد، لكنه تبيّن بعد مرور هذه السنوات العجاف، أن زواله لم يكن سوى شكلا واسما، وبقيت في المقابل أدواته وعناصره فاعلة في مجال السياسة، والفضل يعود الى الغنوشي وحركته، التي اسهمت بشكل فعال في تحقيق قانون المصالحة، وفوتت بالتالي الفرصة على الشعب في
(اعتمد البرلمان التونسي مؤخرا “القانون رقم 49/2015 المتعلق بالمصالحة في المجال الإداري”، بعد أكثر من عامين من عرضه كمشروع رئاسي. رغم أن النصّ النهائي الذي اعتُمد هو نسخة مغايرة للنصّ الأصلي، إلا أن هذا القانون لا يقلّ خطورة على مستقبل الديمقراطية في تونس. سيسمح القانون الجديد للموظفين الأكثر ضلوعا في الفساد في ظلّ النظام السابق بالعودة إلى مناصبهم دون مساءلة، وسيعطّل جميع أشكال التحقيق والعدالة في الانتهاكات الحقوقية المرتبطة بمنظومة الفساد المنهجي المتفشي في تونس منذ عقود.) (2)
وقد اعطى هذا التسامح الغبي، البعيد كل البعد عن روح الثورة والتغيير، لوجوه متورطة في انتمائها الحزبي القديم، بالعودة الى المشهد السياسي الحاضر، وتأسيس أحزاب وتحقيق مكاسب سياسية في البرلمان وفي الحكومة، وأخشى ما نخشاه اليوم أن يكون تعطيل مشروع تجريم التطبيع، ترك باب التطبيع مفتوحا كطوق نجاة لحركة النهضة، من افلاسها السياسي، بالتعلّق به كآخر حلّ، لخروجها من دوّامة الفشل السياسي، بالمساعدات الامريكية البريطانية الصهيونية الخليجية، في حال موافقتها على التطبيع مع الكيان الصهيوني، وستجد في قلب تونس، وفي الدستوري الحرّ مناصرين لها في هذا السقوط السياسي.
انّ امتصاص غضب الجماهير المحتجة لا يكون باستعمال العنف، بما يذكّرنا بسياسة النظام البائد البوليسية القمعية، بل بالسياسة الراشدة في تحقيق مطالب الشعب الاستحقاقية، بتوفير الحلول العاجلة في التشغيل النافع، الذي يعود بالفائدة على اقتصاد البلاد، ولا يثقل كاهلها دون جدوى، وأن تستعجل الحكومة في حلحلة الملفات المالية، سواء أكانت الاموال المنهوبة من عائلة النظام السابق، أو شبهات الفساد المالي فهي بذلك قد وفّت بالتزاماتها الحقوقية، واعطت انطباعا شعبيا على أنها حكومة وطنية مبرّأة من العمالة وخذلان الشعب.
وما اصبح ثابتا اليوم أن نظام الحكم في بلادنا غير عملي ولا ناجع، والأصلح لنا أن يقع تعديل هذا النظام نظرا لفشله الذريع في اخراج البلاد من أزماتها، بل وأسهم في إغراقها بسياسة عقيمة لم تثمر شيئا، ونظام رئاسي معدّل، سيكون الحلّ الاقرب لحسن سير السلطة، بعيدا عن التوترات والتجاذبات الحزبية المريضة.
المراجع
1 – الحكم بسجن مرشح الرئاسة السابق ورئيس حزب “قلب تونس” نبيل القروي
https://www.dw.com/ar/56052949
2 – قانون المصالحة الادارية خطر على مستقبل الديمقراطية التونسية
https://www.hrw.org/ar/news/2017/09/21/309268