المهندس : ميشيل كلاغاصي |
بعد عام تقريبا ً, ومنذ أن تداول الفرنسيون اسمه للمرة الأولى كمرشح للرئاسة وحتى لحظة فوزه ودخوله قصر الإليزيه , بقي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رجلا ً مغمورا ً, عاجزا ً عن صنع أية معجزة تجعل منه قائدا ًحقيقيا ً لفرنسا مختلفا ًعمن سبقوه وأقله في العقدين الأخيرين , ففرنسا لم تعد دولة ً عظمى , وعلى ما يبدو أنها توقفت عن إنجاب العظماء , وفقد ساستها ومبدعوها براعتهم وتميزهم , حتى وكالات أنبائها الشهيرة فقدت مصداقيتها, وتحول شعبها إلى مجموعة قاطنين يبحثون عن الحياة الرغيدة والرفاهية , ولم يعد يعنيهم سلامها الوطني ورفرفة علمها فوق قوس النصر , بعدما خفت صوت قوميييها فوصل ماكرون بأصوات ساكنيها لا شعبها وبأيادي جيرانها الأوروبيون والأمريكيون وليس بعيدا ًعن موافقة الأيدي الخفية , ويصح فيه القول أنه فخامة “الرئيس التوافقي”.
هي فرنسا التي فقدت الكثير من نفوذها وهيبتها وسمعتها حتى أمنها وأعياها الإرهاب في مسارحها ودور السينما وشوارعها وملاعبها , وهي التي فقدت الكثير من نفوذها في القارة السمراء , وعن ما خسرته في الشرق الأوسط فحدث ولا حرج , فقد أصبحت لاعبا ً لفئة وزن الريشة, فكيف للرجل أن يسطر المعجزات في وقتٍ لا يُقرّ فيه البعض بوقوفه أمام الكونغرس الأمريكي وبزيارته الرئيس ترامب كأفضل إنجازٍ حققه في حياته , وسط تصفيق وقيام وجلوس أعضاء الكونغرس أثناء خطابه مراتٍ عديدة , ما أعاد التذكير بمجالس ” الكونغرس” في دول عالمنا العربي , بالتأكيد حظي ماكرون بتقديرٍ مبالغ فيه وغير مستحق , فالرجل وفي أحدث استطلاع قامت بهOdoxa-Dentsu Consulting منذ أيام , تبين أنه شخص “غير متواضع وغير قريب من الناس” , وأن “ستة من كل عشرة فرنسيين لا يريدون أن يمثلهم ماكرون”.
=* ترامب والإنسحاب من سوريا !
في نهاية شهر اّذار المنصرم , فاجئ الرئيس دونالد ترامب حلفائه وأعدائه على حدٍ سواء بإعلان نيته سحب جنوده من سوريا , فيما كان الجيش العربي السوري يقترب من تحقيق نصرٍ وإنجازٍ عسكري غير مسبوق ويستعيد سيطرته على كامل مدن وقرى ومناطق الغوطة الشرقية بعدما كشف وأفشل أكبر وأخطر المخططات الإرهابية التي كانت تستهدف العاصمة دمشق , إعلان ترامب ترافق بإرتباك أمريكي وتضارب التصريحات بين الرئاسة ووزارة الدفاع , والتي لا تزال – حتى الاّن – تخضع لإضافة عبارات ولحذف أخرى ولنفي نية الإنسحاب بالمطلق, كأدلةٍ دامغة على الإفلاس الدبلوماسي الأمريكي , وفي هذه الأجواء بدأ التهويل والتهديد بالتدخل العسكري الأمريكي الخارجي بالتوازي مع بدء قنوات الفتنة بترويج صورٍ مفبركة كالعادة تتهم الدولة السورية زورا ً بإستخدام السلاح الكيماوي في الغوطة ليلة السابع من نيسان , اسبوعٌ كامل من التهديدات ولجلساتٍ عاصفة في مجلس الأمن ولمبارزاتٍ سياسية حادة أظهرت إحتقان دول العالم واصطفافهم بين طرفين ومحورين حول الأزمة السورية , ما أعطي الإنطباع بأن الحرب العالمية تبدو وشيكة الوقوع , ووسط مواقف معلنة للنظام السعودي وتأييده وتمويله لأي عمل عسكري ضد سوريا , وبتاريخ 14 نيسان صحا السوريون على أصوات إسقاط دفاعاتهم الجوية لصواريخ التوماهوك والكروز وتصديهم الرائع لما دعي بالعدوان الثلاثي على سوريا والذي شاركت فيه قوات واشنطن ولندن وباريس.
لم يكن من السهل على الرئيس دونالد ترامب أن يرى الجيش العربي السوري يغير موازين القوى على الأرض بشكل حاد ويحرر الغوطة الشرقية خلال زمنٍ قياسي , الأمر الذي فرض عليه وعلى أدواته حالةً من الذهول والخيبة وهم يرون الإرهاب يصعد في باصٍ أخضر فيما تستعيد الدولة السورية السيطرة والأمان على محيط العاصمة شيئا ً فشيئا ً, ولم يعد بالإمكان إيقاف تقدم الجيش نحو ما تبقى من الغوطة الغربية , فكان الإنتقام والهجوم عبر اسطوانة الكيماوي المشروخة حلا ً وحيدا ً, لاسيما أن ترامب حصل على ثمن العدوان الصاروخي من بعض الدول الخليجية سلفا ً.
=* هل اقتنعت واشنطن بهزيمة مشروعها في سوريا ؟
بالتأكيد لا يمكن لعاقل أن يصدق ترامب وكلامه عن الإنسحاب , وتخليه عن المشروع الصهيو–أمريكي لتفتيت المنطقة و للسيطرة على العالم بهذه البساطة , في الوقت الذي تتمسك فيه واشنطن بقواعدها على الأرض السورية وتستمر بتحصين مواقعها , وتقوم حاليا ً بصيانة وتوسيع مطار الطبقة العسكري غرب مدينة الرقة , بالإضافة لأطماع ترامب المعلنة بالحصول على 7 تريليون دولار من الدول العربية الثرية في المنطقة مقابل حمايتهم , وأطماعه في ثروات الشمال السوري.
ناهيك عن فشلها في هدفها الإستراتيجي الثاني في المنطقة وهو الحفاظ على أمن الكيان السرطاني الغاصب والذي أصبح في حالٍ لا يحسد عليه , نتيجة ً لما اّلت إليه الحرب الميدانية حتى الاّن والإنتصارات الإستراتيجية التي حققها محور المقاومة , وإنهيار المجاميع الإرهابية وسقوط مشروع “دولة الخلافة” , وإعتماد قواعد إشتباكٍ جديدة فرضت على قادة العدو تحمّل ما لا يطيقونه , بالإضافة إلى توحيد جغرافيا المقاومة مع حدود التواجد الصهيوني على الأراضي المحتلة من فلسطين المحتلة إلى لبنان وسوريا والجولان المحتل , ناهيك عن إستعادة الدولة السورية توازنها وتصاعد قوتها وإمكاناتها والخبرة التي اكتسبها جيشها , بالإضافة لما يجري الحديث عنه من حصولها على أجيال متطورة من الصواريخ الحديثة بما فيها صواريخ الS300 الروسية , وتأهب محور المقاومة للمواجهة المتوقعة والتي أكد على إمكانية وقوعها سماحة السيد حسن نصر الله بقوله :” الحرب تكاد تنتهي مع الوكلاء ويمكن أن تبدأ مع الأصلاء”.
=* مالذي يدفع ترامب لتعويم ماكرون ؟
منذ بداية الحرب على سوريا كانت الأعين تتجه نحو أهمية وخطورة المشاريع في الشمال السوري , ومع مرور الوقت بدأت تتضح معالم خللٍ استراتيجي في رسم الأدوار المتبادلة بين وأمريكا وتركيا , تجلى في عديد المناسبات , فقد ظهر للمرة الأولى في مدينة الباب حيث اضطرت واشنطن للقبول بتقدم الجيش العربي السوري لعدم حصول مواجهة بين قوات “قسد” المدعومة أمريكيا ً وقوات “درع الفرات” المدعومة تركيا ً , واستمر الخلل إلى أن أنتج واقعا ً صعبا ً للغاية أجبر واشنطن على قبول ما سمي تقاربا ً روسيا ً– تركيا ً, كما نكرر الأمر في مدينة منبج والتي أصبح من المثير للسخرية أن تتقاسم الدولتان السيطرة على المدينة والحفاظ على حالة التنافس أو العداء ظاهري في الوقت ذاته , إذ تحتاج واشنطن إلى جنونٍ عسكريٍ حقيقي رفضه أردوغان– على ما يبدو – وصل حد رغبتها بقصف الأماكن الحكومية أوالمباني الرئاسية ,… ولتدارك الخلل الإستراتيجي كان لا بد من إدخال طرفٍ ثالث واستبداله بالقوات الأمريكية ومن هنا ظهرت الحاجة إلى الحديث عن إنسحاب القوات الأمريكية.
بدأ البحث عن بديلٍ حقيقي للقوات الأمريكية, وبدت المهمة مستحيلة مع عودة الحديث عن تشكيل “جيشٍ عربي” لخيالية الطرح ولنتائجه السلبية المتوقعة سلفا ً … وكان لابد من البحث عن الدول التي تقبل أن تكون بديلا ً لا شرعيا ً لقواتٍ لا شرعية تقبل بالخروج على الشرعة الدولية وتمارس البلطجة , فكان مجرد التفكير بهذا المنطق يقود وبسهولة نحو فرنسا التي لم تتوان عن التدخل العسكري المارق في ليبيا وبقتل العقيد القذافي, وكان من المتوقع أن يهلل ماكرون لإعطائه دورا ً ولبلاده مكسبا ً (رشوة ً) وفرصة ً للتوقيع على عقودٍ عسكرية مع مملكة اّل سعود تمتد حتى نهاية العام 2018 , مقابل أن يُشهر ماكرون سيفه في وجه دمشق ويحافظ عليه مسلطا ً وخارج غمده , رغم حديثه عن الحل السياسي , لكنه حافظ على تهديد دمشق المستمر بما يتعلق بالسلاح الكيماوي , وحاول ترامب إغرائه وتنصيبه زعيما ً بوجه أوروبا – ألمانيا من جهة وبوجه موسكو وإيران وسوريا من جهة اخرى.
ولم يكن العدوان الثلاثي في 14نيسان سوى لإختبار مدى بلطجية ماكرون , الذي انبرى أمام الكونغرس الأمريكي لشرح ماهية النظام العالمي المتوحش الجديد وأثنى من خلاله على جنود فرنسا وأمريكا وبريطانيا ممن قاموا بالعدوان على سوريا من خلال ما وصفها ب “الشرعة” الجديدة… وفي ظل الحديث عن ترتيب ترامب إدارته بعد سلسلة طويلة من الإقالات والإستقالات , والتي أفضت للإتيان بجون بولتون أبرز الصقور المتصهينة إلى جهاز الأمن القومي , والدفع ب رئيس الإستخبارات مايك بومبيو للإمساك بدفة الخارجية والذي بدأ عمله بزيارة مملكة اّل سعود والأردن وتل أبيب, وطالب بوقف حصار قطر وإيجاد حل للأزمة اليمنية , صورةٌ تشي بإنتهاء ترامب ودولته العميقة من ترتيب فريق إدارة الحرب والتصعيد العسكري للجولات القادمة , تؤكد إعتماد واشنطن على فترة تصعيدية ومن بوابة إنسحابها من الإتفاق النووي الإيراني ترتفع فيها إحتمالات المواجهة العسكرية مع طهران , والتي سعى نتنياهو لتحديد ساعة الصفر لإندلاعها إذ لم يوفر أكاذيبه ومسرحياته التلفزيونية وقصصه الهوليودية التي لم تقنع أصحابه الأوروبيين والأمميون قبل غيرهم حيال برنامج إيران النووي.
.. وعليه يبدو أن العدوان الثلاثي الحقيقي والفعلي مؤجل ولم يقع بعد , ولا يزال ماكرون يراوغ للتخلص من تقرير لجنة التحقيق الدولية التي لن تستطيع إدانة الدولة السورية والتي حملت بدورها شهادات 17 سوريا ً ممن تواجدوا في الزمان والمكان إلى محكمة جنايات لاهاي الدولية , في وقتٍ يُكشر فيه الأمين العام للأمم المتحدة عن أنيابه ويعيد فتح باب الحديث عن مسؤولية الدولة السورية عبر تقصيرها وتقاعسها عن الإجابة عن بعض الاسئلة حيال ملف سلاحها الكيماوي , الأمر الذي سيعيد سوريا إلى قاعات مجلس الأمن وعبر المشروع الفرنسي الجديد المتضمن إنشاء اّلية جديدة للتحقيق وللمحاسبة.
وبإنتظار اللحظة التي يُصدر ترامب فيها أوامره لشن العدوان الثلاثي الحقيقي, تبقى الأسابيع القادمة تحتفظ بخطورتها, فالفرنسيون لا يملكون ما يخسرونه , ويبدو أن ماكرون سعيدا ً بتعينه قائدا ً عسكريا ً لحملة ترامب على الدولة السورية في السنة الثامنة للحرب بعد عشرات القادة المهزومين , فهل يتوقع أحدكم مصير ماكرون بعيدا ً عمن سبقوه من الفاشلين؟.