1 – رؤيتان ورهانان.
على امتداد التاريخ البشري، وخصوصا على امتداد تاريخ الصراع بين أمتنا والطامعين في السيطرة عليها، ومصادرة إرادتها، ونهب ثرواتها، كنا نشهد رؤيتين متناقضتين.
رؤية ترى في التفوق المادي والعسكري والتقني للعدو قدرا لا يمكن مواجهته فتشيع اليأس بين أبناء الشعوب المتضررة، وتروج للإستسلام باعتباره الطريق الوحيد للعيش الرغيد..
ورأية أخرى معاكسة ترى في إرادة الشعوب قوة لا تقهر، بل ترى أن موازين الإرادات هي صاحبة القول الفصل في الصراع مع موازين القوى، لأنها تدرك أنها في غياب الإرادة فأن القوة نفسها تتآكل وتذوب وتذوي.. ومن هنا فأن أصحاب هذه الرؤية يتبنون المقاومة كخيار ونهج وثقافة، ويسعون إلى بث روح الأمل في شعوبهم ويدركون أن النصر آت مهما طال الزمن..
وفي ضوء الرؤيتين المتناقضتين، يبرز رهانان متناقضان أيضا، رهان على قوة العدو الذي لا يقهر، فيعمد لعقد صفقات استسلام وتطبيع مع هذا العدو، وعلى نشر ثقافة الهزيمة التي هي بحد ذاتها هزيمة ثقافية، كما هي هزيمة في كل مجال..
أما الرهان المبني على الرؤية الثانية فهو رهان على الشعوب وإدراك أن جيلا قد يتعب، وان قيادات قد تترهل، وأن حركات قد تضمر، لكن الشعب لا يتعب أبدا، والأجيال تنمو ليبرز جبل أقوى وأكثر ثباتا، وأن المقاومة لا تموت أبدا ما دام هناك احتلال يقهر الناس ويدنس المقدسات ويسلب الموارد ويدمر الطاقات..
المراهنون على قوة العدو لا يهادنونه فقط، ولا يساومونه على حقوقهم غير القابلة للتصرف فحسب، بل سرعان ما يتحولون إلى قوة في صفه، فيخوضون الحروب إلى جانبه ضد شعوبهم، ويسهمون بزرع الفتن في أوطانهم خدمة لمصالحه، ويتحولون إلى أدوات قذرة في مخططاته البشعة..
أما المراهنون على إرادة الشعوب، فهم لا يلجأون إلى المقاومة فحسب، بل يدركون أنهم بمواجهتهم ومقاومتهم إنما يوسعون المواجهة معه لتدخل أراض جديدة، وتجمعات لا يخطر للعدو أنها ستنضم يوما إلى مقاومته..
هذا الصراع بين رؤيتين، وبين رهانين، هو ما نراه أمامنا اليوم في الملحمة الفلسطينية الرائعة التي تشهدها الأراضي الفلسطينية كلها من البحر إلى النهر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش.. فينكشف فيها هذالة رؤية المتخاذلين، وهوان رهان المستسلمين، كما تتضح فيه سلامة رؤية المقاومين وقوة عزيمة الرافضين للاحتلال ومخرجاته في الذل والهوان..
لا بل في الملحمة الفلسطينية الجارية على أرض فلسطين اليوم يتسع ميدان المواجهة ليشمل الأمة العربية بكاملها من المحيط إلى الخليج، بل إلى العالم الإسلامي برمته من جاكارتا إلى طنجة، وكذلك العالم بقاراته الخمس..
فالعرب والمسلمون يجدون في هذه الملحمة ما يعيد لهم الثقة بأنفسهم وقدرتهم بعد عقود من الحروب والفتن والإنهاك المستمر والتشتيت المجتمعي، بل من الإذلال لكرامتهم، والتدنيس لمقدساتهم، فيتحركون في شوارعهم ليعلنوا أن فلسطين هي وطن كل شعب منهم، وأن القدس عاصمة كل بلد من بلدانهم، وأن الدم الفلسطيني المراق هو دم كل واحد منهم.. ويشعر العدو تهاوي كل إنجازاته “التطبيعية” مع بعض الحكومات العربية أمام إرادة كافة الشعوب العربية والإسلامية التي اذا لم تنجح اليوم في إجبار تلك الحكومات على إلغاء اتفاقيات التطبي، فانها قد نجحت في تجويف هياكل هذا التطبيع وفي محاصرة مخططاته وأحلامه بالتوسع والانتشار..
أما العالم الذي تمتلأ شوارع عواصمه ومدنه بتظاهرات التضامن مع الحق الفلسطيني، والنديد بالجرائم الصهيونية، فقد بات يدرك في قاراته الخمس أن “العدالة لفلسطين” هي عدالة للعالم كله، وان الحرية لفلسطين هي حرية للبشرية كلها، وأن سقوط العنصرية الصهيونية هو إسقاط آخر قلاع العنصرية الإرهابية في العالم..
في ملحمة فلسطين اليوم لا تنتصر العين الفلسطينية على المخرز الصهيوني فحسب، بل ستنتصر مهما كانت النتائج، رؤية على أخرى ورهان على آخر..
أما العدو الذي قاده طغيانه وغروره وعنجهيته إلى التوغل في جرائمه ومجازره وحرب إبادته، فسيدرك معنى الآية الكريمة: “ويمدهم في طغيانهم يعمهون” صدق الله العظيم.
2 – إنجازات في الميدان وخارجه.
من الطبيعي ان تطفو أنباء الإنجازات الميدانية للملحمة الفلسطينية، المستمرة منذ أسابيع، والممتدة على طول فلسطين وعرضها، على كل أمر آخر… فما يجري في الميدان الفلسطيني من مواجهات بطولية، وتضحيات جسيمة كان مفاجأة للأمة كلها التي أمتلأت عواصمها ومدنها بمسيرات التلاحم والتأييد للشعب الفلسطيني البطل والتنديد بجرائم العدو الموصةفة ومعها أمريكا ودول الغرب والتي ترقى الى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. كما كان مفاجأة للعالم كله الذي فاجأنا أحراره في القارات الخمس بعمق تعاظم تاييدهم لشعار “العدالة لفلسطين” والانتصار لقضيتها والتنديد بعنصرية الكيان الغاصب .
لكن انشدادنا الى ما يجري في الميدان يجب ان لا يغيب عن انظارنا إنجازات أخرى تحققها هذه الملحمة على غير صعيد…
فلقد أسقطت هذه “الملحمة” الرائعة ،فيما أسقطت، تلك النظرية الرائجة حول الأجيال الجديدة، واتهام البعض لها انها قليلة الاهتمام بالشأن الوطني والعربي عموماً، وأن جل اهتمامها بات في الرياضة والغناء والرقص وغيرها، فجاء شباب فلسطين الرائعون ببطولاتهم ، وبتضحياتهم وبابتساماتهم وهم مقيدون بسلاسل العدو، ومعهم شباب الامة،ليثبتوا صحة المقولة المناقضة وهي انه اذا تعب جيل ، او ترهلت قيادة، او تراجعت حركة، فأن الأجيال لا تتعب ، وان رايات المقاومة تنتقل من جيل الى آخر.
كذلك اسقطت هذه الملحمة نظريات حول دور المرأة العربية واعتبارها مجرد حبيسة المنزل، فإذ بهذه المرأة، بأجيالها المتعددة، تنزل الى الميدان وتقاوم بكل شراسة وتؤكد على دورها المتقدم في مواجهة الاحتلال ..
كما أسقطت هذه الملحمة هو ذلك “الفصل المتعمد” بين مكونات الشعب الفلسطيني، حيث أمضى العدو عقوداً عدة يسعى الى فصل من هو داخل فلسطين عمن هو خارجها، ومن هو داخل الخط الأخضر ( عام 1948) عمن هو خارجه، وعدمن هو في الضفة عمن هو في غزة، ومن هو في القدس عمن هو في كل فلسطين، فإذا بهذا العدو يواجه الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، موحداُ وملتفاً حول حقوقه المشروعة التي لا يستطيع أحد التصرف فيها…
في هذه الملحمة الفلسطينية الخالدة سقطت نظريات كانت تروج ان قضية فلسطين باتت طي النسيان، وان ما جرى من اتفاقات “تطبيعية” وصفقات “ترامبية” وقرارات أحادية بالضم وممارسات على اضطهاد داخل فلسطين وخارجها، واغتيالات واعتقالات قد أخرجها من الاهتمام العربي والإسلامي والدولي، فإذا بهذه الملحمة تؤكد ان فلسطين ما زالت في ضمير كل شرفاء الأمة وأحرار العالم وان الانتصار لها حالة تتدحرج كل يوم لصالح القضية الأعدل في العالم….
في هذه الملحمة، سقطت الحواجز المصطنعة بين فصائل العمل الوطني والإسلامي داخل فلسطين وبين تيارات الأمة القومية والإسلامية واليسارية والليبرالية، ليلتحم جمعياً في معركة واحدة هي معركة الدفاع عن الأقصى والشيخ جراح وكل فلسطين، بل معركة انتزاع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني من براثن الاحتلال…
في هذه الملحمة أيضاً سقطت كل رؤية أعتمدها البعض في التفوق الصهيوني المدعوم استعمارياً، وان لا طريق لمجابهة هذا التفوق إلا بالاستسلام لهذا المحتل والانصياع لاملاءات داعميه في واشنطن ودول الغرب، وبرزت عظمة المعادلة التي اعتمدتها كل الشعوب في كفاحها ضد المستعمر وهي ان موازين الارادات هي في النهاية أقوى وأبقى من موازين القوى التي هي في أوضاعنا تتبدل أيضاً تحت وقع ضربات المقاومة و وتنامي امكاناتها لصالح شعوبنا…
في هذه الملحمة أيضاً سقط الرهان على التسويات والصفقات ” والوسيط” الأميركي غير النزيه، ليبقى الرهان قائماً على المقاومة بكل أشكالها، وعلى التمسك بالحقوق الثابتة مهما طال الزمن….
لقد سقطت في هذه الملحمات الأفكار التي تروج لفصل قضية فلسطين عن قضايا الأقطار العربية والإسلامية، فأدرك اللبنانيون مثلاً ان هزيمة تل أبيب هي هزيمة من أعتدى مطولاً على لبنان، ومن أخذ قراراً بحصاره وتجويعه ونفذت واشنطن قراره….
وأدرك السوري ان فلسطين تنتصر له بوجه من كان مخططا لهذه الحرب العدوانية في بلاده وعليها، وكذلك العراقي الذي يعرف ان ما تعرض له من حصار وحرب ودمار انما كان تخطيطاً اسرائيلياً وتنفيذاً امريكياً، ويدرك اليمني ان الحرب عليه والمستمرة منذ سنوات هي أيضاً قرار إسرائيلي نفذه الامريكيون وادواتهم، والامر ينطبق على ليبيا بغزوة الناتو، كما مصر و والسودان وما يواجهانه من حصار مائي وشق قناة إسرائيلية بديلة لقناة السويس، وأهل المغرب يدركون ان مشاريع الفتنة العرقية صناعة صهيونية تريد تفتيت دول المغرب وادخالها بحروب لا تنتهي.
لقد باتت ملحمة فلسطين اليوم انتصاراً لكل قطر عربي واسلامي على المخططات التي تستهدفه وبالتالي باتت أيضا قضية وطنية في كل قطر.
بالتأكيد هناك العديد من الإنجازات الإعلامية والثقافية والنفسية والاجتماعية التي تحققها هذه الملحمة لكن يبقى الإنجاز الأكبر هو ان فلسطين تنتصر على اعدائها، وان أمة تنحاز الى فلسطين تدخل ميدان الاستقلال والوحدة والنهوض.