بقلم: #الناشط_السياسي محمد البراهمي |
إنّ المتأمل في المشهد السياسي الحالي يلاحظ غلبة الطابع اللاّعقلاني على سلوكيات وتصرفات وقرارات أغلب النخب السياسية مهما علا شأنها أو قل فكريّا أو أخلاقيّا، ذلك أن الخطاب السياسي السائد تنتصر فيه المغالبة الأيديولوجية العنيفة، التي تهدد في كل لحظة بتحول الصراع من عنف لغوي إلى عنف حقيقي يحرق الأخضر واليابس ويدخل البلاد في أتون حرب أهلية لا مخرج منها..و ما نعيشه اليوم من أحوال ومن أوضاع أصبح التونسيون خائفين يوماً بعد يوم من انهيار هذه البلاد وسقوطها فريسة في أيدي المفسدين المستهترين والخائنين و الأوغاد ..
فهل قام الشعب التونسي بثورة ليفتكّها بعض السياسيين الإنتهازيين و الفاشلين يستولون على المشهد السياسي ما يزيد عن عشر سنوات يصفّون حساباتهم ويتسلّون بسبّ واتهام بعضهم البعض و يتنصلّون من المسؤولية؟
لاشك وأن تونس مقبلة لا محالة على تحولات كبرى خلال الفترة المقبلة وتغيرات هامة في المشهد السياسي بإعتبار أن الاحتقان الإجتماعي قد بلغ مداه في غياب الحلول العاجلة وحتى الآجلة من قبل من يمسكون بالقرار، ويرى البعض الحل في التوافق وتوسعة الائتلاف الحاكم، فيما يراه البعض الآخر في تغيير شامل لشكل النظام السياسي الذي كان من أسباب الانهيار الذي يعيشه البلد إقتصادياً و إجتماعياً و سياسياً بالأساس..
تعيش البلاد منذ أسابيع على وقع احتجاجات إجتماعية غير مسبوقة، كل هذه التحركات هي بوادر إحتقان إجتماعي ودليل على أن الشعب استنفذ واستوفى كل صبره على الحكومات المتعاقبة من 14 جانفي 2011 إلى اليوم..الفقر والبطالة وتدهور المستوى المعيشي في الأحياء الشعبية والجهات المهمشة يمكن أن تنفجر فيها الأوضاع في أية لحظة، ويمكن لبعض الأطراف السياسية أن تستغل هذه المآسي لخدمة أجنداتها، وسواء تم دفع هذا الشارع للإحتجاج أو لم يتم، فإنه سينفجر من تلقاء نفسه وما على النخبة السياسية إلا البحث عن الحلول لهؤلاء المهمشين عوض الهروب إلى الأمام ووصفهم بالمخربين..
لا تستحق تونس أن تصيبها هذه الكارثة ، دولة كانت بهيبتها ذات يوم عندما كان مصيرها في يد سياسيين يعرفون قيمتها، ويدركون أهمية المسؤولية الملقاة على عاتقهم لحماية هذا الشعب وهذا البلد.. نعم لم تكن تونس هكذا عندما كان هناك رجال في مواقع الحكم يستحقون أن يكونوا حيث هم، كان هناك رجال لا يتقربون لكل صاحب نفوذ أو بارون فساد ، ليوصلهم إلى حيث هم، كان هناك رجال يديرون الدولة بمسؤولية.. لقد استسهلت الدولة الاستهتار بإدارة أمورها بسبب النخبة السياسية المتعاقبة الفاشلة ، إلى أن وصل الأمر إلى هذا الوضع الغير مسبوق.. إلى أين يمكن أن يصل كل هذا إلاّ إلى انهيار الدولة وإفلاسها وعجزها عن إدارة شؤونها؟
النخبة السّياسيّة بصورتها الحالية تعاني عقماً فكرياً وعجزاً سياسياً وقصوراً واضحاً تجلى في عدم قدرتها على الإصلاح أو على تقديم البدائل القادرة على تحقيق النهوض المجتمعي الذي بات ضرورة وطنية في المرحلة الحالية. والمعروف أن غالبية النخبة السّياسيّة المتنفذة اليوم تمارس السياسة بعقلية إقصائية قد تعيدنا إلى نفس العقلية التي غرسها نظام الطغيان، الأمر الذي جعلها تفقد ثقة الجيل الجديد ما بعد إنتفاضة ” سبعطاش ديسمبر” ، وتتحول إلى مجرد تابع للنظام القائم، وكأنّما هي تحاول إعادة إنتاج التخلف السياسي للحفاظ على مصالحها ومواقعها، ما يعني أنّه لا يمكن أن ننتظر منها شيئاً ، بقدر ما تحولت هي بذاتها إلى عائق أمام تحول ديمقراطي حقيقي يفي بوعوده ويقطع مع الماضي، لبناء مستقبل سياسي يسع الجميع بعيدا عن نزعات التموقع و اعادة اقتسام الحكم و للخروج بالبلاد من عنق الزجاجة المتعفنة..و بات واضحا لدى غالبية الشعب أنّ منظومة الحكم المتواصلة من 2011 إلى اليوم، نخرها السوس وأصبحت غير قادرة على معالجة الأزمة الشاملة والعميقة التي تهز البلاد، وهناك قناعة راسخة بأنّ هذه المنظومة هي السبب الرئيسي في هذه الأزمة بالنظر إلى خياراتها اللاّشعبية واللاّوطنية التي جاءت عكس ما انتظره الشعب المنتفض في “سبعطاش” ديسمبر 2010، و سياسة الهروب إلى الأمام والإنكار لا تجدي نفعاً و الأفضل الإعتراف بوجود أزمة ثقة، وتغيير السياسات والخيارات.. و تتوقف النخبة السياسية الفاشلة عن ترديد التفاهات التضليلية و الخطابات الشعبوية و الوعود الواهية التي لا تستطيع الصمود أمام قوة الشارع ، وقد فقدت قدرتها على إقناع الناس، ويتحملوا مسؤولياتهم بشجاعة، بدلاً من الاستمرار في هذه المتاهة المفتوحة، و بقائكم صامتين أمام كل ما يحدث في البلاد من عبث متواصل وتجريف لكل مكتسبات هذا الشعب المسكين و ضياع كامل لمصير الدولة.. دون ذلك ، لا يبقى خيار إلاّ ان يحترموا أنفسهم ، و يقدموا إستقالتهم أمام الشعب بشرف،
لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها، الشعب التونسي الزوّالي يستحق أن يحظى بحياة أفضل من هذه التي يعيشها اليوم، و بحاجة لتصحيح مسار الثورة و تحقيق أهدافها ووضع البلاد على المسار الصحيح ، لا بد أن تظل البوصلة بإتجاه التحرر و لابد أن يسترجع الشعب ثورته التي سرقت منه مهما كان الثمن، تلك هي معايير التقييم و التقويم والنجاح، وكفانا تبريراً للفشل وخداعاً لأنفسنا فلسنا أقل من الشعوب التي تحررت ونهضت. و لايمكن توصيف المسلسل الدرامي الحاصل في تونس بأقل من سياسة الهروب إلى الأمام، وهي سياسة تدخل في صميم تعميق الأزمة وتوتير الأوضاع، بدل العمل على حل الصراع ومعالجته بالحوار والحكمة والمنطق، والنظر إلى الأمور من زوايا الواقع، لا بآليات القفز في المجهول ..
ياسادة : نحن أمام مفترق صعب و معقّد يمكن أن يذهب بالبلاد نحو سيناريو أصعب، إذ لابد من تفعيل قرارات جريئة و حاسمة التي تكون في صالح الشعب، و ليس مجرد خطابات شعبويّة جوفاء وكلمات عمياء لا تمس الشعب التونسي في مفصله، بل إنّنا اليوم أمام امتحان حقيقي إما أن نجتازه حتى ولو بصعوبة وإما أن نرسب فيه فتتراكم المشاكل السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة بشكل مرعب وعندئذ يعود الشعب إلى الشارع مرّة أخرى، وليس في كل مرّة تسلم الجرّة..!!