الجمعة , 22 نوفمبر 2024
أخبار عاجلة

الذات بين غرابة الآخرية وغربة الإنية…بقلم د زهير الخويلدي

استهلال:

” يخدم تعدد المعاني للإنية فيما يتعلق بتعدد المعاني للآخرية، الذي يفعل في مواجهة نفسه، بمعنى الذات عينها. لكن، كيف يمكننا إيلاء العناية بعمل الآخرية في قلب الإنية؟”1[1]

الذات البشرية غريبة الأطوار وغامضة الملامح وتظل تتحرك ضمن دائرة المجهول ومبنية للمغيوب وتزداد غربتها عن نفسها عندما تعتقد انها عرفت نفسها بطريقة بديهية وتكتشف في يوم ما انها تجهل نفسها ولما تصطدم بغرابة الآخرية أثناء محاولتها الانفتاح على المحيط الخارجي والخروج من القوقعة الأصلية ولقاء العالم وتتضاعف دهشتها الفلسفية حينما تستيقظ على الغيرية القابعة في داخلها سواء طبعها او لاوعيها أو ضميرها بلغة بول ريكور2[2]. فهل الغريب هو من في غربته غريب أم من ليس له في الحق نصيب كما قص التوحيدي3[3]؟ هل غربة الذات هي غربة حي ابن يقظان4[4] كما ذكر ابن طفيل أم الغريب الذي رواه ألبر كامي5[5]؟ أليس الغريب في المخيال الشعبي هو الشيطان والقريب هو الله؟ وألم يتم الاعتبار الهجرة غربة مؤقتة والغربة عودة خالصة الى الذات؟ ومتى نفك العزلة عن الغريب والآخر والمجهول واللاجئ والمشرد والمهاجر؟ كيف تشتغل الفلسفة المعاصرة على عملية التذويت والفردنة والأنسنة بدل الوقوع في الموضعة والجمعنة والألينة؟

لقد قمنا بالتمييز بصورة اجرائية منذ العنوان بين الذاتsujet  والإنيةipséité  وبين الآخرية étrangeté والغيريةaltérité  وبين الغرابة Bizarrerie والغربة expatriationوبين الغريبétranger والآخرautre.

بطبيعة الحال ليس الآخر هو كل الآخرية ولا يكفي الأنا لكي يشير الى الإنية ، لأن ذلك يسقط في الأناوحدية ويتطلب انفتاحا على الغيرية ولا تتحقق الذات من خلال الذاتية لوحدها بل تحتاج الى الموضوعية والموضعة.

اللافت أن مفهوم الآخرية بالنظر للإنساني هو مابعد مقولي أو ما لا يمكن تصنيفه ضمن مقولة معينة وما لا يقدر العقل على تحديده وعقلنته واستخراج اللامعقول منه وتحييد المتوحش منه وافراغه من فوضى العدوانية.

ربما يكون هذا البدئي الطفولي وقد يكون هذا الغريب المهاجر الوافد الجديد على المدينة ويمكن أن يكون أيضا هذا الآخر الجندري كالمثال الأنثوي المضاد للذكوري والآخر البشري المريض في مقابل المعافى السليم.

بهذا المعنى لا يطرح اشكال انجاز الذات الا بالتصدي لغرابة الآخرية وتمدين البري وتهذيب الوحشي وعقلنة اللامعقول وترجمة المسارات اللاّواعية الى مسارات واعية وتطويع الغرائز بالمؤسسات من جهة وفك الغربة عن الانية والانتقال من العداوة الى الصداقة ومن النفور الى الألفة ومن التعالي الى المحاثة من جهة أخرى.

لقد تفطن بول ريكور الى استعصاء تحليل الذات الفاعلة سواء كانت مفخمة مع ديكارت أو مذلة مع نيتشه لما صرح بأن: “الذات الفاعلة هي تعددية… تتصارع فيما بينها كما لو كانت خلايا تمردت ضد سلطة القيادة”6[6].

الوجود الاشكالي للذات يطرح مراوحة عقيمة بين الموضعة والألينة وبين الجمعنة والفردنة وبين الهشاشة والمسؤولية وبين العطوبية والفعل وبين الانفعالية والاقتدار وبين التراخي والتماسك وبين الحوسبة والأنسنة.

الجدير بالملاحظة أن أغلب الناس عبارة عن أناس آخرين، أفكارهم هي أفكار أشخاص آخرين وحياتهم عبارة عن تقليد لتجارب اخرى ومشاعرهم مجرد اقتباس لمشاعر غيرهم وهم لا يتفردون بأي شيء خاص بهم.

في هذا السياق المعضلي من العلاقة الغامضة بين الذاتية والآخرية، فإن” السؤال المطروح هنا هو معرفة أي شخصية جديدة للغيرية يتم استدعاؤها من خلال هذا المودة من قبل الآخر غير الذات، ومن خلال ضمنيًا، أي ديالكتيك بين نفس الشيء والآخر الذي يستجيب لمطلب فينومينولوجيا الذات المتأثرة بالآخر غير الذات”7[7].

إذا استنطقنا المسالة من جميع وجوهها فإننا نستنتج أن هناك مجموعة من الفرضيات التي يمكن تصورها:

فالموضعة تجعل الآخرية من الأمور المألوفة أو تقوم بإلقاء الانية في غياهب الغربة. كذلك عملية التذويت اما أن تجلب الى الآخرية المزيد من الطابع الملغز والمحير وإما أن تنهي عزلة الذات واحتجازها وتفك غربتها .

ان علاقة الذات بالآخرين تندرج ضمن ثنائية الهوية والاختلاف. من ناحية أولى، أن يكون المرء مدركًا لذاته، أن يفهم نفسه كأنه أنا، ذات، هو امتياز إنساني حصري. من ناحية أخرى، الآخر، المختلف، ما هو غريب عني، أنا لست أنا والذي يدعي مع ذلك أنه مشابه لي، الأنا المتغيرة، نفس أخرى في الآن نفسها مع ذات أخرى غير نفسها: “كيف يمكن أن تكون أجنبيا ؟ كما يسأل مواطن. بغض النظر عن طريقة تفكير المرء فيها، كعدو أو تجسيد لإنسانية مشتركة، يبدو الآخر غير منفصل عن شخصيتي، فأنا آخر بشكل ما. كان من الحداثة التأمل في كلمات رامبو هذه لسماع الاغتراب وخيانة الذات وانقلاب العقل التقني والعلمي والسياسي لإطلاق العنان لقوته المطلقة في الحروب والثورات والإبادة، وبالتالي تدمير ادعاء العقلاني تحضره الانساني الكوني.

فما المراد بمفهوم الذات أثناء رحلتها الأنثربولوجية الأنطولوجية عبر جل الأزمنة الفلسفية والعهود الحقوقية؟ وكيف وقعت في غربة عن ذاتها؟ وماذا حصل لها عندما اصطدمت بغرابة الآخرية؟ ولماذا ازدادت المسافة التي كانت تفصلها عن ذاتها بعد هذا الاصطدام؟ وبأي معنى كانت تجربة البيذاتية هي خطوة مهمة في طريق استعادة الذات لانيتها الموعودة؟ وما المقصود بالتذويت ؟ وهل ساهم بالفعل في اماطة اللثام عن الآخرية التي تكمن في قرارة الذات؟ والى أي مدى صارت عين الذات قادرة على التفكير والكلام والفعل والسرد والالزام؟

كيف يمكننا التفكير في علاقة بيننا وبين الآخرين ليست علاقة مرآوية، حيث يمكننا الوصول في الآخر إلى ما نعرفه عنه بالفعل؟ كيف تتخيل علاقة مع الآخرين ليست استيلاء ولا ابتلاعًا أو خيبة أمل أو غضب؟ كيف نلتقي بالآخر في تفرده وفي الآخرية، وهل هناك أرضية تبادل ممكنة؟ وكأفق: كيف نعيد إطلاق حركة الحياة من خلال المواجهة، عندما تبدو هذه الحركة مقلوبة، تنثني على نفسها، وتتراجع؟ ما الفرق بين الآخرية من حيث هي غيرية خارجية والغيرية من حيث هي آخرية داخلية؟ وهل يمكن إيجاد طرف ثالث ووسيط بينهما؟

تقتضي معالجة هذه الإشكاليات المرور باللحظات المنطقية التالية:

1-ولادة الذات ضمن المقاربة الأنطولوجية

2- تحولات الذات ضمن المقاربة المعرفية

3-مخاطر الموضعة وأشكال الاغتراب

4- التذاوت ضمن المقاربة الفنومينولوجية

5- التذويت ضمن المقاربة الأركيولوجية

6- الآخر الضروري والغيرية الذاتية

7-الذات القادرة في الأنثربولوجية الفلسفية

ما نراهن عليه هو تجاوز حالة التشظي والتفكك والانبتات التي تعاني منه الذات من حيث هي فرد او مجموعة في الأزمنة المعاصرة وتخليصها من الوقوع في الاغتراب والجمعنة والهشاشة والعطوبية والبحث المستمر عن الطريق الملكي نحو التصالح مع الذات وتوفير الظروف الملائمة للاقتدار والفعل والصفح في حياة جيدة. كما نرنو الى الكف عن التعامل مع الآخر كصورة متخيلة واستكمال اللقاء الإيتيقي معه ومقابلته وجها لوجه.

1-ولادة الذات ضمن المقاربة الأنطولوجية

” “الذات هي ما يؤكدها كل شيء آخر، والتي لم يعد يؤكدها أي شيء آخر.” أرسطو

الموجود كائن عن انسان الى آخر ويقال بالذات أو بالعرض وما بالعرض يتغير وهو الموجود بالعرض، وما بذاته هو ما بنفسه ويقال على كل ماهو جوهر وعند الجمهور يقال الجوهر على الأشياء المادية وذلك لان جوهر الشيء ماهيته وهي اما مادته او صورته او هما معا وعند الفارابي يوجد الجوهر خارج المقولات8[8].

ما يلفت الانتباه في هذا التأسيس الأنطولوجي أن الفارابي لم يقم بإرجاع مفهوم الإنية الى الضمير المتكلم الفردي أنا بل الى وحرفي إن وأن وهما ” من الحروف التي تقرن بالشيء فتدل على أن ذلك الشيء ثابت الوجود وموثوق بصحته مثل قولنا إنّ مشددة النون. ومثال ذلك قولنا ان الله واحد وان العالم متناه. فلذلك ربما سمي وجود الشيء انيته ويسمى ذات الشيء وكذلك أيضا جوهر الشيء يسمى إنيته. فإنا كثيرا ما نستعمل قولنا إنية الشيء بدل قولنا جوهر الشيء، فنرى أنه لا فرق بين أن نقول ما جوهر الثوب وبين أن نقول ما انيته. لكن هذه ليست مشهورة مثل تلك عند الجمهور وأصحاب العلوم يستعملونها كثيرا. ومنها ما إذا قُرِن بالشيء دل على أنه قد نفي، مثل ليس الا. ومنها ما اذا قُرِن بالشيء دل على أنه قد أثبت مثل قولنا نعم.”9[9]

مفهوم الذات له عدة معان. في الاستعمال الشائع في لغة الحياة اليومية الذات هي ما يحمل عليه الخطاب والتفكير والأثر الذهني وبالتالي هي سبب الفعل والعقل المؤثر والمتأثر بالوجود. لكن مفهوم الذات في الفلسفة يتميز عن معنى اللغة اليومية: فهو يغطي قدرة الفرد على إدراك نفسه وهويته. انها الجوهر الذي يفكر في نفسه على انها موجودة بذاتها وحاملة لجمة الخصائص وكذلك هي المبدأ الموحد لكل التمثلات التي تنتجها بالتأليف بين التجربة والذهن. انها حقيقة ما هو (الشيء في ذاته في الفلسفة). الصورة التي لدينا عن فرديتنا (الأنا بالنسبة إلى الأنا). يتحقق الواقع الفردي من خلال الذات في اكتسابها درجة الكمال النفسي للنموذج الأصلي للذات. أخيرًا، الذات ككائن أسمى، المركز الأبدي للوعي مع الأسس الجوهرية والعضوية المشتركة في استمرارية الكائنات الحية.  لقد قرر العديد من الفلاسفة خاصة بول ريكور استخدام حرف كبير لتمييز المعنى الأساسي الذي تم استكشافه بشكل خاص في الفلسفة التأملية والذي يشير إلى تحقيق وحدة ذات ترتيب أعلى يتم دمج الذات الفردية والعالمية. الذات مع حرف S كبير (Soi تسمى أحيانًا “الذات الحقيقية” أو “الذات العليا” بالتمييز مع الأنا، أو “الذات” ذات الأحرف الصغيرة soi) ، بالمعنى الروحي للمصطلح وخاصة في التيارات  التي تعين الهوية الأولى والنهائية للوجود في الجانب الروحاني التأملي وتربطه بالانا المتعالي.

يأتي مفهوم الذات من الكلمة اللاتينية “subjectum” التي يشير معناها العام إلى حقيقة “إلقاء”، “وضع تحت”. يعلمنا معناها الأساسي أنها مصطلح نؤيد أو نرفض شيئًا ما، وفق مقترح. وبطريقة ميتافيزيقية، فإن الفاعل مرادف للجوهر. يكون دعمًا حقيقيًا للسمات أو الحوادث. وهو أيضًا العقل العارف في نظرية المعرفة. في الميتافيزيقيا، الذات هي الكائن الحقيقي الموهوب بجملة من الصفات البشرية مثل التعقل والكلام والذي ينتج عدد من الأفعال. … الذات هي في نفس الوقت أداة التفكير وموضوع الفكر والمعرفة، وتعمل على دعم بعض الحقائق الأخرى الراجعة اليها بالنظر (التصرف، والوعي، واليقظة والإدراك، والتحقق، وما إلى ذلك). وكذلك يشير مصطلح الذات الى الفرد الخاضع للسلطة السيادية في الحياة السياسية للمدينة المنظمة بالقوانين.

ومع ذلك، إذا كان هناك دليل للإنسان على الشعور بوجوده، فليس من المؤكد أنه يمكن للمرء أن يؤكد القدرة المطلقة للذات على أفكاره وأفعاله. لهذا مر إدراك الذات بثلاثة مراجل: كجوهر، كأنا، كبنية رمزية للفعل.

تبدو غرابة الآخرية بالنسبة للذات ناتجة عن المفارقة والتعالي والمثالية والعاقلية التي يتصف بها الجوهر الروحاني والخسة والتغير والفساد والمحسوسية التي يتصف بها الجسم المادي وأولوية الأولى على الثانية.

لكن إذا كانت الذات علامة على جوهرية الكائن البشري، فهل هي جوهر روحاني أم جوهر مادي؟

2- تحولات الذات ضمن المقاربة المعرفية

” ليس للكوجيتو من مدلول فلسفي قوي لو لم يكن وضعه قد سكنه طموح التأسيس الأخير والنهائي”10[10]

تأكيد الذات من خلال الكوجيتو تم عبر ما أسماه إدموند هوسرل “الأساس الديكارتي الأولي لفلسفة العصر الحديث بأكملها”. يريد الكوجيتو الديكارتي أن يكون أساسًا نهائيًا، بقايا شك جذري ناشئ عن استجواب المعرفة: الشخص الذي يشك في إجراء مسح شامل لجميع الآراء التي تلقاها حتى الآن في رصيده، ويستبعد من نفسه كل ما هو غير واضح ويقوم باقناع نفسه بأنه لم يحدث شيء على الإطلاق من أجل الوصول إلى أول يقين لا لبس فيه. سنصل إلى نهاية الشك عندما نكتشف “شيئًا مؤكدًا وصحيحًا”. على الرغم من فرضية الشيطان الماكر، فمن الصحيح مع ذلك أن المرء يشك، ويفكر، وبالتالي هو موجود. لذلك عبّر الكوجيتو عن الوعي الذاتي للذات المفكرة التي اكتشفت وجودها وجوهريتها في خضم الشك. ولقد أجاب ديكارت على السؤال: من أنا؟ بأنه الشيء الذي يفكر. الإيجابية الوحيدة التي لا تزال قائمة هي تلك الخاصة بـالأنا أكون” وتفسيراتها ولكي يتمكن ديكارت من الخروج من الانغماس في الأناوحدية، يستنجد بفرضية الله الصادق. يترتب عن ميتافيزيقا الذات الديكارتية تشكل نظرة آلية للجسم وجوهرية النفس مقابل التصور الأرسطي للصورة والمادة. فالروح هي جوهر أو طبيعة الكائن الحي وسببه النهائي، أي غرضه أو هدفه.

يبدو أن تحديد ماهية الانسان لم يختلف كثيرا عن تحديد ماهية الأشياء المادية ولذلك كان المطلب في الحالتين هو تحديد الطبيعة الصحيحة للشيء المادي أو الشخص الانساني والتي تجعله كما هو وتعطيه واقعه الأساسي. من جهة أخرى الذات عند شوبنهاور هي ما يعرف كل شيء آخر، دون أن تعرفه بنفسك. لكنها هي أساس العالم، الشرط الثابت للموجودات، والذي يمثل الضمني دائمًا لأي ظاهرة، لأي كائن؛ لأن كل شيء موجود فقط للذات. فهل الذات هي الذات العارفة التي ينتمي اليها كل شي بما هي ذات مسندة أم أنها الذات الفردية لشخص معين؟ هل هي الفرد الذي يقبع تحت سلطة صاحب السيادة في المجال السياسي أم الشخص صاحب الحقوق والذي توجد التزامات تجاهه في المجال الأخلاقي والحقوقي؟

ان هذا التحديد المتعالي للذات هو مفارق للمادة التي يحاول التشبه بها ويعمل على اقصاء الجسد والعالم والآخر. ويعتبر إنسان آخر شخصًا ينسج معه علاقة بيذاتية تتحدد وفق القيم التي تحكم الروابط الأخلاقية بين البشر. إذا كان مفهوم الأنا المتعالي هو جزء من الحركة التي قادت الفلسفة منذ ديكارت إلى جعل الأنا مفارقا للموجودات ووعي الذات نقطة البداية لكل الفكر وأساس كل معرفة معينة فإنه بالتوازي مع ذلك هذا الأنا المحايث التي يمكن تجربتها في الواقع الملموس بطرق مختلفة، يسميها كانط “الأنا التجريبية” وهذا مفهوم تمامًا لأن المصطلح التجريبي، يشير إلى التجربة، أي، شيء ما تتدخل فيه الحواس أو المشاعر في مستوى عملية إدراك الذات لذاتها. بهذا المعنى تكون الذات التجريبية هي المقابل للذات المتعالية. ولا يجب التعامل مع المتعالي على أنه الذات الحقيقية والذات التجريبية كظلها أو بقائها بل هي التجلي الفعلي للذات كماهي ضمن الزمان والمكان وموجودة في العالم بلحمها وعظمها ولذلك تعيش الذات التجريبية الموضوع النفسي لحالات وعينا في عالم التمثيلات11[11]. بفضل التأليفات الثلاثة (الادراك الذاتي في الحدس، وإعادة الانتاج في الخيال والمعرفة بالمفهوم)، يستطيع كانط تحديد تعريفه النقدي للذات المتعالية كشرط امكان التجربة وأن يعتبر ذلك ثورة حقيقية تتخطى ثنائية الأنا المتعالي والأنا التجريبي. ومنذ كانط، أصبح المفهوم هو نفس نشاط التركيب، نشاط الذات، ولم تعد الذات سوى نشاط التأليف بين المقولات الذهنية والانطباعات الحسية.

لقد تشكلت الأنثربولوجيا يوم جعلت من الجواب عن سؤال ما الانسان؟ المبحث الأول والأساسي في الفلسفة ولقد توزعت الى اتجاهين: الأول عقلاني نقدي أنزل الذات في التاريخ ضمن مسار جدلي للوعي بالذات يعيش صراع من اجل الاعتراف ضمن الطروف المادية المحيطة به والثاني اتجاه تجريبي حسي يكشف عن أهمية البعد الجسماني ويؤسس للكوجيطو الحسي ويقر بأن مقولة الذات العقلانية هي مجرد وهم لغوي أفرزته العادة.

لقد صارت الذات غريبة عن ذاتها في علاقتها بالمصدر الذي انحدرت منه والمبدأ التوجيهي في علاقاتها الاجتماعية والغاية من وجودها:

لقد هبطت من المحل الروحي الأرفع لكي تسجن داخل هذا الآخر الغريب الذي يمثل بمثابة القبر أو السجن.

لقد أضاعت طبيعتها لما استبدلت علاقة التوافق مع قوانين الطبيعة بعلاقة الصراع والهيمنة على ظواهرها.

لقد فقدت رسالتها في التعمير لما تخلت عن مشاعر التعاون والصداقة وتبنت نهج التزاحم والبغض والعداوة.

أما الآخرية فهي في موضع استهجان وازدراء واستبعاد من جهة الأصل والمبدأ والهدف:

لقد أدت محاربة المادية للمثالية والتجريبية للعقلانية الى التعامل مع البعد الروحاني على انه ناتج عن التوهم.

لقد نتج عن ارجاع الانسان الى البعد الطبيعي فيه تشكل نظرة اختزالية حتمية تنفي الحرية وترفض الغائية.

لقد ترتب عن ادماج الانسان في الحقل الاجتماعي بروز الجمعنة وضياع الفردنة واغتراب المرء عن حقيقته.

على هذا النحو توضع الآخرية في موضع الغرابة من ناحية الذات كمسرح للأوهام على الصعيد النفسي والرمزي والديني ومن ناحية الطبيعة التي تختزل الذات الى الموضوع وتتعامل مع الكائن البشري كشيء ومن جهة ثالثة من ناحية المجتمع الذي يكرس تبعية الافراد للكل واغتراب الذات عن تميزها ومشروعها.

ولكن كيف تنقسم الذات بشكل دائم وتفقد الشفافية والوضوح والتميز الذي منحته اياها الميتافيزيقيا الكلاسيكية؟

3-مخاطر الموضعة وأشكال الاغتراب:

” ان فلسفة الذات قد تجاهلت تماما الحديث عن الوسيط اللغوي الذي يحمل حججها حول الانا موجود والانا أفكر”12[12]

إن وجود الذات والذاتية يمثلان إشكالية بحد ذاتها. اذ يمكن للمرء أن يتساءل كيف يمكن لذات تشكل جزءًا من الكون أن تفحص “بموضوعية” نفسها أو جزءًا من هذا الكون الذي توجد فيه؟ للقيام بذلك، ألا يجب عليها أن تجرد نفسها من الكون – ومن نفسها – من أجل الحصول على وجهة نظر موضوعية؟ وهل هذا الأمر ممكن؟

من وجهة نظر أنطولوجية، الموضوعية objectivité هي ما يميز الشيء، على عكس ما يميز الذات. من وجهة نظر أخلاقية، ترتبط موضوعية الذات بكل من الاعتبارات المعرفية والأخلاقية. يتم التعبير عنها عمومًا بوصفها الحياد أو عدم المبالاة أو عدم ثبت الهوية الشخصية. يتعلق الأمر بأخذ مسافة من الموضوع تجاه نفسه للاقتراب من الموضوع، والاعتراف بأن الموضوعية والذاتية متنافيان. من المفترض أن يتخلى الفرد الموضوعي عند إصدار حكمه عن كل ما هو مناسب له (أفكار أو معتقدات أو تفضيلات شخصية) لتحقيق نوع من الكونية. في الفلسفة والعلوم، المقاربة الموضوعية بصفة عامة هي “صفة ما يتوافق مع الواقع، للحكم الذي يصف الحقائق بدقة.” يمكن أن تميز، كائنًا كشيء، معرفة أو تمثيل كائن، وأخيراً موضوع هذه المعرفة أو التمثيل. الموضوعية هي وصف الشيء الذي يسعى الشخص من أجله إلى تنحية أحكامه القيمية جانبًا.

أما العمل على الموضعة objectivationهو جعل الذات فكرة موضوعية، وصنع ادراكات، وتحويل الأحاسيس إلى موضوع بتوفير وجود ملموس لها. وبالنسبة لشوبنهاور كاتب العالم كإرادة وكتمثيل، فإن الموضعة هي العملية التي يحول بها الوعي انطباعاته الذاتية وأحاسيسه إلى أشياء خارجية.  اما موضعة الذاتي من خلال التصوير فهو أساس تاريخ الفن كعلم جمالي تجريبي. في علم النفس، أخذ الذات أوهامها على أنها حقائق صحيحة ووقائع حية وأن تصبح موضوعيًا للمعرفة. وفي علم الاجتماع يتم التركيز على الموضعة باعتباره مصدر إنجازات يتم تحصيلها من النشاط البشري حينما يحول الانسان نفسه الى موضوع للدراسة ويقوم بتعزيز هذه الإنجازات. في مجال جاذبية أخرى، مجال موضعة المطلق في الأشكال البشرية حيث يصبح مختلفًا، حيث ينفر من نفسه ويصبح غريبا عنها. في هذه المرحلة سوف نتخلى عن مناقشة مفهوم الاغتراب ولم يعد يندرج في نطاق الشيء. إن موضعة المشاعر حسب هيجل لها تأثير على إزالة شدتها وجعلها خارجية بالنسبة لنا، غريبة إلى حد ما عنا. فهل يكون الإيثار أول بوابة تفتحها الذات المغلقة في اتجاه الوجود مع الذوات الأخرى؟

بشكل عام، يصف مصطلح الإيثار altruisme موقفًا أخلاقيًا ملموسًا، والذي يتجاوز أي خوف وحتى أي معيار، ويميز الآخرين. يظهر الإيثار فيض من الحب الطبيعي، والحساب والقلق للحفاظ على الذات، والرغبة المرغوبة التي تقود بجنون نحو الآخرين. ما نلاحظه أنه هناك نوع من الهالة المحيطة بمصطلح الإيثار وهو نوع من الشعور بالشفقة تجاه الاخر والرغبة في الاهتمام بالآخرين والاهتمام بهم (على عكس الأنانية).

اللافت للنظر أن الآخرية في هذا المستوى من التفكير في إشكالية المبحث لا تقتصر على أفكار معرفة الغير استكشافه وغزوه وترويضه وأنسنته وتمدينه لا على وجود الغيرية من عدمها وانما يزيد عن ذلك الى مستوى العلاقة مع الآخر والانتقال من العلاقة التسلطية والاقصائية الى العلاقة الايتيقية المبنية على تبادل الاحترام والضيافة والصداقة والاعتراف المتكامل والمشترك بين الأفراد والذوات وبين الحيوانية والإنسانية.

ان الإطار المرجعي للآخر المتعالي هو معالجة هذا السؤال: “كيف يمكنني أن أكون نفسي من بين الآخرين، كيف يمكنني أن أكون نفسي وأفهم الآخرين، كيف يمكنني أن أكون أنا، أي الآخر من جميع الآخرين؟

إذا عدنا الى التفكير الفلسفي حول الذات عند عمانويل كانط نجده يقوم بالتركيب بين شكل المعرفة القبلي ومضمونها الحسي وفقًا لوساطة الخيال المتعالي. لا شيء يمكن معرفته عن هذه الذات، لأنها شرط من المعرفة وليست موضوعًا. إن الوعي المحض، الذي يعتبر كل ما هو موجود له موضوعًا، هو الأساس لتأسيس وتشكيل كل معرفة. إن الذات هي التي تأتي إلى الوعي عندما يعبر المرء عن أفكاره باللغة، الذات التي يكون كيانها فعلًا خالصًا. لكن نظرية الهوية من وجهة نظر مادية حديثة تؤكد أن العقل والمادة، مهما كانا قابلين للتمييز المنطقي، هما في الواقع ولكنهما تعبيران مختلفان عن حقيقة واحدة مادية. كما يتم التركيز بشدة على التحقق التجريبي من عبارات مثل: “الفكر قابل للاختزال إلى الحركة في الدماغ.”  ان نظرية الجانب المزدوج مشابهة لهذا، مع استثناء واحد ملحوظ: الواقع ليس ماديًا. هو إما عقلي أو محايد. لكن لماذا يؤدي هذا التصور الفلسفي الى الوقوع في معاملة الذات كشيء؟ وما الفرق بين التموضع والتشيئ والموضعة والشيئية؟

تعرف الشيئية على أنها الانتقال من حالة البيانات الداخلية إلى حالة الواقع الخارجي المقابل، والتي تكون عرضة للدراسة الموضوعية. أما التموضع فهو صفة الحقيقة العلمية ومعنى هذه الكلمة، مشتق من تلك الموجودة في نظرية المعرفة، حيث تمثل صفة الحقيقة العلمية: التموضع تفسير حقيقي، قابل للتعميم. في الفنومينولوجيا ، يتوافق التموضع مع التحويل ، من خلال اللغة ، للتجربة المعاشة إلى ما فوق الفرد ، يمكن نقلها كونيًا. لكن كيف يمكن وصف تجربة معيشية للذات دون الوقوع فورًا في افراغها من مضامينا الحية؟

الاحترام respect هو الحل الكانطي الأول للخروج من انغلاق الأنا والتوجه نحو الأخر وهو الشعور بأن هذا يؤدي إلى منح شخص ما الاعتبار بسبب القيمة التي ندركها ومراعاة حقوق ومصالح الآخرين. إن احترام الآخرين يعني أيضًا منحهم وضع “الشخص”، بمعنى أن مفهوم “الشخص” ذو طبيعة قانونية وأخلاقية: موضوع القانون، يعتبر “الشخص” أيضًا يتمتع بالوعي والعقل. الاحترام يغذي الإحسان تجاه الجميع وكل شيء، بغض النظر عن الوقت أو المزاج أو المكان أو الفرد أو الشيء. يشجع على عدم إيذاء أي شخص وأي شيء. … في عالم خالٍ من الاحترام، يسود العداء وانعدام الأمن بشكل دائم. سيكون من الفوضى. لفهم أنه يتعين علينا احترام الآخرين، علينا أن نراهم على أنهم أنفسنا. من ناحية ثانية ألا ينفصل الجدل الفلسفي حول الآخرية عن أولوية الوعي وعملية التموضع: اذ كيف نفسر وجود وعي آخر، في ظل قيام الأنا بمواجهته؟ هل يمكن أن يكون التعاطف sympathie هو التجربة النفسية للشعور بالآخر؟

إحساس التعاطف هو تشابه المشاعر (بين شخصين أو أكثر) ويسمح ببناء العلاقات بين الأشخاص الذين لديهم صلات، يتفقون مثل بعضهم البعض ويشير الى التلاقيentente والمقابلة rencontre وهناك اختلاف بين التعاطف الوجداني empathie والتعطاف، فالعملية الأولى هي القدرة على فهم مشاعر الآخرين بدقة مع الحفاظ على مسافة عاطفية من الآخر، بينما تتضمن الثانية مشاركة المشاعر وإقامة روابط عاطفية.

لقد اتجه ماكس شيلر نحو الاعتراف بتجربة الآخرين بما أن الفلسفة المثالية لا تزال أسيرة للتمثيل والإدراك، فإن طريقة الوصول إلى وجود الآخرين، إلى الذات التبادلية، لن يتم العثور عليها في جانب الشعور بالغير، والتقمص العاطفي، التي تربط الكائنات في هذا الجانب من الذات. ازدواجية الكائن، بقدر ما تضع مباشرة “في وجود …” دون وسيط التمثيل؟ كان هذا هو المسار الذي سلكه ماكس شيلر من خلال تفضيل التعاطف أو الإدراك أو حتى الفهم العاطفي لمشاعر الآخرين، مما يترك الفرق بين ما يشعر به الآخرون وما أشعر به عند رؤية أحزانهم أو أفراحهم. لكن لماذا نتميز التعاطف، بدلاً من الكراهية أو الغضب، بين جميع العواطف البشرية؟ ألا يعني هذا إغفال لحظة السلبية المكونة للعلاقات بين البشر مثل جدلية السيد والعبد في هيجل أو الصراع الطبقي في ماركس؟ بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من الفروق الدقيقة التي قدمها ماكس شيلر بين المشاركة المباشرة للفرح أو المعاناة للآخرين، والعدوى العاطفية، والاندماج العاطفي، والتفاهم العاطفي، ومع ذلك، هناك مشكلة تجنب أن التعاطف لا يضيع في الآخرين، لا استيعابهم، تمامًا كما ميّز هايدجر بين الرعاية المنشغلة التي تُخضع الآخر، والعناية الأكثر صدقًا التي، من خلال السماح للآخرين بذلك، ستحررهم.  لكن هذا الحد من التعاطف الوجداني، اكتشف كانط من جانبه في فكرة الاحترام، وهي فكرة تنبثق من خلالها تجربة الآخرين. يصل الذات إلى جودة الذات المتعالية بمجرد أن يُظهر إرادته للتغلب على رغباتها والامتثال للواجب الأخلاقي في حد ذاته. من المعلوم أن هيجل قد تناول، في التحليل الشهير للصراع حتى الموت من أجل الاعتراف، هذا الاعتماد على الذاتية والذاتية البينية.  بالنسبة له، كل شيء يبدأ بالرغبة، وهي طريقة لإنكار العالم وهدفها الحقيقي هو تأكيد الوعي. تؤكد الذاتية نفسها بالقدر الذي ترغب فيه في ذاتية أخرى، أي رغبة أخرى، وعيًا آخر تريد السيطرة عليه. لكن هذا الوعي الآخر، الآخر، هو أيضًا نفي لوعائي لأنه يريدني أيضًا ويريد أن يخضعني. وبالتالي، فإن الاعتراف بالذات يتطلب الاعتراف بالآخر، وبالتالي الاعتراف بالآخر. بالنسبة لكل وعي، فإن الآخر هو بالتالي نفي الذات ويتم التعبير عن هذا النفي في صراع حتى الموت. بالموافقة على أن يصبح عبدًا من أجل الحفاظ على حياته، يتعرف أحد هذين الوعيين على الآخر على أنه سيد. لكن السيد يصبح عبدًا لعبده لأنه يعتمد عليه. هكذا يكون العبد هو السيد الحقيقي للسيد. فقط من خلال إنكار نفي الآخر، يتعرف كل فرد على نفسه حقًا على حقيقته: الوعي بالذات. الوعي بالذات هو وعي بالذات فقط لأنه يقبل أن يكون وعيًا ذاتيًا لإدراك ذاتي آخر (المعاملة بالمثل الحقيقية)، وهكذا، فإن الذات تتظاهر بالوعي فقط في تجربة الآخر: في المواجهة (هيجل، سارتر)، الحوار (مرلوبونتي)، والنظرة (ليفيناس) للذات التي تدرك ذاتًا أخري مثل موضوع آخر. لكن كيف يساعدنا الموقف الفنومينولوجي على تحريك مسألة الذاتية في المجال البيني العلائقي؟

4- التذاوت ضمن المقاربة الفنومينولوجية

” “الذاتية المتعالية هي ذاتية مكشوفة، معرفة لنفسها وللآخرين، وعلى هذا النحو، فهي بيذاتية”13[13].

من الصعب فهم علاقة الأنا بالآخرين والاعتراف بها كآخر غير الذات نظرًا لأن ذاتية الذات معززة في الفلسفة الحديثة.  منذ ديكارت، كانت الفلسفة الذات تشكل نقطة البداية لكل فكر وأساس دائم كل معرفة معينة.

بيد أن الفنومينولوجيا قامت بتعديل الكوجيتو الديكارتي وفق مفاهيم القصدية والبيذاتية والمعنى والوجود معا.

فالقصدية intentionnalité عند هوسرل مثلا هي “إعادة بناء” الآخر وفي كتابه “تأملات ديكارتية” (1929)، سوف يشكك هوسرل في تفسير الكوجيتو كشيء مفكر، هذا الجوهر للأنا المتعالية هو في عينيه أسوأ العثرات. لتكوين الفلسفة كعلم صارم، ولإيجاد أساس أعمق من أساس المثل الأعلى الهندسي الديكارتي، يطبق هوسرل “طريقة شاملة وجذرية” يسميها الاختزال المتعالي الذي، حتى لو كان مستوحى من الابوخيا أو تعليق الحكم، سيسمح بالوصول إلى أساس أكثر راديكالية من الأنا cogito، أي ضمان للأنا المطلقة المتعالية على عكس الشك الديكارتي، فإن الاختزال لا ينفي العالم المنبوذ من الوعي، ولا يقضي عليه بأي حال من الأحوال بل يجبره على الخضوع لتعديل القيمة. هكذا يتم دمج العالم حسب هوسرل في الأنا باعتباره ارتباطًا مقصودًا: “الأشياء غير موجودة بالنسبة لنا وهي ما هي فقط ككائنات للوعي الحقيقي أو الممكن” (التأمل الديكارتي، 4، الفقرة 30). الوعي هو دائمًا وعي بشيء ما، حركة تبادل دائم مع العالم، حامل لمنطقه في ذاته. على هذا النحو تكون القصدية إذن هي الطريقة التي ينفصل بها هوسرل عن المعارضة الديكارتية للذات والموضوع، حيث كان الأخير مجرد تمثيل عقلي بسيط. الفعل المتعمد، من خلال تكوين الهدف الموجه إليه، الهدف، أي يسمح لي بمعرفته من خلال الوصول إليه هو نفسه، وليس مجرد تمثيله في ذهني: بالنسبة لهوسرل ، على عكس كانط ، فإن الحدس ليس سلبيًا تمامًا ولكنه يجعل من الممكن الوصول إلى أي شيء بفضل موضوع يعطي معنى. تبقى الحقيقة، كما في ديكارت، أن الأنا هي التي تشكل الأساس المتعالي والوعي المنعزل في نقاوته، ويظهر كبقايا العصر. أما البيذاتية intersubjectivité فهي مفهوم فلسفي طوره لأول مرة إيمانويل كانط في نقد ملكة الحكم. وتعبر عما هو مشترك بين الجميع والذي يربط الأفراد معًا من خلال السماح لهم بالتشابه مع بعضهم البعض بما يكفي للفهم والتبادل (مثل الوعي واللغة والمشاعر). أي نظرية للمعرفة الواعية بواجباتها يجب أن تدمج حقيقة “البيذاتية المشتركة” التي تتكون من شبكة من وجهات النظر المتبادلة التي يتم فيها دمج وعي كل عضو؛ لدينا ما يعادل، على المستوى التجريبي، هذه الذاتية البينية الجوهرية للوعي المتعالي الذي اكتشفه هوسرل لتعيين وجود مجموعة أشخاص يتواصلون مع بعضهم ويتشاركون في عالم مشترك، حاضر لوعي كل منهم. في هذه النقطة، نريد أن نفهم مفهوم الذاتية عند هوسرل. لن يكون تحديد المفهوم التقليدي بالضرورة إلزاميًا هنا. نحن نتصور بالفعل إعادة بناء وصفية لـ “الذاتية” عند هوسرل على أساس الملاحظات المتعلقة بها، ومن المعلوم أن الذاتية هي فئة فلسفية تحدد الانتماء لشيء أو إجراء إلى موضوع أو “نوعية الذات باعتبارها الجسد الأنطولوجي أو المعرفي أو الأخلاقي “. هذا التعريف أكثر شمولاً ويتضمن بشكل واضح فكرة القصدية المتعددة، وهي فكرة من المحتمل أن تميز الذاتية عند هوسرل. إن العلاقة التقليدية بين الذات والموضوع متضمنة عند هوسرل في البنية الكاملة للقصدية، وأن بنية القصدية هذه تشكل جوهر ذاتية الوعي، حيث أن ذاتية الوعي هي علاقة مقصودة بالموضوع. عند هوسرل ، بالنسبة للبيذاتية الداخلية ، فإن الأمر يتعلق بتوضيح علاقة الوعي ، ومن ناحية هيدجر ، “لم يعد الآخر يعتبر موضوعًا للتجربة ، ولكن كبعد مسبق لمعنى الوجود الإنساني. لم يعد اللقاء مع الآخرين ضمن إطار علاقة بين الذات-والموضوع بل في بعد أعمق أكثر جوهرية “. عند هوسرل ، “لا تتجاوز الأنا الأحادية نفسها حقًا إلا من خلال تكوين” الآخرين. بعد ذلك يشير موريس مرلوبونتي في فنومينولوجيا الادراك الحسي13[14] بالبيذاتية الى البيشخصية، يتم اعتبار كل شخص من وجهة نظر شخصيته ويعتبر البيذاتية المتعالية هي ذاتية مكشوفة لنفسها وللآخرين، وبالتالي ينادي بيذاتية مفتوحة تتغذى من التشابك بين التوجهات والتصالب بين الافاق. اما بول ريكور في فلسفة الإرادة 15[15] فيتحدث عن البيثاقفية ويعتبر ماهية البيذاتية تحويلا للعلاقة غير مستقرة بين السيد والعبد الى علاقة فيها الكثير من الاجتماع والتشارك والتبادل والتكامل والتفاعل والتجادل. لكي تظهر مشكلة البيذاتية، يجب على الفرد أن يعرّف نفسه كذات محضة، أي “كداخلية خالصة، ونشاط نقي وكحرية في كل معرفة وكل عطاء ذات معنى للعالم وكل مؤسسة بشرية، بقدر ما هي وعي؛ ولكن هذه الذات يجب ألا تكون وحيدة في العالم؛ يجب أن يوجد الآخر مثل الوعي الآخر، “أي الأنا التي ليست أنا” (سارتر). من البديهي أن تجعل البيذاتية العلاقة مع الآخرين هي الأساس في التواصل وبناء العلاقات بين الفرد والمجتمع لأن الفرد ليس وحيدًا أبدًا (حالة الطبيعة، حالة العزلة الكاملة، هي تجريد). بالنسبة لفلاسفة البيذاتية (مرلوبونتي، سارتر، ليفيناس، ريكور…) فإن الآخر، مهما كانت درجة غرابته، موجود دائمًا بالفعل والعلاقة مع الآخر أساسية وضرورية للوجود الانساني. لا توجد معرفة، ولا حتى معرفة الذات، تتطور بشكل مستقل عن العلاقة مع الآخرين.” فهل نفكر كثيرًا ونفكر جيدًا إذا لم نفكر بصورة مشتركة مع الآخرين، الذين يشاركوننا أفكارهم والذين نبلغهم؟ ”

إن مسألة البيذاتية، أو الغيرية في الفينومينولوجيا ، هي أولاً وقبل كل شيء تجربة الإنسان ، التي لا تتعلق بكائن منعزل ، بل تتعلق بالكائن فيما يتعلق بالآخرين. يختلف عمانويل ليفيناس عنها في أنه يصف اللقاء مع الآخرين بأنه “تدخّل” وليس تكوينا، وأن هذا التطفل هو الذي يفتحنا على العالم المشترك. كما يشير في بحثه عن الآخرية، “المعاملة بالمثل بينك وبينك لا يمكن تصورها في ميتافيزيقيا الذاتية، لأن الآخر يأتي دائمًا بمعنى بعد موضع الذات إنه فيما يتعلق بالتأمل الخامس لهوسرل وليس علاقته بهيدجر، يجد فكر ليفيناس دوافعه التأسيسية “. اللافت للنظر أن البيذاتية تطرح منزلة الجسد في العلاقة مع الغير إنها بالفعل تجربة لأن ما هو محل تساؤل هو الأنا المتجسدة وتغيير الذات، “التي يتم تقديمها في الاقتران الأصلي، لأن جسد الآخر وجسدي مشفران مسبقًا بالضرورة”. جسد الآخر لا يعطي نفسه فقط كجسم – بل كجسم حساس، كجسم حي، وهذا يعني أنه “عرض” لقطب آخر يمكن أن يتشكل العالم منه. يتم الحديث عن التشابه والتشابه بين الجسد الآخر و “جسدنا”. من ناحية أخرى يمكن التحدث عن “جسد” يجعل من الممكن أن يفيض به الآخرون، لأنه في الأصل يتعلق “بجسد” آخر. لقد فكر هيدجر في الوجود بالقرب من… هذا الخط الفاصل بين ما هو مناسب لي وما هو أجنبي، والذي وجده هوسرل في التجربة الحية من جسدي، سيكون بالنسبة لمارتن هيدجر “الموت”. يتحدى هيدجر أدلة الكوجيتو والبيانات الفورية للذات، باسم أنطولوجيا الوجود على أنها خفية ومتعالية. للوصول إلى معرفة الكائن الذي يؤسس للكينونة البشرية (“الوجود هناك”)، سيكون من الضروري إجراء تحليل للزمان وتفاهة الحياة اليومية. تبعا لذلك يجب تحديد الكوجيتو الخاص بديكارت على نحو عميق، وتحليلات الزمان تجعل الدازاين يظهر على أنه كائن من أجل الموت. ولكن، لتأكيد هوية الكينونة والزمنية وتحديد وجود الإنسان على أنه كائن من أجل الموت، لا يعني هذا عدم الكشف عن هوية وجود الأشياء والاشخاص، فإن حنة أرندت16[16] ستعاتبه، التي من ناحية أخرى ستجعل “الولادة” وبالتالي الوجود من أجل الحياة والفعل أحد المفاهيم الأساسية لفلسفتها. علاوة على ذلك، فإن تحديد الوجود على أنه قلق، وهو وجود مهدد دائمًا بالموت يعني أنه ليس “في المنزل” في العالم، وأنه لا يمكن أن يكون إلا في الموت، والذي يصبح بالتالي مبدأ التفرد المطلق، مطروحًا من الدازاين. والنتيجة هي فصل جذري للذات، بين الانتماء إلى “الواحد”، وموت الآخرين غير المعروف وغير المتوقع والمباغت.  كما تظهر تحليل الحياة اليومية، من جانبها، أن اللقاء مع الآخر حسب هيدجر لا يحدث أبدًا إلا على خلفية عالم العمل، عالم الانشغال وعدم الأصالة، عالم الانحطاط. ولكن إذا تم تعريف الدازاين على أنه “يتم طرحه” اللقاء بالآخرين في المجتمع، فيكون قريبًا من الوجود مع المجتمع مما يدعمه ويوجهه حتى يتمكن أخيرًا من الوصول إلى كيانه الخاص. بعد ذلك انتبه سارتر الى أهمية الوعي من أجل الغير conscience pour autrui ومقابل مذاهب الذات المتعالية، يتم تقديم الوجود والعدم (1943) على أنه أنطولوجيا فينومينولوجية حيث سيحاول سارتر للآخرين ما حاوله ديكارت من أجل الله. إن فرضية هوسرل عن الأنا، النقطة المحورية لأفعال الوعي، يتم تحديها هنا باعتبارها عديمة الفائدة. من المفترض أن يُظهر مثال العار أنه من المستحيل الهروب من الانغماس إذا رأى المرء الأنا والآخر كمادتين منفصلتين. عندما أقوم بإيماءة محرجة أو مبتذلة، فإن هذه الإيماءة تلتصق بي دون أن أحكم عليها، فأنا راضٍ عن تنفيذها في وضع الذات. لكن بمجرد أن يراني الآخر، أدركت ابتذال إيماءتي وأشعر بالخجل منها. النظرة التي يحملها الآخر إليّ كشيء تدعوني إلى إصدار حكم على نفسي. من خلال النظرة التي يضعها الآخرون عليّ، يكشف لي لنفسي كشيء، ويمنحني إمكانية الوصول إلى التعرف على نفسي كأنا. كوني هو أن يُرى: “أنا بحاجة إلى أن يفهم الآخرون تمامًا جميع هياكل كوني، فالذات تشير إلى للآخرين”. ومع ذلك، فإن بنية اللقاء مع الآخرين ليست معرفة ولا تكوينا، بل هي فاعلة، عرضية، والأنا تكمن “في الخارج”، في العالم، تمامًا مثل الآخرين. على نفس المنوال، ينكرني الآخر في كوني من الظهور الواعي المحض، ويجمدني في الموضوع. لذلك فإن هذه النظرة هي عنف، كل شيء يحدث كما لو أن الآخرين يسرقونني من ذاتيتي، من خلال المجيء للعيش في داخلي، لإزاحة نفسي من نفسي. في نفس الوقت، يهرب الآخر مني منذ أن التقيت به بقدر ما هو غير موجود بالنسبة لي، ولكنه موجود بالنسبة له كحرية خالصة. لذلك لا يمكن وضع وجود الآخرين إلا تحت علامة الصراع. من المعلوم أن “الآخر، في الواقع، هو الآخر، أي أنا الذي ليس أنا وأنني لست كذلك. هذا لا يشير إلى العدم كعنصر فصل بيني وبين الآخرين.   من جهة أخرى بحث عمانويل ليفيناس في وجه الغير والغير من حيث هو وجه. بالمقارنة مع الإشكالية الكلاسيكية للعلاقة بين الأنا والأخر ضمن فلسفة الذات المتعالية، يدير ليفيناس انقلابًا جذريًا في العلاقة: فهو يضع أولوية السيد من حيث هو آخر. فقط الآخرين يعلمون، فقط كلمة السيد تعلم.”17[17]

كل محاولات “الفلسفة الغربية” للتفكير في الآخر بدءًا من الأنا ستشهد في الواقع لإيمانويل ليفيناس على “الحساسية التي لا يمكن التغلب عليها”، والرعب المستوحى من الآخر “الذي يبقى الآخر”. من خلال اختزال “الأجنبي” إلى موضوع أو ذات غير قادرة على تركه في حالة تفرده، فإن هذه الفلسفة تحكم على نفسها بفلسفة الوحدانية، والتجريد و”النرجسية”، ويثير ليفيناس حقيقة لائحة اتهام ضد أي نموذج نظري لتشييء الآخر. تفتقر القصدية إلى الآخر على هذا النحو، لأنها تختزله إلى مرتبة الكائن أو تخضع له إلى الوجود، على الرغم من التحويل القياسي الذي أجراه هوسرل في التأمل الخامس. تؤكد فلسفة التمثيل سيطرتها على الآخر، من خلال التأكيد على سيادة الشيء نفسه: “كل فلسفة هي علم الأنا” والخطاب الفلسفي هو خطاب أبولوجي.    لكن كيف يبحث ميشيل فوكو في المسألة من زاوية نسابية حيوية؟

5- التذويت ضمن المقاربة الأركيولوجية

” ان قيمة الضمير بكل الصيغ هي التي حافظنا عليها بدورها حين استعملنا تعبير الذات في وظيفة المضاف اليه انهمام بالذات (او ان يهتم المرء بذاته) بحسب العنوان الرائع لكتاب ميشيل فوكو”18[18]

من أين نشأت مسألة التذويت السياسي، كما تبدو حاسمة في فترة ما بعد 1968 وحاسمة لإرث الماركسية؟

لا شك في أنها إشكالية مزدوجة: إشكالية التذويت السياسي كرهان سياسي، ولكن أيضًا إشكالية السياسة من حيث هي تذويت . كان هذا التساؤل المزدوج يميز بعمق، في السبعينيات، فلسفة دولوز وغتاري ، وكذلك فوكو.  في نهاية الستينيات، نشأت مسألة التذويت السياسي في الجمع بين مستويين: مستوى تاريخ الفلسفة أو تاريخ الممارسات المفاهيمية والافكار، الذي يرى نموذج الذات والذاتية الحديثة يصل إلى استنفاده ويميل إلى إبعاده عن مسيرة الأيديولوجيات وإنهاء الأوهام الإنسانية. إن تحويل الأسئلة الفنومينولوجية إلى أسئلة معرفية يقلل من الذاتية إلى عمليات ذاتية مؤقتة وطارئة. المستوى الثاني هو مستوى السياسة والواقع التاريخي. ولكن على هذا المستوى، فإن ما يميز دولوز وغوتاري كما عند فوكو هو، على العكس من ذلك، اهتمامهم الشديد بالحركات السياسية التي تضع الذاتية في قلب الصراعات الملموسة. لا شك أن الحكم الذاتي هو انفجار الذاتية بما هي قفزة من السياسة إلى الذات: هكذا نقرأ أحداث الستينيات التي كانت تدور حول حدث، 1968-1969.

عودة للذات؟ – غالبًا ما وُضِع بحث فوكو الأخير تحت علامة عودة التوقير للذات والتذويت، بعد الإعلانات القطعية في الستينيات التي أعلنت القضاء عليها نهائيًا. هل يجب أن يُنظر إلى هذا على أنه تحول مفاجئ، تناقض في العمل؟ صحيح أن دراسات فوكو الأخيرة كانت مدهشة بالفعل بإطارها المرجعي التاريخي: العصور القديمة اليونانية الرومانية. جميع الأعمال السابقة، من تاريخ الجنون إلى المراقبة والمعاقبة، اقتصرت على العالم الغربي، من عصر النهضة إلى القرن التاسع عشر. أوضح فوكو ذلك في ورقة تفسيرية صغيرة رافقت تسليم كتابه “تاريخ الجنسانية”: العودة ليس فقط إلى بدايات التقليد المسيحي، ولكن إلى الفلسفة القديمة. “في محاضراته في المعهد الفرنسي (لا سيما في 1970 و1978 و1980)، كان فوكو قد أشار بالفعل بشكل مكثف إلى العصور القديمة اليونانية (دراسة القانون اليوناني، حكومة المدينة، ملك أوديب). لذلك فإن المفاجأة لا تأتي فقط من اختيار الفترات المدروسة. كل هذه الدراسات الجدية يبدو أنها وجدت فجأة انجذابها الطبيعي حول فكرة الذات. في قراءة بأثر رجعي لعمله الأركيولوجي، وضع فوكو الذات في قلب جميع تحقيقاته. كما يقود فوكو تحليل تكوين الذات كذات أيتيقية ، لعمل الذات على الذات التي يسميها تذويتا ،ويقوم بإدراج نفس التأمل في الذات الإنسانية. إذاً وبالفعل يجب أن ننظر في كتبه المتأخرة عن الإجابات الأولى على الأسئلة التالية: كيف يمكننا أن نقول الحقيقة حول الذات المريضة؟ وبأي تكلفة يمكن أن نضع إشكالية ونحلل ما هي ذات المتكلمة، والذات الفاعلة، والذات الحية؟ وكيف تقول الحقيقة عن نفسك كذات جنائية ومذنبة تستحق العقاب؟ وكيف يمكن للذات أن تتحدث بشكل صحيح عن نفسها كموضوع للرغبة والرهبة؟ وإذا كان هذا الامر يتطلب من فوكو فحص تكوين الذات؛ فكيف يمكننا اليوم أن نمنح ايتيقا رعاية الذات هذه للتفكير السياسي الحيوي؟ إذا لم تكن السلطة قدرة تفرض نفسها على الذات وتشكلها، لكنها علاقة بين الذوات التي تخضع نفسها، فما هي العقلانية السياسية التي يمكن أن تفسر هذه الأنماط من القهر؟ أو مرة أخرى، ما هي السياسة التي يمكن أن تستوعب ذاتًا حرة، وتتصرف على نفسها وتتحكم في نفسها؟

تعمل السلطة حسب ميشيل فوكو على تقديم مفهوم الجهاز ومفاهيم الموضعة والتذويت وتحلل نظرية الجهاز والمفاهيم ذات الصلة باستخداماته، بما في ذلك التفكير في الاستهلاك ويطور تفكيرًا للطريقة التي تمارس بها أجهزة السوق وظائف التحديد، ولكن أيضًا إمكانيات الوكالة والاستقلالية من خلال إنشاء ذوات جديدة.

التذويت هو النسق الفلسفي الذي يعيد الوجود إلى الفكرة والذي يعتبر الذات الأخلاقية مطلقة. من ناحية أخرى، فإن التذويت هو عملية خضوع غير محتملة يمكن من خلالها للفرد (أو مجموعة أو حتى طبقة) أحيانًا أن يشغل أماكن أخرى غير تلك التي تم تخصيصها له اجتماعيًا ومؤسسيًا. و غالبًا ما يتم تقديم الذات، في عملية التذويت ، كعمل نفسي ، مميز بشكل خاص في مرحلة المراهقة ، متميزًا عن التغييرات المحددة للأنا. يشير منهجه إلى تنظيرات متناقضة للغاية، ومعظمها حديث. ويسعى فوكو إلى ربط هذه الفكرة ببعض المفاهيم المركزية الأخرى مثل “القوة” و”المعرفة” لدراسة كيف يعمل فكره على كسر التأمل المعاصر في الذاتية. لقد انفتح علم الاجتماع مؤخرًا على مفهوم “الذات”، وحتى مؤخرًا، على مشروع النظر في جانبه المظلم والمفكك والتفكيك الذاتي. يجب علينا الآن أن نتخذ خطوة أخرى، ونأخذ في الاعتبار عمليات التذويت ونزع التذويت التي من خلالها يتم تشكيل وتحويل الذات وجانبه المظلم، ضد الذات. من هناك، من الممكن تحليل ظاهرة تسليط الضوء على الذكريات في الفضاء العام من زاوية جديدة وهي بالتحديد تلك الخاصة بمنطق الذاتية وعدم التعرّف على الذات التي يتم عرضها في الفضاء العام، أو الإبقاء عليها مدفونة في صمت الضمير.

إن نقد الذات الموحدة والمستقلة للفلسفة الكلاسيكية لم يسلم من نظريات الذات السياسية. إذا كانت أطروحة ذات “مجزأة” أو “محظورة” كما حكى عنها البنيوي (جاك لاكان) لا تتوافق مع الإجماع، فإن منظري التذويت السياسي مثل فوكو يصرون جميعًا على استحالة “إعادة جوهرية” الذات عن طريق السياسة؛ وبهذا المعنى، فإن “الذات السياسية” ليست سوى مصفوفة تجعل من الممكن تنظيم العلاقات مع الذات أو أشكال التفكيرية أو التجريبية التي لا تسمح أي هوية مستقرة بتضمينها بطريقة غير دائمة وغير ضرورية.

الذات السياسية مفهوم غريب. إذا عرفناها كإنتاج “ذاتية سياسية” في تكوين اجتماعي وتاريخي ملموس، فإن المفهوم يظل مبهمًا. ما هي الذاتية السياسية؟ انها مفهوم ممزق بين الفلسفة وعلم الاجتماع والتحليل النفسي، “الذاتية” بالكاد تجد أي توضيح إضافي في التعبير عن السياسة. فإذا كانت الذاتية تشير إلى “احترام الذات” أو “الإحساس بالذات” أو “الاهتمام بالنفس”، فكيف يمكن أن تكون مناطق الهوية الفردية هذه “سياسية”؟

أقوى تعريفات التذويت السياسي تأتي من الفلسفة. وهكذا، على الرغم من الاستخدامات المختلفة للمفهوم من قبل حنة أرندت ، أو ميشيل فوكو ، أو جوديث بتلر ، أو جاك رانسيير ، أو إتيان بالبار ، أو إرنستو لاكلاو ، غالبًا ما تعتمد الاختلافات على المنظور الفلسفي الشامل ، ويمكن العثور على ما يشبه الاتفاق على تعريف العملية. قد تحدد الذات السياسية عملية إنتاج ذات ما (وليس شكلاً من أشكال الذاتية التي تحدث في مجال من الوجود الاجتماعي أو في مجال معين من الممارسات (العمل ، المشاركة ، العمل الجماعي ، التحدث علنًا ، المشاركة المحلية ، الممارسات الثقافية ، وما إلى ذلك) ، يطغى عليهم بظهور الصراع ، وبالتالي تكتسب معنى سياسيًا ، وبالتالي ليس المجال أو الفعل أو الممارسة الاجتماعية في حد ذاتها هي التي تحمل سمات سياسية ، ولكن نوع إنتاج الذات الذي يمكن ملاحظتها هناك ، وهي: إنتاج “خاص بالنفس” ، أو العلاقة مع مجموعة في الحمل أو نشأة خطأ. ومع ذلك، فإن معظم تعريفات الذاتية السياسية الحالية في الفلسفة تشترك في مأزق متناقض: بينما يتفق مؤلفوها على حقيقة تحديد أصل العملية في العالم الاجتماعي (كيف يمكن أن يكون الأمر بخلاف ذلك، السياسة التي تحدد طريقة الوجود معًا من الأفراد؟، فإن إكمال العملية سيضع الذوات السياسية خارج العالم الاجتماعي نفسه الذي أنتجهم ومثل شرط تفاعلهم. إن الأفراد السياسيين، الذين تشكلوا في نقد النظام الاجتماعي الذي يثقل كاهل حياتهم، سوف يحررون أنفسهم منه بشكل نهائي من خلال التعويم الآن فوق التفاعلات الاجتماعية، والجماعات التي ينتمون إليها، والمؤسسات. ستُظهر الذات السياسية، بشكل أساسي، صراع الفرد ضد كل ما يربطه بالعالم الاجتماعي، ضد “قوى استدعاء” المجتمع المهيكل المنظم.

لكن يمكن استبعاد مقاربة ميشيل فوكو للذات، لأنها تتجاوز الحدود التي تعطى للذاتية السياسية”. اذ يحدد فوكو الذات في أفعال المقاومة الجزئية للذات، بينما يجب إنتاج ذات فيما يتعلق بتكوين صراع عبر تشكيل جماعي.

إذا اتبعنا هذا المنطق، فإننا ندرك أن التذويت السياسي والتحرر هما مرادفان. نصبح ذواتًا سياسيًة ونحرر أنفسنا بمجرد أن نتساءل عن اليقينيات الفنومينولوجية الراسخة في علاقة معينة بالعالم، والمنتجة اجتماعياً والتي تشمل الأجساد والهويات وتقسيمات الأماكن والزمان. الفردي والجماعي، الذاتي والاجتماعي، هما أقطاب هذه الحساسية، القوى التي تعبرها كمجال مغناطيسي. لذلك، لا يمكن فصلهما. وبالمثل، يمكن تحليل الهيمنة كنتيجة للوضع الاجتماعي (التموضع التفاضلي للأفراد على النطاق الاجتماعي) والفرد (دمج التسلسلات الهرمية الرمزية الناتجة عن التسلسلات الهرمية الاجتماعية). التحرر إذن ليس “تجريدًا” في علم الاجتماع، أكثر من كونه ذاتية سياسية. من ناحية أخرى، لجعلها عملية في التحقيق، يجب إعفاؤها من المبدأ الغائي “للتحرر الذي يتعين القيام به”، لجملة من الفاعلين “المستنيرين” الذين يحررون المنفعلين المغتربين.

يساعد التذويت في سياق التعبئة الاجتماعية الفرد على المشاركة في المنظمات السياسية حسب أدورنو وآلان تورين مما يجعل من الممكن تغيير الإدراك الذاتي وكذلك اكتساب القدرات التحويلية (أي التذويت التحرري) داخل منظمة، خلال حركة اجتماعية. الأشكال المعاصرة للمنظمات التي يبدو أنها تعطي معنى جديدًا للفعل الجماعي، هل ينظر الفرد إلى نفسه على أنه “كائن مناضل” لتغيير التاريخ أم أنه يرى نفسه بالأحرى كذات فردية يعتبر عملها الخاص والتحول الداخلي جزءًا لا يتجزأ جزء من مشروع التحرر الاجتماعي؟ إلى أي مدى تؤثر الهياكل التنظيمية التي يتطور فيها الفرد على طبيعة الدور الذي يعيشه الفرد؟ سيعتمد نهجنا على حوار بين عمل عالم الاجتماع آلان تورين، الذي يحاول إعادة سحر شخصية الذات الحديثة، مع أدورنو، الذي تبدو إمكانيات التمكين بالنسبة له مغلقة إلى حد ما، بهدف إدراك التوتر في قلب عملية الذات الفردية. على هذا النحو تحرير الذات أو أن تصبح ذاتا سياسيًا: هذا هو الافتراض المركزي الذي يمكن أن يسمح لعلم الاجتماع والفلسفة السياسية بالانخراط اليوم في حوار جديد يجلب الأمل للإنسانية التي عانت من الازدراء والتموضع.

لكن كيف تمثلت خطة بول ريكور التفكرية في دعوة الذات الى المرور عبر الطريق الطويلة التي تمر عبر توسط الغير بما في ذلك كل عالم الرموز والاشارات والمرويات التي تفد من العلوم المتنوعة والتخلي عن غرور الأنا في قدرته على تأسيس ذاته بشكل نهائي ومطلق مع تدارك الاذلال النيتشوي والحط من قيمته؟

6.الأخر الضروري والغيرية الذاتية:

” يتطلب فهم الغير وعياً بالتعقيد البشري “19[19]

الغير، في الفلسفة، هو مفهوم حديث. حتى هيجل، لم يكن لمسألة الغير أي حق في المدينة، كان الانتماء (فقط الذات موجودة) سائدًا عند ديكارت والفلاسفة الكلاسيكيين. إنه ما أنا لست عليه كما يعتبر ذلك عمونيال ليفيناس. الآخر هو الذي ليس أنا، هو الشخص الذي لست أنا، وفي نفس الوقت، هو مثلي (إنه ينتمي إلى الحالة البشرية). متشابه ومختلف، قريب وبعيد، الغير هو الشخص الذي لا يمكنني الاستغناء عنه والذي يزعجني أحيانًا. الآخر هو قبل كل شيء من واجبي أن أعترف به كموضوع، لكن هل يمكنني أن أعرفه؟ كيف نتعايش مع الآخرين؟ وهل يمكننا بالفعل التعايش معه؟  وماهي الشروط التي تتوفر لتأمين هذا التعايش؟

الغير مثلي هو الوعي الذي يفكر في العالم ويفسر نفسه. كيف يمكنني الوصول إلى باطني، إلى باطن وعي ليس لي. في الواقع، الغير ليس موضوعًا بل هو ذات، هوية لم تُمنح لي بشكل نهائي ولكن تم بناؤها، وهي تتطور. الغير بعيد المنال. كيف يمكن لحريتين (له وحريتي) أن تتعايشا ولا تصطدمان في صراع دائم؟

بالنسبة لتوماس هوبز، الانسان ليس اجتماعيًا بشكل طبيعي، فقد أصبح اجتماعيًا بالصدفة فقط. تم تحديد حالة الطبيعة من خلال حالة الحرب الدائمة بين الجميع ضد الجميع: هوبز: “الإنسان ذئب للإنسان”. حالة الطبيعة هذه: الحالة التي تسبق تلك التي تثبت حالة العقد التي يوافق فيها البشر على تقييد حريتهم الطبيعية لصالح حرية مدنية محدودة لكنها هادئة. إن حالة الطبيعة هي خيال نظري وليست الحقيقة التاريخية، إنها فرضية العمل للنجاح في تفكير الإنسان مسبقًا وبشكل مستقل عن أي تنشئة اجتماعية. في هذه الحالة من الطبيعة، حق أقوى العهود، والحرية الطبيعية تسود، وهي مرادفة للقوة والقوة. في حالة الطبيعة، يتخلص البشر من أجسادهم وعقولهم دون حدود قانونية أو أخلاقية، فهم يتطلعون إلى نفس الغايات، وبالتالي التنافس الدائم. كل انسان يحاول السيطرة على الآخر، الحرية لا حدود لها، حالة الحرب دائمة. ثم أراد الإنسان الخروج من حالة الحرب هذه: وافق هو وآخرون على التخلي عن جزء من حريتهم الفردية من أجل إقامة عقد بين جميع البشر للوصول إلى الحرية الجماعية. العقد هو إنتاج للعقل ويمثل دولة أعلى من حالة الطبيعة التي لم تكن سوى العنف. التوافق مع الآخرين ليس بالأمر السهل لأن هذا الفهم ينطوي على تقييد لحرية الجميع، وعائق أمام الرغبة؛ لذلك فإن الآخر مُدرج كحد للذات، لكنني أيضًا حد لنفس الآخرين. وبالتالي فإن الآخر لا يطاق ولكنه ضروري أيضًا وفهمي معه ينبع من “التواصل الاجتماعي غير المنفصل”. على هذا النحو الإنسان ليس اجتماعيًا بطبيعته – نص بواسطة هوبز في كتابه “عن المواطن”. من جهة ثانية ان نص “الاجتماعية غير الاجتماعية” لكانط، يتحدث عن فكرة عالمية من وجهة نظر كوسموبوليتية، إن التعارض وعدم التوافق بين مبدأين هو الذي يضمن تطور المجتمع. مجموعة متحدة في عالم منظم ومنظم يتألف من تبادل الخدمات، لذلك فإن المجتمع يعني ضمناً حالة الثقافة، وهي الحالة التي يدرك فيها الإنسان ميوله الجسدية والفكرية. لكن في هذه الحالة الثقافية، يمزق الإنسان بين شيئين متعارضين: الحاجة إلى الارتباط بأشخاص آخرين (وبالتالي المشاركة في حياة جماعية) الرغبة في السعي لإشباع المصلحة الشخصية للفرد (وبالتالي العيش بطريقة فردية) هذا “التواصل الاجتماعي غير المنفصل”، والذي سيسمح، بعيدًا عن الفوضى والمفارقة، بتأسيس ثقافة، وحضارة، واجتماعية فعالة. ولأن الإنسان يتحرك من خلال مصلحة شخصية، فإنه يضع نفسه في مواجهة البشر الآخرين، وهذه الظاهرة تخلق التحفيز، والمحاكاة بين الرجال. هذا الصراع هو ما يجعل الإنسان يخرج من الكسل، ويطور مواهبه وقدراته: أفكاره تنتقل من “التصرف الجسيم” إلى التمييز الأخلاقي. لأنه يقاوم رغباتي ولأنني أقاومه، فإن التطور الفكري لكل منهما يؤدي إلى انتصار العقل: إن عدم التواصل الطبيعي للإنسان هو الذي يؤدي إلى اجتماعيه الثقافي. مني أكثر مما يشبهني: نرغب في نفس الأشياء وما نأخذه ينقصنا بالضرورة في الآخر. لذلك فإن الآخر يمثل تهديدًا لأن المنافس: إنه بعيد المنال، إنه وعي لا يمكنني الوصول إليه. لكن إذا كنت لا أستطيع معرفة الآخرين، يجب أن أتعايش معه فيما يتجاوز صعوبة الوصول هذه: إذا كنت لا أعرف الآخرين، فلا بد لي من التعرف عليه. من ناحية ثالثة نص هيجل عن الاعتراف المتبادل المقتطف من موسوعة العلوم الفلسفية يرى أنني لا أستطيع معرفة الآخرين، لكن من واجبي الأخلاقي الاعتراف بهم. والآخر ضروري لتكوين الذات كذات. والاعتراف بالآخر من قبلي، ومن قبلي من قبل الآخر هو ما يجعلنا نشعر بالوعي: هذه المعاملة بالمثل في الاعتراف هي ما يؤسس للذاتية المشتركة: الاعتراف بحقيقة أننا موضوعان، وعيان يعبران عن أنفسهما في العالم من إدراك متعارض وضروري في نفس الوقت. أنا والآخرون. ووفقًا لهيجل، فإن اللحظة الأولى لهذا الاعتراف بواحد من قبل الآخر هي الصراع بين وعيين يؤكدان أنفسهما أولاً من خلال النفي المتبادل: يريد كل منهما أن يتعرف عليه الآخر من أجل الخروج من ذاتيته الوحيدة، اليقين الوحيد من نفسه. يريد كل وعي من الآخر أن يتعرف عليه من أجل الحصول على دليل موضوعي على وجوده. لماذا؟ تشير الحقيقة إلى وجود علاقة بين موضوع وموضوع، ولا يريد وعيي أن يكون موضوعًا لوعي آخر. لا يمكن التعرف على وعيي إلا من خلال وعي آخر: لا يمكن التعرف علي وعيي ذاتي إلا من خلال وعي ذاتي آخر. وبالمثل، لا يمكن التعرف على وعي الآخرين إلا على أنه وعي بالذات لأن وعيي يتعرف عليه على هذا النحو. “الوعي الذاتي العام هو الاعتراف الإيجابي للذات في الذات الأخرى” (هيجل) الآخر المعترف به على أنه وعي ذاتي من قبل إن الوعي بالذات الذي أنا عليه هو بالتالي يسمح للذاتية الداخلية: التعرف على وعيين يتعرفان على بعضهما البعض كذوات. لكن هذا الاعتراف لا يعني معرفة الآخرين في جوهره. إنني أدركه كوعي ذاتي بنفس الطريقة مثلي، لكن الآخر هو شخص آخر غيري برغباته ومشاريعه … علاقة مع العالم تختلف عن علاقتي. هذا هو السبب في أن الآخرين، تجسيد الحرية في العالم، هم الذين أدين لهم بالاحترام. من وجهة نظري، سيتم اختزال العالم إلى التمثيل الفردي الذي أملكه. وبالتالي، فإن وجود الآخرين هو أيضًا، بالنسبة لي، تأكيدًا على المظهر الخارجي، ووجود شيء آخر غير علاقتي الوحيدة بالعالم. الآخرين: علاقة بالعالم المحتمل، الأفكار المختلفة التي أواجه بها نفسي: الآخرون: الشخص الذي أحول نفسي بالقرب منه، والذي أصبح قريبًا منه. بهذا المعنى الغير هو الذي يفصلني عن أنانيتي والآخر هو الشخص الذي يحدني ويحفزني، ويعترف به كموضوع على نفس الأساس مثلي ومثل غيري، هو الخروج من أنانيتي. هذا الحد من تعبيري عن الذات ليس خاصًا فحسب، بل هو أيضًا ما يسمح لي بفصل نفسي عن لامبالاة أحدهما والتعرف على الآخر باعتباره هوية أنت. احترام الآخرين يعني أيضًا احترام الآخر بداخلي واحترام نفسي من خلال الآخر، إنه الاعتراف بالانتماء إلى نفس الحالة الإنسانية. بيد أن كلود ليفي شتراوس في “العرق والتاريخ” بأن كل شخص منفصل عن الأنانية هو منفصل عن المركزية العرقية. اذ تجعل الميول النفسية الطبيعية من الصعب دائمًا الاعتراف بما هو مختلف عنا، وما هو غريب ثقافيًا علينا لأننا في مواجهة المجهول نبقى بلا نقطة مرجعية، بدون نقطة دعم محتملة للرد عليه. الحركة الأولى هي رفض ما هو غير مألوف لنا؛ ومع ذلك، لا يوجد سوى نوع بشري واحد. الحضارات ليست سوى تعبيرات خاصة عن نفس النوع، نفس الجنس البشري. عدم الاعتراف بالإنسانية في الرجل الذي يواجهني من خلال وصفه بأنه “بربري” يعني التصرف مثل ما أفعله. التعرف على الإنسانية في الآخر: عدم التعرف على الإنسانية في نفسي. من خلال استبعادها من الطبيعة البشرية، أستبعد نفسي، فأنا متوحش: “برفض الإنسانية من خلال الظهور على أنها أكثر ممثليها وحشية أو همجيًا، فإننا نستعير فقط واحدة من مواقفهم النموذجية. البربري هو أولاً من يؤمن بالهمجية. “الآخرون ليسوا فقط جاري، بل هم بعيدون أيضًا، ويمكنهم الانتماء إلى ثقافة مختلفة تمامًا عن ثقافتي ذات الرموز الاجتماعية المختلفة. الآخر هو الذي يجسد ويقدم لي طرقًا أخرى للتفكير في العالم، لربطه بالطقوس والتبادلات … مختلفة عن طقوسي؛ الآخر هو الأقرب والأبعد بالنسبة لي، فهو الشخص الذي يجعلني إنسانيًا عندما يتم التعرف عليه ويتعرف علي. روسو: “من يتخيل شيئًا لا يشعر إلا بنفسه، فهو وحيد في وسط البشرية”. في هذا السياق يمكن التذكير بنص هيوم من”رسالة في الطبيعة البشرية” الذي يقر فيه بأن الوحدة أعظم المعاناة. عندما لا يتم تقاسم السعادة تكون أقل، وعندما لا يتم تقاسم المعاناة يتم تضخيمها. كل المشاعر تنطوي على “المعاناة مع” التعاطف. العواطف هي نفسها في كل البشر. حتى لو مُنِحت كل السلطات لشخص واحد، حتى لو تحققت جميع الرغبات، فسيظل ذلك الإنسان بائسًا إذا كان بلا مجموعة، بدون مشاركة. شخص واحد فقط لا يستطيع أن يكون سعيدًا. من هذا المنطلق يأتي موريس مرلو بونتي لكي يؤكد على أهمية الاجتماع واللقاء بالآخر عبر وساطة اللغة، اذ في تجربة الحوار “يدخلون أنفسهم (المتحاوران) في عملية يكون كل واحد منا هو منشئها”. “تتداخل وجهات نظرنا مع بعضنا البعض، ونتعايش في نفس العالم”. “لقد قدمت له الأفكار، وهو يجعلني أفكر مرة أخرى”. على هذا النحو يندمج الآخرون في حياتي، وأندمج في حياتهم من خلال الحوار وذاكرة هذا الحوار تجعلني موضوعيًا والهدف الذي أصبح مكونًا لحظات حياتي: التشيؤ المزدوج أو المضاعف ، والموضوعية المتبادلة: ما يحرمني كموضوع وأيضًا ما يجعلني الموضوع ، والآخر هو الذي يغيرني والذي بدونه سأكون في الانغماس التام. لكن التناول الإيتيقي الأبرز للإنسانية الانسان الآخر هو الذي قام به ليفيناس عندما كشف أن هذا الآخر موجود في مفهوم الوجه وربطه بتعيين الهوية. يقدم لي الآخر في أشد حالاته فقرًا، فهو يفرض على علاقة إيتيقية تستوجب الاحترام والتقدير ولا مجرد الشفقة والتعاطف والاحساس بالذنب.  فالتالي هو غير انسان الغير. لقد سبق لهيجل أن أكد على أهمية حضور الغير في حركة الوعي الجدلية بقوله: “بما أنه من الضروري أن يسعى كل من وعيي الذات، المتعارضين مع بعضهما البعض، إلى إظهار وتأكيد نفسه، أمام الآخر وللآخر، ككائن مطلق لذاته، من خلال تلك الحقيقة ذاتها التي فضلت الحياة على الحرية والتي أثبتت عجزها عن القيام، بمفردها ولضمان استقلاليتها، وتجريد واقعها الحسي الحالي، تدخل بالتالي في علاقة العبودية”. بالنسبة الى سارتر في (الوجود والعدم): “الآخر هو الآخر، أي أنا الذي ليس أنا” و: “الآخر هو نفسي ولا شيء يفصلني عنه، لا شيء على الإطلاق إذا لم يكن حريته الكاملة والنقية” لأن “الآخر هو الوسيط بيني وبين نفسي يشير الذات إلى الآخر”. أما عند دريدا في مفهوم 11 سبتمبر: “الآخر سر لأنه آخر” و”طالما أن الآخر لم يتم الترحيب به بطريقة ما في عيد الغطاس أو في الانسحاب أو زيارة وجهه، فلا معنى للحديث عن السلام. مع نفس الشخص ليس في سلام أبدًا “. في حين أن ليفيناس في (الايتيقا واللانهاية) يرى أن: “الأنا أمام الآخرين مسئول بلا حدود” وبأن: “وجه جاري هو بديل ينفتح على ما بعد. يمكن الوصول إلى إله السماء دون أن يفقد أي من سموه، ولكن دون إنكار حرية المؤمن ” ويبرر ذلك في نفس المصدر بأن “الوجه يتكلم”. إذا كان هوسرل في تأملات ديكارتية قد صرح بما يلي: “أنا لا أفهم الآخر على أنه ثنائي. أنا لا أستوعبه من خلال فكري الأصلي أو مجال مثل مجالي، ولا يتم تزويده بالظواهر المكانية التي تخصني كما هي مرتبطة هنا. ولكن، للنظر في الأمر عن كثب، فإن جسده هو الذي تم تشكيله بطريقة أصلية ويتم تقديمه في شكل “عقبة مطلقة”، مركز وظيفي لعمله ” فإن هيدجر في الوجود والزمان قد أجابه: “الآخرون هم بالأحرى أولئك الذين لا نميز أنفسنا عنهم في أغلب الأحيان” فكيف ضم ريكور الغير في عين الذات؟

7. أثنربولوجيا الاقتدار في عين الذات غيرا

” “هناك دائمًا وجه آخر للأنا “. و” se “ينبثق تحديدًا من هذا التبادل بين” الأنا “والآخر؟ هذا هو السبب في أن” أنا “ليست أولًا، ولكن الآخر لا أيضًا. ما هو الأخير هو “se” “20[20]

غني عن البيان أن طريقة معينة للتفكير في الآخر تساهم في تشييد أرضية الفلسفة توقع المرء في اللامبالاة والكراهية تجاه الذاتيات الأخرى. كيف نخرج من أنظمة الإقصاء والخوف المتبادل والتجريد من الإنسانية؟

يجعلنا بول ريكور نكتشف ذات تتحرك تطرح على نفسها مهام الإجابة على الأسئلة التالية: من يتكلم؟ من يفعل؟ من الذي يسرد؟ من المسؤول؟ ويساعدها الحصول على الإجابة على تحديد هوية ذاتية جدلية بين التماثل والأخرى يمكن أن تكون بمثابة أساس للحياة الأخلاقية والتضامن. فلسفتها هي مقياس وقائي للحروب بجميع أنواعها بين الإخوة في الإنسانية، فاختلافاتنا كلها بشرية والفوارق بيننا يمكن تذليلها والعمل ازالتها20[21]. من هذا المنطلق المابعد حديث” تقف هرمينوطيقا الذات على مسافة متساوية من الكوجيتو الذي فخمه وعظمه ديكارت والكوجيتو الذي اعلن نيتشه سقوطه وانهياره”21[22]. لقد أثبت كل عملية بناء جدلية أحادية الجانب للشيء نفسه والآخر أنه مستحيل، سواء مع هوسرل الذي اشتق الأنا البديلة من الأنا، أو مع ليفيناس الذي يعين الآخر للأنا لمسؤوليته، سيحاول بول ريكور بعد ذلك لمعارضة طريقة ثالثة للآخر: “أن تكون مفروضًا كبنية للذات”، بحيث يمكن التوفيق بينها وبين احترام الذات والشهادة في معاملة بالمثل لم يعد لها أي شيء غير متماثل. سواء تم تعريف الأنا على أنه ذات تجريبية أو كذات متعالية، سواء تم طرحها على الإطلاق دون مواجهة الآخر أو نسبيًا بالرجوع إلى الذاتية المشتركة، فإن نموذج فلسفات الذات يتم تعريفها دائمًا في الشخص الأول: الأنا أكون. وهذا هو السبب في أن بول ريكور يقترح من جانبه تأويلًا للذات يقع “على مسافة متساوية من خلخلة الكوجيتو واذلاله” من قبل نيتشه، وبالتالي تحديد ما يفصلها عن “فلسفات الذات” وتحويل المشكلة إلى مجال التحليل اللغوي والهوية السردية. عنوان العمل الذي صاغ فيه هذا الاقتراح، عين الذات غيرا (1990)، يشكل في حد ذاته برنامجًا كاملاً. إن استبدال الضمير التفكري للذات بـالتأكيد على أولوية التأمل التفكيري على الموقف المباشر للذات. لقد أوضح ريكور منذ المقدمة هرمينوطيقا الذات، فشل ديكارت في نهاية الشك، في استعادة وجود الآخرين. وإذا كان الاكتشاف العظيم للقصدية يتألف بالفعل من تأكيد أسبقية الوعي لشيء ما على وعي الذات، فإن الفينومينولوجيا الهوسرلية تظل أيضًا مطالبة بالتجذير الذاتي. هذه ملاحظة ريكور في أنه يجب علينا العودة، والابتعاد عن الأساس الانطوائي للكوجيتو ، وأن الاعتراف بالتعددية والكثرة يتطلب بالفعل مقاربة إيتيقية للعلاقة بين الذات والغير ضمن حركة جدلية.

كما يشير الى أن الذات القادرة وفلسفة الفعل لهما الأسبقية على القابلية للخطأ والوقوع في الذنب والهشاشة. يقدم العديد من الفلاسفة هذا الموضوع للإنسان القادر، وتتناول دراساتهم من زوايا مختلفة مسألة الذات الأخلاقية وعلاقتها بالآخر، الذات السياسية والهوية الجماعية، الذات الهرمينوطيقية والذات اللغوية. القدرة على تجاوز الانقطاعات بين اللغات والثقافات. إنها تظهر لنا أصالة فكر بول ريكور.  من الممكن إنشاء تصنيف للقدرات الأساسية، عند تقاطع الفطرية والمكتسبة. تشكل هذه القوى الأساسية الأساس الأول للإنسانية، بمعنى الإنسان مقابل اللاإنسانية. يأخذ التغيير الذي هو جانب من جوانب الهوية – للأفكار والأشياء – جانبًا دراميًا على المستوى البشري، وهو التاريخ الشخصي المتشابك في القصص التي لا تعد ولا تحصى لإخواننا من البشر. تتميز الهوية الشخصية بزمنية يمكن القول إنها تأسيسية. الشخص قصته. في الرسم التخطيطي للتصنيف، اعتبر ريكور القدرة على القول، القدرة على التصرف، والقدرة على الارتباط، والتي أضيف إليها، تحمل المسؤولية والالتزام بالوعد. في هذه الصورة البانورامية الواسعة للقدرات التي أكدها وافترضها الفاعل البشري، يتحول التركيز الرئيسي من قطب محايد أخلاقياً للوهلة الأولى إلى قطب أخلاقي صريح حيث يشهد الفرد القدير على نفسه كموضوع مسؤول. بضع كلمات عن كل من هذه القدرات: من خلال “القدرة على الكلام”، يجب أن نفهم قدرة أكثر تحديدًا من الموهبة العامة للغة التي يتم التعبير عنها في تعدد اللغات، كل منها بمورفولوجيتها، معجمها، تركيبها، وخصائصها البلاغية. أن تكون قادرًا على الكلام هو أن تنتج تلقائيًا خطابًا معقولًا. في الخطاب، يقول شخص ما شيئًا لشخص ما وفقًا للقواعد العامة. قول شيء ما هو المعنى؛ على شيء ما، هو الإشارة إلى اللامركزية؛ لشخص ما، هذا هو العنوان، أساس المحادثة. أعني ب “القدرة على التصرف” القدرة على إنتاج الأحداث في المجتمع وفي الطبيعة. هذا التدخل يغير مفهوم الأحداث، وهي ليست مجرد ما يحدث. إنه يدخل الطوارئ البشرية وعدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ في مسار الأحداث. تحتل “قوة الرواية” مكانة بارزة بين القدرات بقدر ما تصبح الأحداث من أي أصل قابلة للقراءة والفهم فقط عندما يتم سردها في القصص؛ عند تطبيقه على نفسه، فإن فن سرد القصص الألفي يعطي قصص الحياة التي يعبر عنها تاريخ المؤرخين. يمثل سرد القصص تشعبًا في الهوية نفسها – والتي لم تعد مجرد هوية مماثلة – والهوية الذاتية التي تدمج التغيير كتطور. لذلك يمكننا التحدث عن هوية السرد: هو حبكة القصة التي تظل غير مكتملة ومفتوحة لإمكانية سرد قصة أخرى ويخبرها الآخرون. المساءلة هي صراحة القدرة الأخلاقية. يعتبر العامل البشري هو المؤلف الحقيقي لأفعاله، بغض النظر عن قوة الأسباب العضوية والجسدية. إذا افترض الوكيل أنه يجعله مسؤولاً وقادرًا على المشاركة في عواقب الإجراء؛ في حالة ارتكاب خطأ لشخص آخر، يتم التصرف في التعويض والعقوبة النهائية. الوعد ممكن على هذا الأساس. يلتزم الموضوع بكلمته ويقول إنه سيفعل غدًا ما يقوله اليوم؛ الوعد يحد من عدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل، مع خطر الخيانة؛ الذات قد تفي أو لا تفي بوعده؛ هكذا يفي بوعد الوعد، الوعد بالحفاظ على كلمته، بالثقة.  علاوة على ذلك تطرح قضية الغيرية والترجمة والنص إشكالية العبور بين اللغات وتقريب المسافة ورد البينونة بين الثقافات بل تستوجب حق الضيافة اللغوية ومطلب تخصيص مكان للآخر وإزالة الغربة والغرابة والآخرية عنه وجعله قريبا ومجاورا ومشاركا وندا في المدينة. كما تساعد الهرمينوطيقا الايتيقية عند ريكور وليفيناس كفن فهم الاخر تأويل الوحي والتقريب بين الأديان والحوار بين العقائد وتجاوز القراءات المتصارعة وإيجاد أرضية مشتركة بين الطوائف والمذاهب. ألم يقل بول ريكور في كتاب التاريخ والحقيقة: ” أن أكون انسانا هو أن أكون غيري في ذات الوقت الذي أبقى فيه أنا نفسي” ويقصد ان ينتقل المرء الى منظور الغير دون فقدان ذاته.  فما العمل لكي يتم الانتقال بالأنا من المعاناة الى الفعل ومن الشعور بالذنب والغلط الى الوعد والرجاء؟

لا تعني هذه القدرات الأساسية طلبًا للاعتراف من قبل الآخرين، ومن المؤكد أن القدرة على القيام بها حميمية، بالطبع؛ ومع ذلك، فإن كل منها يدعو إلى تلاقي وجهاً لوجه: فالخطاب موجه إلى شخص قادر على الرد والتساؤل والدخول في محادثة وحوار. يستمر هذا النضال من أجل الاعتراف على المستوى القانوني للحقوق المدنية، التي تتمحور حول أفكار الحرية والعدالة والتضامن. لا يمكن المطالبة بحقوق لا يتم الاعتراف بها على قدم المساواة مع الآخرين. هذا الامتداد للصلاحيات الفردية المتعلقة بالشخص الاعتباري لا يتعلق فقط بتعداد الحقوق المدنية، بل يتعلق أيضًا بمجال تطبيقها على فئات جديدة من الأفراد والسلطات التي احتقرها حتى الآن. هذا التمديد هو مناسبة للنزاعات على الاستبعاد المرتبط بعدم المساواة الاجتماعية، ولكن أيضًا التمييز الموروث من الماضي والذي لا يزال يؤثر على الأقليات المختلفة. لكن الازدراء والإذلال يصل إلى الرباط الاجتماعي إلى مستوى يتجاوز مستوى الحقوق؛ إنه يتعلق بالاحترام الاجتماعي الذي يتناول القيمة الشخصية والقدرة على السعي وراء السعادة وفقًا لتصور الفرد للحياة الجيدة. هذا النضال من أجل التقدير يحدث في أماكن مختلفة من الحياة؛ وهكذا، في الشركة صراع الغزو، لحماية مرتبتها في التسلسل الهرمي للسلطة؛ في الوصول إلى السكن وعلاقات الجوار والقرب والعديد من اللقاءات التي تشكل جزءًا من الحياة اليومية. إنه دائمًا القدرات الشخصية التي يجب أن يعترف بها الآخرون. ثم يبرز السؤال عما إذا كان الرابط الاجتماعي يتشكل فقط في النضال من أجل الاعتراف، أم أنه لا يوجد أيضًا في الأصل نوع من الإحسان المرتبط بتشابه الإنسان بالإنسان في الأسرة البشرية العظيمة. لدينا تلميح في عدم الرضا الذي تتركنا به ممارسة المصارعة؛ إن طلب الاعتراف المعبر عنه هناك نهم: متى سيتم الاعتراف بنا بشكل كاف؟ هناك نوع من اللانهاية السيئة في هذا المسعى. ومع ذلك، فمن الحقائق أيضًا أننا نختبر الاعتراف الفعال بطريقة سلمية. تم العثور على النموذج في ممارسة تبادل الهدايا الاحتفالية في المجتمعات القديمة. لا ينبغي الخلط بين هذا التبادل الطقسي وبورصة السلع التي تتكون من البيع والشراء وفقًا لعقد التبادل. منطق تبادل الهدايا هو منطق المعاملة بالمثل الذي يخلق التبادلية؛ إنها دعوة “رد الجميل” الواردة في فعل العطاء. من أين يأتي هذا الالتزام؟ لقد سعى بعض علماء الاجتماع في الشيء المتبادل إلى قوة سحرية توزع الهدية وتجعلها تعود إلى نقطة انطلاقها. أفضل أن أتبع أولئك الذين يرون في تبادل الهدايا اعترافًا بواحد من قبل الآخر الذي لا يعرف الآخر ويرمز إليه في الشيء المتبادل الذي يصبح تعهده. هذا الاعتراف غير المباشر سيكون النظير السلمي للنضال من أجل الاعتراف. هذا من شأنه أن يعبر عن تبادلية الرابطة الاجتماعية. لا يعني ذلك أن الالتزام بالعودة يخلق تبعية للموهوب على المتبرع، ولكن فعل العطاء سيكون دعوة لكرم مماثل. سلسلة الكرم هذه هي نموذج لتجربة فاعلة للاعتراف بدون صراع تتجسد في كل هدنات نضالاتنا في الهدنة التي تشكل بشكل خاص التنازلات الناتجة عن المفاوضات بين الشركاء الاجتماعيين. إلى جانب ممارسة التسوية هذه، ربما لا ينطلق تكوين الرابطة السياسية التي تجعلنا مواطنين في مجتمع تاريخي فقط من الاهتمام بالأمن والدفاع عن المصالح الخاصة لهذا المجتمع، ولكن من شيء مثل “الصداقة السياسية”. إنها تقاطع السوق وتخفف من وحشيتها بإحلال السلام لها. ربما يكون هذا التشابك في النضال والاحتفال مؤشراً على علاقة بدائية مطلقة في مصدر الارتباط الاجتماعي بين عدم الثقة في حرب الكل ضد الجميع وبين الإحسان الذي أثاره لقاء الإنسان الآخر23[23]. لعل أهم درس يمكن أن تقدمه إنسانية الانسان الاخر عند ليفيناس ضمن مقولة الغيرية الجذرية وربطها بالفلسفة الايتيقية هو وجوب إعطاء الأولوية للآخر والصعود الى الأقاصي24[24] والايمان بأن الذاتية لا تتحقق في القرب والجوار من الذات بل من خلال الابتعاد والهجرة والغربة عن الذات. اذ يرى ليفيناس في الوجود المغاير أن الأمر نفسه يتعلق بالآخر من قبل أن يظهر الآخر للوعي. يتم تنظيم الذاتية مثل الأخر في المماثل، ولكن وفقًا لأسلوب يختلف عن وضع الوعي. إن العلاقة مع الآخر كعلاقة مع المتعالي تقدم للذات ما لم يكن في داخلها. لكن هذا “الفعل” على حريتها يضع حدًا للعنف والصدفة، وبهذا المعنى أيضًا، يؤسس العقل. يبدو “الآخر بالنسبة للعقل ليس فضيحة تضعه في حركة ديالكتيكية، بل هو الدرس الأول. الكائن الذي يتلقى فكرة اللانهائي – يتلقى لأنه لا يمكن أن يأخذها من نفسه – هو كائن يتم تدريسه بطريقة غير مألوفة – كائن يتمثل وجوده ذاته في هذا الاستقبال المتواصل للتعليم، في هذا الفائض المستمر من نفسه (أو الزمن)” وبعبارة أخرى “الآخرية وحدها تعلم وهذا التعليم “عبور غير عنيف”24[25]. على هذا النحو لماذا” لم يعد يُنظر إلى علاقة نفس الشيء مع الآخر على أنها مظهر خارجي فحسب، بل على أنها قريبة من “الآخر في نفس الشيء”25[26]؟   أليس العمل الفلسفي الجاد هو الذي يدعو قراءه لحسن ضيافة لغوية مع غربة النصوص ولقاء الأغيار وفك غرابة الآخرية وتغيير المشهد من خلال قيادتهم إلى مناطق غير مألوفة في حدود الفلسفة؟

خاتمة

“الآخرون فينا دائمًا بطريقة أو بأخرى”27[27]

تسعى الفلسفة دوما الى بلوغ الاعتراف المتبادل بين الانية والآخرية وتقديم رؤية تكاملية للعلاقة بين النفس والجسم وبين الذات والعالم وبين الفرد والمجتمع ولكنها تصطدم بالنزاع والانقسام والقطيع والاغتراب والانفصال وتحاول البحث عن الوسائط الرمزية وتسعى الى تسجير الهوة الفاصلة بين الخاص والكلي. ان الآخرية الحميمة للذات بدل الآخرية الغريبة عن الذات28[28]. فاذا كانت المقاربات الوضعية قد أدت الى تكميم النوعية التي تخص الدراسة العلمية للظاهرة الإنسانية وكانت الموضعة سبب الوقوع في التصور الاختزالي المادي والتعامل مع الذات كمجرد موضوع واذا كان ادخال الأجساد الى المصانع والأجهزة والتعامل معها كأدوات للاستثمار السياسي وآلات للإنتاج الاقتصادي قد اوقعها في شراك التموضع والألينة وتسبب ذلك في تشكل ظاهرة الاغتراب في أبعادها الثلاثة: اغتراب العمل والعامل والمعمول وتعثر مشروع التحرر الاجتماعي عن طريق التحرر السياسي في استعادة المفقود من كرامة إنسانية وشخصية معنوية وغايات عقلية فإن المراهنة تظل معقودة على تجربة التذاوت كلقاء مثمر بين الشخصيات والمجموعات ضمن وجودهم في العالم وعلى عملية التذويت كنزع الطابع الغيري للأخرية.

– التأسيس الأنطولوجي للإنية تم بإلغاء الغيرية من خلال اعتبار الكائن البشري عالم صغير ضمن عالم كبير.

– اثبات الذات عبر اكتشاف الكوجيتو الديكارتي أدى الى حدوث تعالي بين الانية النفسية والآخرية الجسمية.

-القصدية الهوسرلية هي تثمين للوعي بالعالم من أجل الوعي بالذات وإعادة بناء للآخرية ضمن الأنا المتعالي.

-الاعتراف بتجربة الغير لا تتم الا بالاحترام من وجهة نظر كانطية والتعاطف من وجه نظر ماكس شيلر.

-وجود الآخر ضروري من أجل وجود الأنا عند سارتر والوعي من أجل الغير شرط الوعي من أجل الذات.

-الغيرية الجذرية عند ليفيناس تكرس الانفصال بين الأنا والمطلق وتعتمد على الوجه في معرفة هوية الآخر.

-جدلية الذات والآخر عند بول ريكور هي شرط امكان بناء رؤية تكاملية تصالحية بين الأنية والآخرية.

لقد اعتقدنا أننا أنهينا حالة عزلة الذات واختلائها بذاتها وانفصالها عن العالم وابتعادها عن الاجتماع الإنساني وتعاليها على جسمها المادي بالوجود في العالم والوجود مع الغير وتجربة الجسد الخاص والاحساس بالآخر والاعتراف المتبادل بين الانا والغير ولكن الدراسات كشفت اتساع نطاق اغتراب الانية وغرابة الآخرية.

لن تتخلى الذات عن حقيقتها المطلقة وتقبل بتواضع تغيرها وتعيد تأسيس ذاتها الا بمرورها بمعمودية الغير.

غرابة الآخرية تثير فينا الخوف وتدعونا الى تجنبه والعمل على تفادي التعامل معه وتقاسمه الأيتوس المشترك وابعاده عن التدخل في الفضاء العام وإلزامه البقاء في الفضاء الخص واجباره على الحركة السرية والهامشية ولا يمكن استعادة الثقة فيه والتواصل معه الا إذا أصبح مألوفا وتشابه مع الذات وأزال عنه أشكال الغرابة ومارس التطبيع مع الواقع وانتقل من منظور الآخر الى منظور الذات وسلطت عليه أنوار المدنية والتحضر.

الى أي مدى تكفي تجارب الايثار والتعاطف والاحترام والضيافة والاعتراف لكي تبدد الخوف من الآخر؟

 

الاحالات والهوامش:

 

[1] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, édition du seuil, Paris, 1990, p368.

[2] Paul Ricoeur, la condition d’étranger, dans Politique , économie et société,  écrits et conférences, éditions seuil, Paris, 2019, de page 237 à la page 254.

[3]  “سألتني – رفق الله بك، وعطف على قلبك – أن أذكر لك الغريب ومِحَنهِ، وأصِفَ لك الغربة وعجائبها، وأمرَّ في أضعافِ ذلك بأسرارٍ لطيفة ومعانٍ شريفة، إمّا مُعَرِّضاً، وإمّا مُصَرِّحاً، وإمّا مُبْعِداً، وإمّا مقرباً. فكُنتُ على أن أجيبك إلى ذلك. ثم إني وجدت في حالي شاغلاً عنك، وحائلاً دونك، ومُفرّقاً بيني وبينك. وكيفَ أَخْفِضُ الكلام الآنَ وأرفعْ، وما الذي أقول وأصنعْ، وبماذا أصبر، وعلى ماذا أجزع ؟ وعلى العلاّت التي وصفتها والقوارف التي سترتها أقول:

إنّ الغريبَ بحيثُ *** ما حطّت ركائبهُ ذليلُ

ويدُ الغريبِ قصيرةٌ *** ولسانه أبداً كليل ُ

والناسُ ينصرُ بعضهم *** بعضاً وناصره قليلُ

يا هذا ! هذا وصفُ غريبٍ نأى عن وطنٍ بُنِيَ بالماءِ والطين، وبَعُدَ عن أُلاّفٍ له عهدهم الخشونة واللين.. فأين أنت عن غريبٍ طالت غربته في وطنه، وقلَّ حظّه ونصيبه من حبيبه وسكنه ؟! وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان ؟! قد عَلاهُ الشُّحوب وهو في كِنّْ، وغلبه الحُزن حتى صار كأنه شِنّ. إن نَطَقَ نطق حزنان منقطعاً، وإن سَكَتَ سكت حيران مرتدعاً، وإن قَرُبَ قرب خاضعاً، وإن بَعُدَ بعد خاشعاً، وإن ظَهَرَ ظهر ذليلاً، وإن توارى عليلاً، وإن طَلَبَ طلب واليأسُ غالبٌ عليه، وإن أمسَكَ أمسك والبلاءُ قاصدٌ إليه، وإن أصبَحَ أصبح حائل اللون من وساوس الفكر، وإن أمسَى أمسى مُنْتَهَبَ السرِّ من هَواتِكْ السّتْر؛ وإن قالَ قال هائباً، وإن سكتَ سكت خائباً؛ قد أكلهُ الخمول، ومَصّهُ الذبول، وحالفه النّحول، لا يتمنى إلاّ على بعض بني جِنسِهِ، حتى يُفْضي إليه بكامِناتِ نفسه، ويتعلّل برؤية طلعته، ويتذكر لمشاهدته قديم لوعته.

وقد قيل: الغريب من جَفاهُ الحبيب. وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرّقيب.. بل الغريب من نُودَيَ من قريب، بل الغريب من في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له من الحقِّ نصيب.

يا هذا ! الغريبُ من غَرُبتْ شمس جماله، واغتَرَبَ عن حبيبه وعُذّاله، وأغرَبَ في أقوالِهِ وأفعاله، وغرَّبَ في إدباره وإقباله.. يا هذا ! الغريب من نَطَقَ وصفُهُ بالمحنةِ بعد بالمحنة.. الغريب من إن حضَرَ كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً. الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه.

هذا وصفُ رجلٍ لَحِقَتْهُ الغربة، فتمنّى أهلاً يأْنسُ بهم، ووطناً يأوي إليه، وسكناً يتوادعُ عنده. فأما وصفُ الغريب الذي اكتنفتهُ الأحزان من كل جانب، واشْتَمْلَتْ عليه الأشجان من كلّ حاضرٍ وغائب، وتحكمت فيه الأيام من كل جانب وذاهب، واستغرقتْهُ الحَسَرَات على كل فائتٍ وآئب، وشتّتهُ الزمان والمكان من كل ثقةٍ ورائب، وفي الجملة، أتت عليه أحكام المصائب والنوائب، وحطّتهُ بأيدي العواتب عن المراتب، فوصفٌ يخفى دونه القلم، ويفنى من ورائه القرطاس، ويَشُلُّ عن بَجْسِهِ اللفظ، لأنه وصفُ الغريبِ الذي لا اسمَ له فيُذكر، ولا رسمَ لهُ فيُشْهَر، ولا طيَّ له فيُنشر، ولا عٌذرَ له فيُعذر، ولا ذنب له فيُغفر، ولا عيب عنده فيُستر. هذا غريبٌ لم يتزحزح عن مَسْقِطِ رأسه، ولم يتزعزع عن مَهَبِّ أنفاسه. وأغربُ الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البُعَداءِ من كان بعيداً في محل قربه. يا هذا ! الغريب من إذا ذَكَرَ الحقَّ هُجِرْ، وإذا دعا إلى الحق زُجِرْ. الغريب من إذا أَسْنَدَ كُذِّب، وإذا تَطَاهَرَ عُذِّب، الغريب من إذا إمتار لم يُمَر، وإذا قَعَدَ لم يُزَرْ. يا رحمتاً للغريب ! طالَ سفرهُ من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير، وعَظُمَ عناؤهُ من غير جدوى !

الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله. الغريب من إذا تنفس أحرقهُ الأسى والأَسَفْ، وإن كَتَمَ أكْمَدهُ الحُزْنُ واللَّهَفْ. الغريب من إذا أقبلَ لم يُوَسَّع له، وإذا أعرضَ لم يُسْئَلْ عنه. الغريب من إذا سَألَ لم يُعطَ، وإن سَكَتَ لم يُبدأ.. الغريب من إذا نادى لم يُجَب، وإن هادى لم يُحبّ. اللهم إنا قد أصبحنا غُرَباءَ بين خلقك، فآنسنا في فَنائك. اللهم وأمسَينا مهجورين عندهم ، فَصِلْنا بِحَبائك. يا هذا ! الغريب في الجملة كُلُّهُ حُرقه، وبعضهُ فُرقه، وليلة أَسَفْ، ونهارهُ لَهَفْ، وغداؤه حَزَنْ، وعشاؤه شَجَنْ، وآراؤه ظِنَنْ، وجميعه فِتَنْ، ومفرَقُهُ مِحَنْ، وسِرُّهُ عَلَنْ، وخوفه وَطَـنْ.

الغريب من إذا دعا لم يُجَب، وإذا هابَ لم يُهب.. الغريب من فَجْعَتُهُ مُحْكَمَة، ولوعته مُضرِمة. الغريب من لِبْسَتُهُ خِرْقة، وأكْلتُهُ سِلْقه، وهجْعَتُهُ خَفْقة.

[4] “ومازال حي بن يقظان يستلطفهم ليلا ونهارا ويبين لهم الحق سرا وجهارا فلايزيدهم ذلك الا نبوا ونفارا مع انهم كانوا محبين للخير راغبين في الحق الا انهم لنقص فطرتهم كانوا لا يطلبون الحق من طريقه ولا ياخذونه بجهة تحقيقه ولا يلتمسونه من بابه بل كانوا لا يريدون معرفته من طريق اربابه فيئس من اصلاحهم وانقطع رجاؤه من صلاحهم لقلة قبولهم وتصفح طبقات الناس بعد ذلك فرأى أن كل حزب بما لديهم فرحون ، قد اتخذوا الههم هواهم ومعبودهم شهواتهم وتهالكوا في جمع حطام الدنيا وألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر ، لا تنجع فيهك الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة ولا يزدادون بالجدل الا إصرارا . وأما الحكمة فلا سبيل لهم اليها، ولا حظ لهم منها، فقد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون”.

ابن طفيل، حين ابن يقظان، تقديم علي بوملحم ، دار ومكتبة الهلال ، بيروت، طبعة أولى، 1993، ص141.

[5] Albert Camu, l’étranger, édition, Gallimard, Paris,1942, ، بالنسبة لألبير كامو ، حياة الأفراد ، الوجود الإنساني بشكل عام ، ليس لها معنى أو نظام عقلاني. لأننا نجد صعوبة في قبول هذه الفكرة، نحاول باستمرار تحديد أو إعطاء معنى منطقي لأفعالنا. يصف مصطلح “العبثية” هذه المحاولة غير المجدية من قبل البشرية لإيجاد معنى عقلاني حيث لا وجود له، على الرغم من أن كتاب كامو لا يشير صراحة إلى مفهوم العبث، إلا أن مبادئ العبثية تعمل في الرواية. لا العالم الخارجي الذي يعيش فيه أخلاقي ولا العالم الداخلي لأفكاره، وكذلك سلوكه، بنظام عقلاني. يعكس الكتاب محاولة البشرية غير المجدية لفرض العقلانية على كون غير عقلاني، والمكون الرئيسي الثاني لفلسفة كامو عن العبث هو فكرة أن الحياة البشرية ليس لها معنى أو معنى، هدف تعويضي. يجادل كامو بأن الشيء الوحيد المؤكد في الحياة هو حتمية الموت. ولأن جميع البشر سيواجهون الموت في النهاية، فإن كل الأرواح لا معنى لها. طوال الرواية، يتحرك البطل مورسو تدريجيًا نحو هذا الوحي، لكنه لا يدرك واقعه تمامًا إلا بعد جدالته مع القس. لأن التمرد هو الجواب الوحيد على العبث. كما أنه يدرك أن عدم اكتراثه بالعالم يرتبط بلامبالاة العالم تجاهه. مثل أي إنسان، ولد مورسو ومات ولن يعود مهمًا. قبول حتمية الموت يحرر مورسو من الأمل الزائف. تلك الحياة المستدامة بشكل خاص، والتي كانت في الواقع مجرد عبء كان يجره. لذلك فهو حر في أن يعيش حياته كما هي، والاستفادة القصوى من الأيام المتبقية.

[6] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, op. cit. p.

[7] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, op. cit. p382.

[8] أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية، 1990، صص 97 الى 128.

[9]  أبو نصر الفارابي، كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، طبعة ثانية، 1986، ص45.

[10] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, édition du seuil, Paris, 1990, p

[11] Merleau-Ponty Maurice, phénoménologie de la perception، 1945، p. 488

[12] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, édition du seuil, Paris, 1990, p

[13] Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception, Gallimard, Paris, 1991, p. 414

[14] Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception, op.cit., p 415

[15] Ricoeur Paul, philosophie de la volonté, 1949, p123.

[16] Hannad Arendt, condition de l’homme moderne, 1958, Traduction Georges Fradier Préface de Paul Ricœur, édition Calmann-lévy, Paris,1961 et 1983.

 

[17] Jean-Marc Lamarre, Seule l’altérité enseigne, Dans Le Télémaque 2006/1 (n° 29), pages 69 à 78

[18] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, édition du seuil, Paris, 1990, p

[19] Edgar Morin, Introduction à une politique de l’homme,

[20] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, édition du seuil, Paris, 1990.

[21] Jean Zambe, une relecture de l’altérité selon Paul Ricoeur, édition l’Harmatton, cameroun,2017, 264 pages.

[22] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, édition du seuil, Paris, 1990, p

[23] e. Paul Ricoeur, UR * Texte écrit pour la réception du Kluge Prize, décerné aux États-Unis (Bibliothèque du Congrès) à Paul Ricœur en

[24] Paul Ricoeur, autrement qu’être, au-delà de l’essence, édition PUF, Paris, 1997, p20

[25] Levinas Emmanuel,   Totalité et infini, Lahaye, Martunis Nijhoff, 1971, p22.

[26]Levinas Emmanuel, autrement qu’être au-delà de l’essence, Lahaye, Martunis Nijhoff, 1974, p32

[27] Violaine Houdart-Merot, Altérité et engagement : « soi-même comme un autre », https://books.openedition.org/psn/156?lang=fr

[28] P. Ricœur, « Étranger, moi-même », intervention à l’occasion de la 72e session des Semaines sociales de France, in L’immigration : défis et richesses, Paris, Bayard – Centurion, 1998,

 

محاضرة تم تقديمها ضمن فعاليات ملتقى الفلسفة بتاريخ 28 فيفري 2021

كاتب فلسفي

 

[1] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, édition du seuil, Paris, 1990, p368.

[2] Paul Ricoeur, la condition d’étranger, dans Politique , économie et société,  écrits et conférences, éditions seuil, Paris, 2019, de page 237 à la page 254.

[3]  “سألتني – رفق الله بك، وعطف على قلبك – أن أذكر لك الغريب ومِحَنهِ، وأصِفَ لك الغربة وعجائبها، وأمرَّ في أضعافِ ذلك بأسرارٍ لطيفة ومعانٍ شريفة، إمّا مُعَرِّضاً، وإمّا مُصَرِّحاً، وإمّا مُبْعِداً، وإمّا مقرباً. فكُنتُ على أن أجيبك إلى ذلك. ثم إني وجدت في حالي شاغلاً عنك، وحائلاً دونك، ومُفرّقاً بيني وبينك. وكيفَ أَخْفِضُ الكلام الآنَ وأرفعْ، وما الذي أقول وأصنعْ، وبماذا أصبر، وعلى ماذا أجزع ؟ وعلى العلاّت التي وصفتها والقوارف التي سترتها أقول:

إنّ الغريبَ بحيثُ *** ما حطّت ركائبهُ ذليلُ

ويدُ الغريبِ قصيرةٌ *** ولسانه أبداً كليل ُ

والناسُ ينصرُ بعضهم *** بعضاً وناصره قليلُ

يا هذا ! هذا وصفُ غريبٍ نأى عن وطنٍ بُنِيَ بالماءِ والطين، وبَعُدَ عن أُلاّفٍ له عهدهم الخشونة واللين.. فأين أنت عن غريبٍ طالت غربته في وطنه، وقلَّ حظّه ونصيبه من حبيبه وسكنه ؟! وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان ؟! قد عَلاهُ الشُّحوب وهو في كِنّْ، وغلبه الحُزن حتى صار كأنه شِنّ. إن نَطَقَ نطق حزنان منقطعاً، وإن سَكَتَ سكت حيران مرتدعاً، وإن قَرُبَ قرب خاضعاً، وإن بَعُدَ بعد خاشعاً، وإن ظَهَرَ ظهر ذليلاً، وإن توارى عليلاً، وإن طَلَبَ طلب واليأسُ غالبٌ عليه، وإن أمسَكَ أمسك والبلاءُ قاصدٌ إليه، وإن أصبَحَ أصبح حائل اللون من وساوس الفكر، وإن أمسَى أمسى مُنْتَهَبَ السرِّ من هَواتِكْ السّتْر؛ وإن قالَ قال هائباً، وإن سكتَ سكت خائباً؛ قد أكلهُ الخمول، ومَصّهُ الذبول، وحالفه النّحول، لا يتمنى إلاّ على بعض بني جِنسِهِ، حتى يُفْضي إليه بكامِناتِ نفسه، ويتعلّل برؤية طلعته، ويتذكر لمشاهدته قديم لوعته.

وقد قيل: الغريب من جَفاهُ الحبيب. وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرّقيب.. بل الغريب من نُودَيَ من قريب، بل الغريب من في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له من الحقِّ نصيب.

يا هذا ! الغريبُ من غَرُبتْ شمس جماله، واغتَرَبَ عن حبيبه وعُذّاله، وأغرَبَ في أقوالِهِ وأفعاله، وغرَّبَ في إدباره وإقباله.. يا هذا ! الغريب من نَطَقَ وصفُهُ بالمحنةِ بعد بالمحنة.. الغريب من إن حضَرَ كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً. الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه.

هذا وصفُ رجلٍ لَحِقَتْهُ الغربة، فتمنّى أهلاً يأْنسُ بهم، ووطناً يأوي إليه، وسكناً يتوادعُ عنده. فأما وصفُ الغريب الذي اكتنفتهُ الأحزان من كل جانب، واشْتَمْلَتْ عليه الأشجان من كلّ حاضرٍ وغائب، وتحكمت فيه الأيام من كل جانب وذاهب، واستغرقتْهُ الحَسَرَات على كل فائتٍ وآئب، وشتّتهُ الزمان والمكان من كل ثقةٍ ورائب، وفي الجملة، أتت عليه أحكام المصائب والنوائب، وحطّتهُ بأيدي العواتب عن المراتب، فوصفٌ يخفى دونه القلم، ويفنى من ورائه القرطاس، ويَشُلُّ عن بَجْسِهِ اللفظ، لأنه وصفُ الغريبِ الذي لا اسمَ له فيُذكر، ولا رسمَ لهُ فيُشْهَر، ولا طيَّ له فيُنشر، ولا عٌذرَ له فيُعذر، ولا ذنب له فيُغفر، ولا عيب عنده فيُستر. هذا غريبٌ لم يتزحزح عن مَسْقِطِ رأسه، ولم يتزعزع عن مَهَبِّ أنفاسه. وأغربُ الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البُعَداءِ من كان بعيداً في محل قربه. يا هذا ! الغريب من إذا ذَكَرَ الحقَّ هُجِرْ، وإذا دعا إلى الحق زُجِرْ. الغريب من إذا أَسْنَدَ كُذِّب، وإذا تَطَاهَرَ عُذِّب، الغريب من إذا إمتار لم يُمَر، وإذا قَعَدَ لم يُزَرْ. يا رحمتاً للغريب ! طالَ سفرهُ من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير، وعَظُمَ عناؤهُ من غير جدوى !

الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله. الغريب من إذا تنفس أحرقهُ الأسى والأَسَفْ، وإن كَتَمَ أكْمَدهُ الحُزْنُ واللَّهَفْ. الغريب من إذا أقبلَ لم يُوَسَّع له، وإذا أعرضَ لم يُسْئَلْ عنه. الغريب من إذا سَألَ لم يُعطَ، وإن سَكَتَ لم يُبدأ.. الغريب من إذا نادى لم يُجَب، وإن هادى لم يُحبّ. اللهم إنا قد أصبحنا غُرَباءَ بين خلقك، فآنسنا في فَنائك. اللهم وأمسَينا مهجورين عندهم ، فَصِلْنا بِحَبائك. يا هذا ! الغريب في الجملة كُلُّهُ حُرقه، وبعضهُ فُرقه، وليلة أَسَفْ، ونهارهُ لَهَفْ، وغداؤه حَزَنْ، وعشاؤه شَجَنْ، وآراؤه ظِنَنْ، وجميعه فِتَنْ، ومفرَقُهُ مِحَنْ، وسِرُّهُ عَلَنْ، وخوفه وَطَـنْ.

الغريب من إذا دعا لم يُجَب، وإذا هابَ لم يُهب.. الغريب من فَجْعَتُهُ مُحْكَمَة، ولوعته مُضرِمة. الغريب من لِبْسَتُهُ خِرْقة، وأكْلتُهُ سِلْقه، وهجْعَتُهُ خَفْقة.

[4] “ومازال حي بن يقظان يستلطفهم ليلا ونهارا ويبين لهم الحق سرا وجهارا فلايزيدهم ذلك الا نبوا ونفارا مع انهم كانوا محبين للخير راغبين في الحق الا انهم لنقص فطرتهم كانوا لا يطلبون الحق من طريقه ولا ياخذونه بجهة تحقيقه ولا يلتمسونه من بابه بل كانوا لا يريدون معرفته من طريق اربابه فيئس من اصلاحهم وانقطع رجاؤه من صلاحهم لقلة قبولهم وتصفح طبقات الناس بعد ذلك فرأى أن كل حزب بما لديهم فرحون ، قد اتخذوا الههم هواهم ومعبودهم شهواتهم وتهالكوا في جمع حطام الدنيا وألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر ، لا تنجع فيهك الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة ولا يزدادون بالجدل الا إصرارا . وأما الحكمة فلا سبيل لهم اليها، ولا حظ لهم منها، فقد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون”.

ابن طفيل، حين ابن يقظان، تقديم علي بوملحم ، دار ومكتبة الهلال ، بيروت، طبعة أولى، 1993، ص141.

[5] Albert Camu, l’étranger, édition, Gallimard, Paris,1942, ، بالنسبة لألبير كامو ، حياة الأفراد ، الوجود الإنساني بشكل عام ، ليس لها معنى أو نظام عقلاني. لأننا نجد صعوبة في قبول هذه الفكرة، نحاول باستمرار تحديد أو إعطاء معنى منطقي لأفعالنا. يصف مصطلح “العبثية” هذه المحاولة غير المجدية من قبل البشرية لإيجاد معنى عقلاني حيث لا وجود له، على الرغم من أن كتاب كامو لا يشير صراحة إلى مفهوم العبث، إلا أن مبادئ العبثية تعمل في الرواية. لا العالم الخارجي الذي يعيش فيه أخلاقي ولا العالم الداخلي لأفكاره، وكذلك سلوكه، بنظام عقلاني. يعكس الكتاب محاولة البشرية غير المجدية لفرض العقلانية على كون غير عقلاني، والمكون الرئيسي الثاني لفلسفة كامو عن العبث هو فكرة أن الحياة البشرية ليس لها معنى أو معنى، هدف تعويضي. يجادل كامو بأن الشيء الوحيد المؤكد في الحياة هو حتمية الموت. ولأن جميع البشر سيواجهون الموت في النهاية، فإن كل الأرواح لا معنى لها. طوال الرواية، يتحرك البطل مورسو تدريجيًا نحو هذا الوحي، لكنه لا يدرك واقعه تمامًا إلا بعد جدالته مع القس. لأن التمرد هو الجواب الوحيد على العبث. كما أنه يدرك أن عدم اكتراثه بالعالم يرتبط بلامبالاة العالم تجاهه. مثل أي إنسان، ولد مورسو ومات ولن يعود مهمًا. قبول حتمية الموت يحرر مورسو من الأمل الزائف. تلك الحياة المستدامة بشكل خاص، والتي كانت في الواقع مجرد عبء كان يجره. لذلك فهو حر في أن يعيش حياته كما هي، والاستفادة القصوى من الأيام المتبقية.

[6] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, op. cit. p.

[7] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, op. cit. p382.

[8] أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية، 1990، صص 97 الى 128.

[9]  أبو نصر الفارابي، كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، طبعة ثانية، 1986، ص45.

[10] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, édition du seuil, Paris, 1990, p

[11] Merleau-Ponty Maurice, phénoménologie de la perception، 1945، p. 488

[12] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, édition du seuil, Paris, 1990, p

[13] Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception, Gallimard, Paris, 1991, p. 414

[14] Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception, op.cit., p 415

[15] Ricoeur Paul, philosophie de la volonté, 1949, p123.

[16] Hannad Arendt, condition de l’homme moderne, 1958, Traduction Georges Fradier Préface de Paul Ricœur, édition Calmann-lévy, Paris,1961 et 1983.

 

[17] Jean-Marc Lamarre, Seule l’altérité enseigne, Dans Le Télémaque 2006/1 (n° 29), pages 69 à 78

[18] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, édition du seuil, Paris, 1990, p

[19] Edgar Morin, Introduction à une politique de l’homme,

[20] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, édition du seuil, Paris, 1990.

[21] Jean Zambe, une relecture de l’altérité selon Paul Ricoeur, édition l’Harmatton, cameroun,2017, 264 pages.

[22] Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, édition du seuil, Paris, 1990, p

[23] e. Paul Ricoeur, UR * Texte écrit pour la réception du Kluge Prize, décerné aux États-Unis (Bibliothèque du Congrès) à Paul Ricœur en

[24] Paul Ricoeur, autrement qu’être, au-delà de l’essence, édition PUF, Paris, 1997, p20

[25] Levinas Emmanuel,   Totalité et infini, Lahaye, Martunis Nijhoff, 1971, p22.

[26]Levinas Emmanuel, autrement qu’être au-delà de l’essence, Lahaye, Martunis Nijhoff, 1974, p32

[27] Violaine Houdart-Merot, Altérité et engagement : « soi-même comme un autre », https://books.openedition.org/psn/156?lang=fr

[28] P. Ricœur, « Étranger, moi-même », intervention à l’occasion de la 72e session des Semaines sociales de France, in L’immigration : défis et richesses, Paris, Bayard – Centurion, 1998,

شاهد أيضاً

كرامة الإنسان والعدالة الاجتماعية…بقلم  د. زهير الخويلدي

تمهيد   يقترح الفيلسوف بابلو جيلبرت إعادة التفكير في الاشتراكية بناء على متطلبات فكرة الكرامة …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024