تشير كل الدلائل , وبرأي غالبية المراقبين والمحللين والوقائع على الأرض, ان المواجهة الشاملة بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين” انتصاراً للقدس والشيخ جراح, ليست كسابقاتها، لا من حيث جغرافيتها الممتدة على كل ارض فلسطين, ولا من حيث زخمها والقوى الفاعلة فيها والمتفاعلة معها, ولا من حيث تداعياتها وصداها عربياً واقليمياً ودولياً, فقد سبقتها مواجهات عدة وامتدت أياماً طويلة، لكن هذه المواجهة, من حيث ارهاصاتها الاولى والنتائج المترتبة عليها وتفاعلاتها في الداخل الفلسطيني و”الإسرائيلي”، تكشف عن خطها البياني وأفقها (السياسي والميداني) بواقعه الجديد, كونها فرضت وقائع ومسارات سياسية جديدة في التعاطي مع الاحتلال وسياساته من جانب, وفي تعاطي المجتمع الدولي مع القضية الفلسطينية واسس حلّها من جانب اخر, حيث أنها وَحّدت التاريخ والجغرافيا الفلسطينية, كما أنها جَدّدت الحالة الوطنية والوعي الفلسطيني من جديد, على امتداد الوطن المحتل وبلدان اللجوء والشتات.
ان انتفاضة القدس والشيخ جراح وصمود المقاومة الوطنية، نجحت في إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام الإقليمي والعالمي بعد عقود من التهميش, بفعل السياسة الامريكية والإسرائيلية و”سُبات” المجتمع الدولي، بالكثير من التهميش والالغاء والتنكر لحقوق الفلسطينيين الأساسية، كما نجحت أيضا في البرهنة على أن مسار الشراكة والالتحاق لبعض الانظمة العربية بـ”إسرائيل”, لا يمكن أن يكون بديل او على حساب حل القضية الفلسطينية, بل ويمكن القول, انها أفقدت هذا المسار كل ما تبقى له من “زخمه الاستراتيجي” الذي بدأ يخسره تدريجياً, منذ أن اتضحت نوايا إدارة الرئيس الامريكي بايدن واجندته في أولويات سياسته الدولية.
فلسطينياً:
ثمة إجماع بين المراقبين والمحللين، بأن القدس ومكنوناتها الجغرافية نجحت الى حد بعيد في (توحيد الفلسطينيين، كل الفلسطينيين) في مختلف أماكن تواجدهم, ودفعت بهم للخروج إلى الميادين والشوارع للانتفاض في وجه المحتل ومستوطنيه, وبصورة غير مسبوقة فلسطينيي48، هي-القدس- فعلت ذلك من قبل, بيد أنها لم تفعله على نحو شامل للشعب الفلسطيني مثلما ما فعلته هذه المرة, ولكل تجمع فلسطيني أسبابه ودوافعه : فانسداد أفق الحل السياسي كان عاملاً مهماً في تشكيل مناخات الانتفاضة والمواجهة، والتوسع في عمليات الاستيطان ومصادرة الأراضي وطرد السكان من منازلهم، وبصورة وصفتها “هيومن رايتس ووتش” على أنها تطهير عرقي، كانت سبباً في انفجار القدس وامتداده للضفة الغربية، والحصار القائم والمحكم على غزة ومن كل الأطراف, وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية على الغزيّين, أما مظاهر التمييز العنصري في كل المجالات, وقوانين “القومية اليهودية ويهودية الدولة”، كانت محفزاً لانتفاضات مختلف المدن والبلدات الفلسطينية داخل مناطق 48، وكأنها تجديد للحالة الوطنية الفلسطينية في وعيها وانتمائها لهويتها الأم, وبصورة لم تعهدها من قبل.
ان انتفاضة القدس ومعركتها, فتحت وستفتح الباب لتغييرات كبرى في المشهد السياسي الفلسطيني العام( داخلياً واقليمياً ودولياً),بعد أن امتلكت المقاومة الفلسطينية وغزة قرار الحرب والسلم، واستطاعت ان تقتحم النظام السياسي الفلسطيني وبقوة، من بوابة (القدس والشيخ جراح والصاروخ الغزّي),وهي تكون قد أعلنت خروجها من “فضائيات ” القطاع المحاصر بين معبر العدو ومعبر الصديق, حيث ارتضت وارتضى العالم لها ذلك بحكم “الأمر الواقع”,الى “فضائيات” الحالة الفلسطينية برمتها, في حين بدت “النخبة” السياسية الفلسطينية ومؤسساتها, في موقع “المراقب”، العاجز عن مواكبة التطورات من حوله وفي حيرة من أمرها، في الوقت الذي اتسعت الفجوة بينها وبين الرأي العام الفلسطيني، الواسعة أساساً، بقرار الرئيس عباس بتأجيل الانتخابات الفلسطينية العامة، بالضد من رغبة الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين.
و”بتكتيك” الأول من نوعه, استطاعت المقاومة وفي مقدمتها حماس و”كتائب القسام”, انتصاراً للقدس وأحيائها,ان تفرض مكانتها بوقائع سياسية وميدانية جديدة, داخل “معمعة” الحل السياسي ومرتكزات استراتيجيته الوطنية, حيث باتت أكثر اقتناعاً، بقدرتها على تغيير نظرة المجتمع الدولي حيالها، وبالذات دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وبدعم ملحوظ من حاضنتها الإقليمية, بعد ما أصاب مؤسسات السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير, ما أصابها من الفساد وسوء الإدارة السياسية والتمثيلية, وانسداد خيار” أوسلو” و”تسويته التفاوضية”, حيث وفرت لها (انتفاضة القدس)، الفرصة والتكتيك المناسبين للولوج إلى هذا النظام الفلسطيني، من أوسع ابوابه.
ثمة ملامح تغييرات جذرية (سياسية وديمغرافية) في المشهد الفلسطيني، وعلى مستوى “الأجيال” بالذات، فالذين فجّروا “انتفاضة القدس” والجمهور المنتفض على امتداد الوطن المحتل والشتات، هم من جيل ما بعد “أوسلو”، جيل الشباب الفلسطيني الذي لم يؤمن في يوم من الأيام لا بأوسلو ولا بملحقاته الأمنية والاقتصادية، جيل التغيير والتجديد الذي لم تعد توفر له سياسات وبرامج الجيل “القديم”، النموذج الوطني والاجتماعي للصمود والبناء والتحرير.
“إسرائيلياً”: عمقت انتفاضة فلسطينيي 48، والتي لم تأتي لنصرة القدس والشيخ جراح فقط، بل أيضا انقلاباً على أوضاعها الداخلية، وتعبيرعن حالة “الانفصال” و”التمايز” في الانتماء والهوية بين العرب الفلسطينيين والإسرائيليين داخل ” المجتمع الإسرائيلي”، والتي كانت متفاقمة اصلاً، بسبب تنامي دور اليمين واليمين المتطرف وحكوماته المتعاقبة في السياسة الداخلية الإسرائيلية، حتى غدت سياسة رسمية ونظام قانوني داخل “إسرائيل”، وما أسست له من مظاهر وقوانين التمييز العنصري والتهميش والنظرة الدونية بحق العرب الفلسطينيين.
لذلك، هي دعوة عاجلة إلى امتلاك رؤية أكثر عمقاً ووضوحاً للحالة الوطنية الناهضة والاصيلة لفلسطينيي الـ 48، والذين لم يتوقفوا عن الانخراط في النضال الوطني في الدفاع عن حقوقهم القومية والمجتمعية في مواجهة منظومة القوانين الصهيونية والمنظومة الأمنية الإسرائيلية.
خلاصة القول:
ان تلاحم المقاومة مع حراك القدس والشيخ جراح، رسم ملامح سياسية جديدة تتطلب بالضرورة الوطنية، حوار وطني شامل مع الكل الفلسطيني دون استثناء، على قاعدة تبني خط سياسي وطني واستراتيجية وطنية جديدة، ترتقي الى مستوى المعطيات والوقائع السياسية والميدانية الجديدة، وتفاعلاتها اقليمياُ ودولياً، لبداية مشهد فلسطيني جديد في الوحدة والمقاومة والتحرير.
هي كثيرة عناصر الجديد السياسي والميداني التي تستحق القراءة والتقييم، فان
الفلسطينيون الجُدُد أعادوا القضية الفلسطينية إلى أصولها الأولى، وعلى “النخبة الفلسطينية” ان ترتقي بمسؤولياتها الى مستوى الحدث والمسؤولية الوطنية، لا عودة الى مربع الانقسام، وتقاسم مغانم السلطة، اوالصراع عليها، بل إلى امتلاك الصيغ النضالية التي تصون وحدة الشعب الفلسطيني ومكتسباته الوطنية، وتديم الالتحام النضالي بين مناطقه وقواه.
*كاتب وباحث سياسي