بدايةُ كتابٍ مع ابنتي
لقد كبُرت نرجس. لم تعد تلك الطفلة الصغيرة التي ترفض النوم، وترفض صباحًا الذهاب إلى الكُتّاب، فأجرّها إلى بيت الحمّام لأغسل لها وجهها، ثمّ أجرّها إلى المطبخ لألْقِمها فطورها، ثمّ ألبسها لباس التلاميذ. وكل ذلك وهي مُغمضة العينين.
لم تعد تلك الطفلة الصغيرة التي أضعها على ظهري، حتى باب الكتّاب حيث يعترضنا كل يوم كَلبٌ من نوع «الكلب الذئب» يحرس مستودًعا لبيع الغنم مجاورا للكتّاب، ينبح نَبْحةً واحدةً، تنتبه على إثرها لتستوي على ساقيها وتدخل الكُتّاب.
لم تعد تلك الطفلة الصغيرة، التي أعجبتها قصة عبد المطلب وأبرهة وفيله، فرسَمَت مشهدًا لها، تقدمه للمعلمة من الغد، ولكنها تُواجَه بتنبيه المعلمة أن ما قامت به من رَسْم إنما هو «حرام» عليها تجنبه.
أصبحت ابنتي في السنة الثامنة من التعليم الأساسي.
جاءتني اليوم، وأنا على مكتبي فقمت لها كعادتي. قالت لي: «أبتي… كان أستاذ التربية الإسلامية يدرّسنا أن الدين الإسلامي هو آخر الأديان. ولكنني لم أقتنع بما ساق من براهين على أنه الدين الأكثر معقولية والأنظف من شوائب الأوهام. فتوتر وحذرني من إمكانية أنني في وضع أسيء فيه الأدب مع ديننا ومع إلاهنا ومعه … فهل أنا كذلك؟! والله لم أقصد هذا!».
قلت لها: «إساءة الأدب – حاشاك- أن تسبي وتشتمي. والكُفْر هو الجحود، أي عدم الإقرار بما تيّقنت منه النفس والعقل. وإنما سؤالك عن البرهان، وهو عَيْن ما يَطْلبه الله والدين وآخر النبيّين مِنْك: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾»…
قالت لي: «في هذه الحالة، أتسمح لي بأن أوجّه لك السؤال نفسه الذي سألتُ الأستاذ: ما بُرْهانكَ على أن الإسلام هو أفضل الأديان وأكثرها مطابقة للعقل؟»…
– دَعينا نبدأ بمدلول «الدين». الدين لغة: هو القانون، والسُّنَّة والنظام، والدولة. ولذلك نجد يوسف ﴿في دينِ المَلِكِ﴾، أي في نظامه السياسي. وكانت أنطاكية في سورة ياسين «قرية» في أوّل المقطع ثم أصبحت «مدينة» في آخره، أي دولة : ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى﴾، أي مِنْ أقصى السلطة وليس من أدناها أو أقربها للمَرْكز السلطوي. فالدين – إن شئنا- هو قانون للتفكير أو الأخلاق يؤكد للإنسان الألوهية والمقدَّس.
*-*-*-*
الدين ظاهرة إنسانية عامّة
– ألا تَريْن أن كل شعب له دين، وأنّ كل ثقافة لا تخلو من دين؟
– نعَم… «الهنود الحُمْر» لهم أديانهم؛ وآسيا الشرقية معروفة بالبوذية والكُنْفشيوسية والشّانتُوية، وغيرها؛ والهند معروفة بالبَرْهمية والإسلام؛ والإسلام يضمّ شعوبًا كثيرة في آسيا وإفريقيا وأوروبا الشرقية، وله أكثرية نسبية في دولتين بأمريكا الجنوبية: سورينام وربما غويّانَا؛ ويعتنق المسيحية عددٌ هام من العرب (الشعب الأصلي للمسيح) ومن شعوب القارّة الأوروبية والقارّة الأمريكية والإفريقية والآسيوية…
– ألا يُمكن أن نستنتج من ذلك أن الدين فِطري، أي ضِمْن مكوّنات الإنسان، ومن ضروريات وعيه؟
– نَعَم… ولكنها مختلفة… فهناك من يؤمن بإلاه واحد، وهناك من يؤمن بإثنين، وهناك من يؤمن بما أكثر… وهناك من له «نبي»، وهناك من ليس نبي.
– صحيح.. ولكنْ كلها تشترك في مَطلب الألوهية بماهي قوة خالقة للكون والإنسان…كلها تشترك في أن هذه الألوهية تُوجد مقدّسًا ينظم حياة الإنسان فارضا أخلاقيةً ما… وتقريبا كلها تشترك في الحضّ على حُسْن الخُلق… وكلها تشترك في وجود آباء للدين، لنُسَمِّهِمْ: «أولياء»، أو «أنبياءًا»، أو غير ذلك، ولكننا سنتفق على أنهم «سُفراء» بين الألوهية والنّاس… فالإنسان كائن ديني أوْ لا يكون.. هذا ما أكَّده عِلْم الإناسة وعلم النفس وعلم الاجتماع….
– لكنْ، يا أبتي..هناك مَنْ يُعْلِن عدم إيمانه بالألوهية، أي، إنّ سَمَحْت، يُعلن إلحاده؟
– لا تستعملي في هذا المَوضع: «إن سَمَحْتَ». فالملحد، إن كان صادقا، إنسان قد استعمل عقله، ولكن بحثه البُرْهاني لم يُوصْلْه إلى معرفة الألوهية.. وهاهو الفيلسوف المسلم، والمناضل الاجتماعي، رُوجِه غارودي يعلن أن الإلحاد يمكن أن يكون أحد الطرق المؤدية إلى الإيمان، ضِمْن كتابه: هل نحن بحاجة إلى الله؟..
ومِن ناحية أخرى، لا وُجود لشعب مُلحد، فالظاهرة تبقى فردية، وربما هي متعلقة بعوامل تهمّ التاريخ الفردي. وأستطيع أن أؤكد لكِ أنه لا وجود لملحد حقيقي في العالَم…
– كيف؟
– كل الملحدين لهم مقدَّس ما. لا يمكن العيش دون مقدَّس. هذا المقدّس إسمه «وطن»، «دستور» (في مقام الكتاب المقدّس)، «عَلَم»، «مبادئ»، «عَقْل»، «عقلانية»، «الأم»، «الأب»، «الذات»… والمقدّس يُحيلنا إلى الألوهيّ، لأن الإله هو مقدّس أيضا، بل هو المقدّس المجرّد، أي «المقدّس» دون إضافات..
– طيّب… وكيف نفسّر هذه الاختلافات بين الأديان؟
– لو تقومين برسم جَدْول، سوف تجدين أن هذه الاختلافات يُمكن أن نضعها في أودية، وستجدين أن تلك الأودية متوازية، أيْ أن أصْلها الموضوعي واحد… سأقدم لك هذا الجدول الناقص لتفهميني:
الألوهيُّ | وحداني وظائف متعددة للإله الواحد | ثنائي متعدد | الوظائف مقسّمة بين أطراف ألوهية |
الوسيط بين الألوهيّ والبشري | نبيّ | كاهن، (…..) ، (……)، (……) | |
المُدوّنة الخُلقية: الواجب | …………………….. | …………………………………. | |
المدوّنة العِبادية | …………………….. | ………………………………….. | |
……………………………… | …………………….. | ………………………………….. | |
…………………………….. | ……………………… | ………………………………….. |
– هذا ما يؤكد أن الأصل واحد، وأن التأويلات كثيرة، لملء الفراغات، وللإجابة عن الأسئلة التفصيلية..
– هل يُمكن القول إنّ البداية، كانت بالألوهية المتعددة لنصل إلى الألوهية الوحدانية؟ أم إن البداية كانت بالألوهية الوحدانية لنصل إلى الألوهية المتعدّدة؟..
وهل يمكن أن نقول إن أديان الألوهية المتعدّدة أقل ذكاءًا من أديان الألوهية الوحدانية؟
– إذا كنت تقصدين أن هذا الدين «س» ذا الألوهية المتعددة قد تحول إلى هذا الدين «ش» ذا الألوهية الوحدانية، فهذا تسرع؛ لأن «س» يمكن أن يُصبح «ش»، والعكس أيضا صحيح…هذا الطلوع وهذا الهبوط حدثا عديد المرات لنفس الشعب. ودرجة الذكاء «واحدة» بين الوعْيَيْن الألوهَّيْين لأنهما يتناوَلان شيئا واحدا بلغات مختلفة…هذا ما أكده الحكيم ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ وألواح توراةٍ، ومصحف قرآنِ
والقرآن الكريم يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا. فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ، وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون ﴾.
– وفي أوّل التاريخ، كيف كانت البداية؟
– الأرجح عقلا أن البداية كانت وعيًا ألوهيّا وحدانيا، لأنه الأكثر بَسَاطةً والأقل تعقيدًا، والأقل قابلية للإحراجات البَرْهنية والنقدية – العقلية. فمن الأكيد أن الإنسان الأول ظَهَر كاملاً عقليّا، وإلاّ فمن المستحيل أن تَظْهر مِنه لاحقا أجيال كاملة عقليّا، بل يجب أن يكون هو الأكمل منها، وربما ضَعُفَ التفكيرُ البشري مِن حين لآخر بَعْدَه.
– كيف يمكن أن نصنّف الأديان الحيوية، أي الأديان التي ترى في كل شيء روحًا؟
– الدين الحيوي، كالذي ساد في القارّة الإفريقية وما زال في بعضها، وكالذي سَاد لدى الهنود الحُمْر، دين يؤمن بكائن مجرّد من المادّة، لا يُرَى، موجود بيننا وخارجنا، هو الذي خَلق وما زال يخلق هذا العالَم… وهذه الخاصيّة هي التي جعلت الإفريقي يقبل الديانة الوحدانية الإبراهيميّة ولا يرتدّ عنها: فكانت الحبشة أول الدّول إيمانًا بالدين المسيحي، ولما أسلمت إفريقيا الغربية بقيتْ كذلك ولم ترتدّ كما حَصَل في بداية التاريخ الإسلامي لإفريقيا الشمالية…
– أحيانا نجد اختلاطا بين الألوهيّ- الوحْداني والألوهي- التعدّدي في الدين الواحد… أليس كذلك؟
– مثلا؟
– …في الدين المسيحي، هناك «إله» وهناك «ابنُهُ»، أي إلَهٌ أعظم وإلَهٌ صغير.. وهناك «Marie» التي قد توحي بأنها زوجة الإله… وفي الدين البَرْهمي، قرأتُ أنّ فيه تناقضا بين إلَه واحد، مع وجود آلهة أخرى…
– مثالان دقيقان. أحسنت! لكن أوّلاً، كان عليك أن لا تقولي: «الدين المسيحي» في المطلَق، بل كان يجب أن تقولي «الدين المسيحي في صيغته الرومانية- الكاثوليكية»- التي أنْتِ تتناولينها مقابل «الدين المسيحي في صيغته السُّورية- الآرامية». الأوّل تجسيديّ للإله، والثاني تجريدي له ولا يمنحه جنسًا (مذكّرًا أو مونثا)…
فإذا أردنا البحث في الألوهية المسيحية في صيغتها الأولى، السورية – الآرامية، ليس لنا من وسيلة إلى حد اليوم سوى الرجوع إلى السِّيَر المتوفرة عن حياة المسيح: لوقا، يوحنَّا، برنابا… سَوْف نجد بها تأكيدًا لإله واحد: ﴿للرب إلاهك تسجد، وإياه وحده تعبد﴾ (مَتّى، الإصحاح: 4-10)، ﴿الرب إلاهنا رب واحد﴾ (مرقس، الإصحاح: 12-29).
رفَضَتْ سلطةُ رومة، طيلة أكثر من قرنين، الدينَ المسيحيَّ واضطهدت مؤسِّسَهُ وأتباعه، ولما قَبلتْهُ أدمَجت فيه تقديس رومة العريق لعدد «3» (بينما التقليد الإبراهيمي- السوري يُقدّس العدد «1» والعدد «7»)؛ وأدمَجت فيه إيمانها بألوهية القيصر وانحداره من الآلهة، وذلك ما يقتضي أن يصبح المسيحُ قيصرًا ملكًا وأن يُصبح هو أيضا ابنا لله، حتى يكون ادعاء القيصر مقبولاً، وتكون سلطته شرعية…
أما في الحالة البَرْهميّة، فيجب أن نميّز نَصَّيْن، أي زمنيْن، في تاريخ الديانة البرهمية. فالنص المؤسّس هو «الفيدَا»، وقد ظهر في القرن الـ15 قبل الميلاد، يتناول إلهًا واحدًا، أما النصُوص اللاحقة، (950ق.م، القرن 6م..) فتُلْحِق بالإله «الواحد/الأحد» (كما جاء في النص الأول)، آلهة أخرى مطابقة لتكوين الجسم، ولتكوين المجتمع الهندي آنئذ: الطبقة العليا، والطبقة العسكرية و«المنبوذون»…
فالنص التأسيسي («الفيدَا») يؤكد: ﴿لا يوجد سوى إلاه واحد﴾ (الفيدَا، الكتاب 10- الترنيمة 14)، و﴿الإلاه لا صورة له﴾… أما «الآلهة» فقد دُوّنت منذ سنة 950 ق.م. فمِن الواضح أن الطبقتيْن القويّتين، وهما أقليّة في الشعب الهندي، كانتا تحتاجان إلى وجود «آلهة» لكي يصبح وجودهما شرعي، غير قابل للثورة عليه…
– إذن… فالأصل هو التوحيد…
– نعم .. وهذا ما ذهب إليه القرآن الكريم، إذ أكد أنّ الإنسان الأوّل كان موحِّدًا…
الإسلام بين الأديان
– كيف يمكن التعرف على الإسلام بين هذه الأديان الكثيرة؟
– يمكن أن نتعرف على الإسلام (وعلى أي دين في الحقيقة) بأنْ:
نتعرّف على تاريخ ظهوره، لأننا سنفهم مدى أصالته ونوعية علاقته «بالأديان» السابقة عليه.
نتعرّف على مؤسِّسه (النبي محمد في حالتنا الإسلامية) لأنه هو المسؤول عن تحديد ماهيّة هذا «الدين».
نتعرّف على نصّه التأسيسي (القرآن الكريم في حالتنا).
– لو بدأنا بتاريخ ظهوره…
– من الظاهر، والمتفق عليه، أن «الدين الإسلامي» أعْلَن عنه «عارفٌ» (أي رمزٌ أخلاقي ذو نزوع باطني وإصلاحي- اجتماعي) إسمه «محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي» في 10/8/610م. كان هذا الدين «امتدادًا» مجدَّدًا للديانة الإبراهيمية، نِسْبةً إلى نبي عراقي- سوري إسمه: إبْ-رَاهيم، (=الأب الرحيم)، ابن تَارِح الأُورِيّ، كانت له ذرية بمكة، انحدر منها هذا الرجل الهاشمي.
– ما ضرورة ظهوره ؟
– أتعلمين؟ هذا سؤال فلسفي…لم يسبقك إليه إلا العالِم الطبيب ابن النفيس في كتابه «الرسالة الكامِليّة في السِيرة النبوية»!!
– إذن… فأنا فيلسوفة، أو ابنة نَفيس!
– أنتِ أنفَسُ، لأنك روحي التي بين جنبيَّ..
ولكنّكِ- على ما أظن- سوف لن تَفهمي كتاب ابن النَفيس اليوم، أي في سنتكِ هذه…
– …على كل حال…سأحاول قراءة نصه، إذا كان موجودًا بمكتبتك…
– نَعَم..هو موجود، ضِمن جناح «سِيَر نبوية».. لكنْ لنعد إلى مَطلبنا…
كانت التآويل حول الدين الإبْ-رَاهيميّ قد تكاثرت بصفة غير عقلانية…فهناك تآوِيل «يهودية» (أي تَدَّعي «الهَوْد» أي العَوْد إلى الإبراهيمية الأصلية) بين حاخاميات شامية وأخرى يمانية وغيرها، أقحمتْ مَرْكزية عرق وهميّ هو «بنو إبراهيم»، ليصبح كل أبناء «الأقوام» (=«القُوِيم» في اللغة العربية_الآرامية، اللغة الأولى للإبراهيمية) أقل شأنًا (مما يذكّرنا بالتفاوت الطبقي في الكتاب البرهمي الثاني)، وليصبح «الله» نفسه بين التجريدية وبعض المادّية.
وهناك تآويل تدَّعي الانتماء إلى عيسى بن مريم الناصري (نسبه إلى «الناصرة» الفلسطينية)، تكاثرت أكثر من المعقول، وجلّها متأثر بالثقافة الرومانية ما قَبْل تنصر قسطنطين الأكبر… ليصبح المسيح «ابنًا لله»، بينما هما ليسا مِن جنس واحد ( بَشر بشر)، في تناقض مطلق مع الآيات الكثيرة من السِّيَر الإنجيليّة التي تجعل عيسى الناصري «ابن الإنسان». وتحول المسيح من مُناضل ضدّ المركزية العرقية والإمبريالية الرومانية باعتباره ثوريّا ضمن حركة التحرير الزِّيلُوتية في سوريا ليطوّر انتماءه الثوري في أطروحته العرفانية بالإبراهيمية، إلى مشرّع لدكتاتورية القيصر وكل طاغية، حتى حَكَم بالإعدام أوغسطينُ العنّابِيُّ على دُونات الراهب الثوري الذي نادى بتحرّر الشعب الأمازيغي من الاستعمار الروماني، كما فعل عيسى الناصري- الزّيلوتي…
إذن، كانت «الأديان» الكبرى: البرهمية، المسيحية، الموسوية في حالة تناقض وخدمة للطغيان واللاعقل.
وكان لابدّ من مجدّد مُعقلن للدين الإبْ-رَاهيمي، أي «إبْ-راهيم» (=«أب رحيم» في اللغة العربية_الآرامية) عالَمي جديد…
– كيف تسنّى لـ«محمد بن عبد الله الهاشمي» ذلك؟ هل تلقى تكوينًا مدرسيًّا؟ فهذه المهمة العظمى تتطلب إنسانا أعظم قدرات عقلية وجسدية وأخلاقية مِن كل بَشر؟!!
– هنا وَصَلْنَا إلى المطلب الثاني: سيرة المؤسِّس!!
ربُّ العالَمين، يُريد وحدة العالَمين. يُريد دون شك إيقاف حرب الكلّ ضدّ الكلّ، وتمزق البشرية، وتشوّشِ دينه الفِطريّ… وإلاّ لن يَكون إلاهًا… فالإلاه فعلا يجب أن يكون مهتمًا بمصير أعظم مخلوق لديه (الإنسان)، وبأن يكون ذا عقل، وله علاقة واضحة وغير مشوّشة بخالقه، وبأن يكون مسالِمًا لا ذا نزعة قَتْلية أو اضطهادية أو سَرقِيّه تجاه أخيه الإنسان… ولن يجد من أجل ذلك أفضل من «سَفِير بارّ، كريم» (حسب سورة عبس)، يكون الأكثر إنسانية ليفهم الجميع قَصْدَه مِنْ خَلْق العنصر البشري، فيقتدون به…
– … إذنْ، فهو الذي يجب أن يربّيهُ تحت رعايته المباشرة؟
– نعم… وِفق السُنن الطبيعية والسُنن الاجتماعية التي خلقها… كان سَلِيل عائلة رَاكَمتْ أطروحة «التَقريش» (= تجميع الناس لا تفرقتهم) فقصيّ/ قريش، جَمَّع بنو إسماعيل الذي أقصتهم كِنانة عن الكعبة، كما فعلت الحركة الصهيونية بالشعب الفلسطيني، وقادَ مقاومة مظفرة لاسترجاع الوطن… وهاشم وعبد المطلب، قاما بكثير من الإصلاحات الاجتماعية والاعتقادية والطَّقْسية… وعبد الله كان سَفير أبيه لتركيز دولة الإيلاف القرشية في العالَم (الحبشة، مصر، سوريا، إيران، اليمن) بواسطة المَصارف التجارية، وللتبشير بميلاد مخلّص العالَم الأعظم، الذي بَشّر به موسى وعيسى، حتى استشهد بيثرب على يد الحاخامية اليمانية… وكانت أمّه آمنة أفضل النساء في العالَم آنئذ… فـ«حليمة السعدية» خرافة لا أساس لها… وهل الموحّدة أفضل أم إبنة البداوة المشركة؟!
علاوة على هذا الميرات الروحي، والسياسي، كان الشاب محمّد يعيش الصوم والصلاة ليتصفّى أكثر، وليصل أكثر إلى الله
فكان اجتماعيّا، ليس هناك مَنْ هو أكثر اجتماعية منه؛ وكان مختليّا بالله في بيته، وخاصة بغار حراء، وليس هناك من هو أكثر اعتزالية منه… هذا هو التوازن المطلوب: العيش في الخارج وخِدمته، والعيش في باطن الباطن حتى نَعرف نفْسَنا فنَعْرف ربّنا فيُرَبّينا مباشرةً..
كما أن تجربة حبّه لأعظم امرأة كان ممهدًا لتصفية روحه أيضا… ففي كل واحد منا- كما يقول عالم النفس المتدين العظيم يونغ- مُكوِّنَانِ: واحد ذكوري وآخر أنثويّ مع غلبة واحد منهما، ولإحداث التوازن ولتكميل الذات، لابد أن يحبّ الواحد منا ذاتًا أخرى مقابلة له في الجنسية. وقد كتب العارف العظيم رُورْبِهَان: «نحن نتعلم الحبّ الإلهي في كتاب الحبّ البشري» في كتابه: ياسمين العشاق. وقد كان الرسول يذكر خديجة دائما، إذْ منحته طاقة عطف عظيمة، وصدَّقَتْه حين كَذَبهُ النّاس، ودَثَّرَتهُ حين الوحي، ومنحّتْه كل مالها ليكون أكرم النّاس، وبعد كان كل يوم معيّن في الأسبوع يُضيِّف صديقاتها إكرامًا لذكراها…
كل هذا هو الذي أهَّل الشاب محمّد ليصبح نبيًّا، بل تاج الأنبياء، لأن مهمته التاريخية هي الأكثر «وِزْرًا» (حسب سورة الشرح) من المهمّات التاريخية للأنبياء الآخرين… وعليه، فيجب أن نجد في تاريخه الصحيح، وغير المبالغ فيه في الآن نفسه، ما يُثبت ذلك. هنا يقودنا المنطق الفلسفي إلى تلمُّس السيرة المحمّدية الصحيحة، كما فعل ابن النفيس…
محمّد كان رحمة للعالَمين… كان منذ البداية «الصادق الأمين»… وبقي حتى ليلة هجرته هو بنك أموال أعدائه وأشيائهم أنفسهم، مضطرًّا لإرجاعها لهم آنئذ (وربما تفطن بعضهم لعزمه على الخروج من مكة بذلك التصرف)… هل يمكن لمن كان «صادقا أمينا» طيلة 40 سنة أن يكذب في قولِهِ إنَّ له مهمَّة من الله؟!
هنا يجب أن نذهب إلى رسالته (القرآن الكريم) لكي نجد فيها (إن كانت فعلا من أحكم الحُكماء، وخالق العقلِ والعَرْشِ الذي يقوم عليه الكون) انسجامًا وعدم تناقض، وحلاَّ منطقيّا لكل مشاكل البشرية العظمى.
كان في «معركة الفِجار» مهندس المقاومة المكيّة ضدّ المعتدين، وكان في فكرته «حلف الفضول» معيدًا لتأسيس الإيلاف السياسي القرشي وفق الشروط الأخلاقية – الإنسانية… كان من الواضح أنه الأفضل في العالَم آنئذ…
– وكيف نثبت أنه أفضل إنسان في العالَم إلى اليوم؟
– لقد افترض ذلك الإسكتلندي توماس كارْليل (1795- 1881)، ضِمْن كتابه الأبطال. ولَمْ يُعْط هذه المرتبة، لا لعيسى ولا لموسى، ولا لبوذا، وغيرهم…
وأنا أنصحك بقراءة كتاب المفكرة أنَّا- ماري شِيمَّل: وأن محمّدًا رسول الله، لِتَقِفي على خصائص هذا الرسول. ويمكنك أيضا الاطلاع على سِيَره الأخلاقية (أبو عيسى الترمذي، البيهقي، أبو نعيم، القاضي عياض..). وهو الذي عرّف الإسلام تعريفًا أخلاقيا: «إنما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارم الأخلاق»، وجعل تحية المسلم: «السَّلام عليكم!». وبَعْد دراسة مطوّلة تقول شِيمَّل أنّ محمدًا أُيِّدَ «بجاذبية غير عادية لشخصيته».
إذا قارنَّا سيرته بسِيَر عيسى وموسى وإبراهيم وبوذَا، سوف نكتشف –بموضوعية- أنه نجح أكثر منهم، مِنْ حيثُ تأثيره في زمنه المعاصر له، ومِنْ حيثُ بقاء تأثيره واتّساع حِمَويّتِه بعد وفاته دون قوى إكراه… صحيح أنه استثمر نجاحات هؤلاء العظماء قَبْلَهُ، ولكنَّ ذلك غير كافٍ… فَلَنْ نجد نصوص هؤلاء اليوم بوضوح، وبقين، بينما الجميع في كل أنحاء الأرض مقرّون أن نصّه التأسيسي (القرآن الكريم) هو نفسه، لم يَزدْ ولم ينقُص… وما دام نصه التأسيسي هو الكامل، والأكثر يقينية؛ وما دام الدين ضرورةً إنسانية، أليسَ مِن العَقْل أن نجعله هو دليلنا؛ نحن البشرية؟!!
– نَعم .. هذا عَين العقل… فكيف نُثبِتُ أنّ مضمون القرآن الكريم هو عين العقل أيضا؟!
– بماذا تُريدين أن نبدأ؟
– … مثلاً.. بموقفه من الجُنُوسة الإنسانية؟
– … هذا يُحيلنا إلى هذه الآية: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ * وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا* وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾. فالأصل نَفْسٌ واحدة، انقسمتْ إلى زَوْج، أي إلى ثنائي؛ ومِن ذلك الزَّوْج كانت البشرية. وقد بقيتْ في نفس كل واحد منَّا ازدواجية النفس الواحدة الأولى (الذكورة والأنوثة) لتغْلُبَ نِسبيّا واحدة منهما، فيُشخَّص الكائن بأنه مِن الرجال أو من النساء… وهذا ما جعل كل الواجبات والحقوق في الإسلام هي نفسها بين الرجل والمرأة…
– … حتى في السياسة والاكتساب؟
– نَعْم…في السياسة: ﴿وَالمُؤمِنونَ وَالمُؤمِناتُ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعضٍ﴾. فالولاية السياسية لا تستثني أحدًا… وهذا ما نفّذه النبيّ في دولته إذ كان يُشاركه الولاية السياسية «نقباء» و«نقيبات»… أما في الاكتساب: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا * وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾…
– … لكنْ أَليس هناك إشكال في توزيع الميراث؟
– … في الرياضيات، هل إن المعادَلة: 5 = 5، يمكن أن تُنَوِّعِي أشكالها؟
– نَعم… 5 = 3+ 2؛ 5 = 1+ 2+ 2؛ 5 = 7-2……
– ليس في كل الحالات هناك تفاوت ظاهر بين الذكور والإناث في الميراث… ولكنْ لننظر في هذه المعادَلة:
مَصادر الثروة الإناثية: المراكمة الدائمة (عدم الانقطاع عن المراكمة بالتجنيد الإجباري…) + عدم إجبارية الإنفاق + عدم الدّيّة الجماعية + نصف الميراث.
إذا قلبنا هذه المعادلة ألاّ نجد شِبْه تَساوِ مع ميراث مصادر الثروة الذكورية؟
– ألَيس من العقل عدم تعدّد الزوجات؟
– نَعَمْ… ولذلك لم يتزوّج النبيّ مع خديجة أي امرأة أخرى…
– إذن… فلماذا عدّد زواجاته بعد وفاتها؟
-… بالأدق: لماذا عدَّد زواجاته في دولته بيثرب؟
… مع إحداهن، كان يجب أن يَمْنع زواجها برجل غير مسلم أصرّت عليه بتِعلّة العنوسة، حتى لا يكون أوّل انشقاق إناثي عليه في الإسلام.. مع أخرى، كان يجب أن يتزوج امرأة الثمانين التي هاجرت ولم يكن معها أحدٌ، وكانت تعاني من الشيخوخة وأعراضها.. ومع أخرى كان يجب أن يتزوجها لأنها هاجرت من مكة إلى الحبشة مع زوجها وأسرتها، فلما رجعوا إلى يثرب، كان الزوج منذ الشهر الأول يُلبّي الزوج نداء الدفاع عن المدينة فاستشهد في أُحُد… ومع أخرى، كان يجب أن يَجْبُرَ خاطِرَ ابنةَ عدوّه الذي ألَّبَ عليه العَرب حتى كادت دولته تنهار في معركة الأحزاب، فكان إعدامه وإعدام شريكه: زوجها لخيانتهما العظمى دستوريّا، فكان من الإنسانية أن يقترح عليها الزواج بها… ومع أخرى كان يجب أن يَجْبُر وضع قريبته التي أكرَهَتْ نفسها للزواج بمن لا تحبّ انصياعًا لطلب الرسول (رغم أن الخطأ الأصلي منها وليس منه)…
ولكنْ أتعلمين أن تعدّد الزوجات في الإسلام، لا يمكن أن يكون بعد الزوجة الأولى إلاّ مِن أمهات اليتامى فحسب؟؟!
– … لا .. كيف ذلك؟؟ هذه مفاجَأة!!
– كانت سورة النساء في الآية الثانية تريدُ معالجة الكارثة الديمغرافية بمعركة أُحُد، بمعالجة نتيجتها: اليُتْم، من الناحية المَعاشية- المالية. وحتى لا يَختلط مال الكافِل بمال اليتيم، اقترحتْ زواجَ صاحب الزوجة مِنْ قبْلُ – بأم يتيم: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ، فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم [ ما كان طيبا من حيث الحساب الديمغرافي والقدرة المعاشية للزوج الواحد]: مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [فأضيفوا واحدة فحسب]..﴾ [فأضيفوا واحدة فحسب] (النساء، الآية 3).
فهذا الحصر القرآني، يجعل كل تعدّد زوجات خارج سياق اليُتْم والكارثة الديمغرافية الذكورية حرامٌ قرآنيا، ومجرد أهواء مُتْرفية وسلطوية وجدتْ تبريرات فُقَهائية شيطانية، أو سامِريّة – إن شئت-، أي كما فعل السّامري أخذ ﴿قَبضَةً مِن أَثَرِ الرَّسولِ﴾ وخلطها بخبثه وأهوائه…
– وكيف كانت دولة يثرب؟
– كانت دولة قائمة على دُستور إسمه «الصحيفة» دوّنها الرسول مع النقباء والنقيبات من سكان يثرب والوافدين عليها، مِنْ 3 ديانات بدايةً: الإسلام والشرك واليهودية، وقد نصَّتْ الصحيفة على «رِبْعتهم»، أي بلُغَتِها: «على حريّاتهم» و«استقلالهم الذاتي».. قَبْل أن تضمّ كل الجزيرة العربية قبل وفاة الرسول ببضعة سنوات…
وقد أعلنَتْ الصحيفة في بُنْدِها الثاني عشر أنها لن تَتْرُك فقيرًا واحدًا بدولتها: «وأن المؤمنين لا يتركون مُفرحا»…
ولقد أقرّت سورة التوبة أنّ هذه الدولة قد نفّذت ما وعدتْ به، ولم تَتْرُكْ مُتْرَفًا واحدًا، لأنّ الترف يوجب «تأمير» المُتْرف، وعليه يوجب إفقار جزء من السكان. ولذلك نَقم المترفون – سابقا- على الأكثرية: ﴿أَن أَغناهُمُ [جميعا] اللَّـهُ وَرَسولُهُ مِن فَضلِهِ ﴾ (التوبة، 74). وقد عوّضت هذه الدولة للمترفين الذين كانوا يكنزون الثروة الباطنية ويحتكرونها بالرِّبَا بسَهْم «المُؤلفة قلوبهم».
– … وهل بقيت هذه الصحيفة بعد وفاة الرسول؟
– ليس المطلوب أن يبقى نصَّ هذه الصحيفة، بل المطلوب أن تبقى روحها: «الرِّبْعة» و«العدالة المَعاشية» و«الولاية السياسية المشتركة». مِنْ سوء الحظ أن هذه الصحيفة ألغيَتْ دون مبرّر ولم تُعوَّضْ بأخرى مِنْ رُوحها، ودخلنا شيئا فشيئا عهود التفاوت المَعاشي والقهر الجُنوسي والجبَّارية السياسية (= ﴿وَلَم يَجعَلني جَبّارًا شَقِيًّا ﴾ (مريم، 32)، ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾ (الغاشية، 22).
– … لكنْ من الأكيد هناك استثناء، بعد انهيار الخلافة الراشدة…
– … نعم… يمكننا التأمّل في دَولة المَلِك أكْبَر بالهند، ودولة القرامطة ذات العدالة الاجتماعية والعدالة الجُنُوسية، والدولة الرستمية… فهي قريبة من روح دولة الرسول، على عكس «المُلْك العَضوض» الأمويّ والعبّاسي، على حدّ وصف النبي..
– اللهم صلّ على سيدنا محمد!! أصبحتُ اليوم أكثر قربًا منه، بهذا الحِوار الرائع معك يا أبتي..
– أتدرين ما معنى «اللهم صلّ على محمّد…!»؟
– هاتِ رؤيتك!
– معناها: « يا الله اجعلني أتّصل به! اجعلني أقارب الإنسانَ الكاملَ، الإنسانَ الأعقلَ، الإنسان الأعْدل… الإنسانَ الذي لم يَغْزُ قط، بل بقي دائما يُدافِع ضد المعتدين، فالغَزْو هو الدخول في دِيار الغير واستباحتها». على العكس، كانت حربه دفاعا: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾ (البقرة، 243)… أقارب الإنسانَ الذي قَبِل الاختلاف، ولم يقتل منافقا واحدًا: «أتُريدُ أن يُقال إن محمّدا يقتل أصحابه؟!»، «هلاَّ شققت على قلبه!»… الإنسان الذي أرسله الله ﴿رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾… وإلا فنحن لسنا «مسلمين» حقيقيين… «اللّهم صلّ على محمّد» معناها: اللهم اجعلنا كلَّنَا، جميعا ﴿رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾، حَصْرًا: ﴿إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾.. هناك تفيض البشرية عقلاً وعَدالة وسعادةً إيمانية..
– نعم… أنا متفائلة بذلك…
– نعم … ﴿إِنَّهُ لا يَيأَسُ مِن رَوحِ اللَّـهِ إِلَّا القَومُ الكافِرونَ﴾…
*-*-*
كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل إلاّ الربع، فقلت لنرجس:
– هل أرْضَيتُكِ قليلاً؟
– … بل كثيرًا… رغم أنه من المستحيل أن نُكْمل تناول عقلانية الإسلام وجماليته..
– صحيح… وفي هذه الحالة، ألا يستحق أستاذ التربية الإسلامية أن نشكره، لأنه تسبب- دون قَصْد في هذه المُحاورة التي أرضتكِ؟!..
ضحكتْ وقالت: «نعم… بِوجْهٍ ما!».
– إذَنْ… تُصبحين على خير!
– تُصبح على خير!
رجعتُ إلى عملي، على المكتب، وكان يتناول: الدولة الناجحة في العالَم المضادّ للإمبريالية… ولكنّ نَرجس عادتْ من جديد. فقُلت لها: «هل عُدْتِ إلى أيام الطفولة…عندما كنتِ ترفضين النوم… وإلاّ فلماذا عُدْتِ؟!».
قالتْ: «أردتُ أن أقول لك… أتدري؟ إننا كتبنا كتابًا، دون أن نشعر!… سأعيدُ تذكّره منذ البداية، لتراجعة كما شئتَ… وقد اخترتُ له عنوانًا: «الدينُ مفسّرًا لابنتي»… أنسيت أنك أهديْتني يومًا كتابًا بهذا العنوان؟! ولكنّ مضمونا الكتابين ومَنْهَجَاهما متخالفة…
قمتُ لها، لأقبّلها قائلا: «ليكُنْ ذلك… يا روحي التي بينَ جنبيّ!».