في 30 آب 1982 حملت لنا الشاشات صوراً لخروج الفلسطينيين من بيروت بعد حصار دام أكثر من ثمانين يوماً وسط الزغاريد والأرز المنثور على الرؤوس وشارات النصر التي رفعتها الأيدي المنهكة من وقع الحصار، أقنعنا أنفسنا بأننا أمام نصر ما، كيف؟ لا أدري.
لم يكن ذلك المشهد عابراً في التاريخ الفلسطيني أو العربي، فمنذ ذلك التاريخ أصبحت فلسطين تبتعد أكثر فأكثر، رغم الأمل الذي بثته فينا المقاومة اللبنانية سواء تلك التي انطلقت بعد الاحتلال الصهيوني مباشرة (جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية- جمول)، أو تصاعد نجم حزب الله كقوة مقاومة جذرية توجت عملها المقاوم بتحرير الجنوب اللبناني عام 2000، ثم انتصار تموز 2006 بدعم من سورية وإيران ما آذن بظهور ما سنعرفه لاحقاً بمحور المقاومة.
رغم ذلك، ظل المسار العربي يتجه نحو الانحدار، ومبادرات ما يسمى بالسلام تتطاير من العواصم العربية، من مبادرة الأمير فهد في فاس المغربية، إلى مبادرة السلام العربية التي أطلقتها السعودية من بيروت، والمحادثات الفلسطينية الأميركية في تونس، وعادت المبادرات لتتحول إلى معاهدات ما عُرف بالسلام في وادي عربة وأوسلو، ليأتينا المشهد الذي رأينا فيه أولئك الذين يخرجون من بيروت، وهم يلوحون بشارات النصر والبنادق، يتحولون إلى شرطة بتدريب أميركي تعمل على قمع الفلسطينيين والتنسيق مع العدو.
احتل العراق عام 2003 بأيد أميركية- غربية وتواطؤ عربي، وتُركت سورية ومحور المقاومة وحيدين في مواجهة الطوفان الأميركي في المنطقة؛ مما يسمى “قانون معاقبة سورية”، إلى تهديدات كولن باول بعد احتلال العراق، إلى تلفيق جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وما رافقها من قرارات لمجلس الأمن الدولي استهدفت سورية والمقاومة حتى عدوان تموز، الذي سعى إلى تطبيق شروط كولن باول بالقوة.
في فلسطين كان أصحاب خيار أوسلو يذهبون بعيداً في التخلي عن الإرث الثوري للشعب الفلسطيني، ويتنكرون لنضاله وشهدائه ما بين عامي 1917 وحتى 1982، مقابل مطالب محدودة بدولة متخيلة وسلطة لا تتجاوز صلاحياتها، صلاحيات رئيس بلدية. وظلت فلسطين تبتعد أكثر وأكثر.
جاء “ربيع الصهاينة” ليسدد سهامه إلى صدر الأمة، استهدف ذلك الربيع الأمل القائم الذي مثله محور المقاومة فعاث خراباً وتدميراً في سورية وليبيا واليمن، وتآمر على مستقبل الأمة بمحاولات ضرب مصر والجزائر.
انخرط ما يسمى عرب الاعتدال في الحرب على سورية، موّلوا وأرسلوا مقاتلين، وقصفوا بطائراتهم ضمن ما يعرف بـ”التحالف الدولي”. ثم عادوا ليشكلوا ما سموه بـ”التحالف العربي” (والعرب منه ومنهم براء) وقصفوا اليمن وقتلوا شعبها. قتلوا أبناء الجيش المصري في سيناء، وحاولوا نشر الانقسام بتفجير الكنائس والاعتداء على الأقباط، ساهموا بطيرانهم في قصف ليبيا وتحويلها إلى إمارات قبلية متحاربة. وأصبحت فلسطين تبتعد أكثر فأكثر.
في أفق العتمة لاح نور، جاء من القدس متزامناً مع النور الذي انبثق من القبر المقدس، ومع العشر الأواخر المباركة من أيام شهر رمضان.
ثلة من الشباب حاولوا تحرير بقعة صغيرة من أرضهم، درج في منطقة باب العامود، تدحرجت كرة النار الثورية إلى حي الشيخ جراح، فساحات المسجد الأقصى، انضمت إليهم اللد وأم الفحم وسخنين والطيبة والناصرة وجنين ونابلس. من أين جاء هؤلاء الرجال والنساء بكل ذلك العنفوان الثوري وتلك القوة؟
كان الدخول الغزاوي إلى مسرح الأحداث ملحمياً، إنذار أطلقته المقاومة محدداً بالساعة والمكان ثم نفذته، وعادت لتطلق إنذاراً آخر وتنفذه.
حالة جديدة لم نعتدها في التاريخ الحديث للصراع مع الصهاينة داخل فلسطين، إنذار ينتمي إلى مدرسة محور المقاومة، التي استطاعت لجم وحشية جيش الاحتلال وكسر عنجهيته، اضطر جيش العدو إلى إخلاء ساحات المسجد الأقصى، وعاد المقاومون يرفعون صلاتهم وتكبيراتهم من هناك. هل نعتبر حالمين لو قلنا أن ساحات الخليل، وشوارع اللد تحررت ولو لساعات؟
ليكن، فالثائر المناضل حالم بامتياز. ونحن فقدنا لياقتنا الثورية عندما توقفنا عن الحلم. الحالمون هم الأقدر على صنع الانتصارات، ألم يكن حلماً ذاك الذي حمله الشاب الذي انتزع علم دولة الاحتلال من أحد شوارع اللد وزرع مكانه العلم الفلسطيني؟ في استعراض الصور قفزت إلى ذهني صورتان؛ الأولى لأولئك الذين صمدوا في سجن حلب أمام موجات الإرهاب المتتالية، كان صمودهم مبنياً على حلم وصول الجيش العربي السوري وكسر الطوق عنهم وتحريرهم وهو ما كان.
الصورة الأخرى تعود إلى ما ذكرته الوثائق عن سقوط اللد بيد العصابات الصهيونية عام 1948، يومها غادر 20 ألف فلسطيني مدينتهم خلال ساعة ونصف تحت تهديد السلاح الصهيوني والمجزرة التي ارتكبت في الجامع الصغير في المدينة. خرج هؤلاء لأنهم فقدوا أملهم وحلمهم بوصول النجدة من الجيوش العربية التي تمركزت على بعد 7 كيلومترات شرقي المدينة.
صمد الفلسطينيون في القدس وبقية المدن الفلسطينية يحلمون بصواريخ المقاومة آتية من غزة.. أتت الصواريخ وتحقق الحلم.
كان اسمها الضفة وأراضي 48 وغزة، صار اسمها فلسطين، هكذا سمتها الفلسطينية اللداوية حنان نفار التي قالت: أنا فلسطينية، مدينتي محتلة وقضيتي اسمها القضية الفلسطينية. فجأة أصبحت فلسطين أقرب وأقرب من أي وقت مضى.
بتنا ليلتنا نحلم بطلائع المقاومة الفلسطينية تلتقي مع قوات محور المقاومة الآتية من الشمال لتعيد “اللحن عربياً”.. حلمنا بعكا، بصبية من حيفا رأيناها تبتسم وهم يعتقلونها وهي ترحب بنا على مدخل المدينة، بشباب الناصرة يهتفون في ساحاتها كما فعلوا قبل أيام “فلسطين عربية، من الميّة للميّة”. حلمنا بقطار يحمل البن من صنعاء، والقطن من مصر، والتمر من البصرة، ليحط بها على أبواب ميناء يافا لتسافر إلى العالم مع البرتقال الشموطي. كم بدت فلسطين قريبة في أحلامنا!
في روايته “عودة الروح” يروي لنا توفيق الحكيم حكاية مجموعة من الأشخاص والأقارب الذين جاؤوا من محافظات مصرية مختلفة وسكنوا في نفس الحي، أحبوا جميعاً نفس الفتاة، فدب الخلاف بينهم حتى وصل حد الفرقة والعداوة.
مع انطلاق ثورة 1919، خرج كل واحد منهم منفرداً من منزله للمشاركة في الثورة، لينتهوا جميعاً معتقلين معاً في نفس الزنزانة في أحد سجون الاحتلال الإنكليزي، ليكتشفوا أنهم واحد في عيون المحتل.. مصريون.
نحلم بالوحدة، ليس داخل فلسطين فقط، ولكن على امتداد هذا المدى العربي كله، ما يجري اليوم في شوارع فلسطين والمدن العربية يقول إن الوحدة لن تتحقق في قاعات مؤتمرات الجامعة العربية، ولا باللقاءات والدعوات والبيانات. الوحدة تتحقق على الجبهات وعلى خطوط المواجهة، وحدتنا وحدة قضية، لأن مشروع التحرر الوطني العربي قضيتنا الوحيدة والراهنة، وجبهتنا واحدة في مواجهة الاستعمار مهما تغير اسمه أو راوغ في وصف أدواته وأهدافه.
كاتب من الأردن