الصراع الدائر بين قوى المقاومة والتحرّر والحلف الاستعماري الصهيوني الرجعي في منطقتنا، هو سجال تاريخي مصيري ووجودي حول مستقبل المنطقة وهويتها. بينما الأنظمة السياسية التابعة والعميلة خنقت بلداننا بعبوديتها للاستعمار والصهيونية، اللذين يفرضان استنزافا شديد الكلفة والخطورة على حكومات وأنظمة تحرّرية تنتمي إلى محور المقاومة وتكافح ضد التغوّل الاستعماري اللصوصي الاقتصادي والسياسي، الذي يسنّ أنيابه وأظافره لتدارك أثر التحولات الجارية مع نهوض قوى المقاومة ومحورها الإقليمي التحرّرين وانعكاس ذلك ونتائجه الظاهرة في مختلف الساحات والميادين.
أولا: الخطاب الإعلامي لقوى التحرر والمقاومة في الشرق العربي يفترض أن يخضع لفحص دائم، وبالذات مع كل مرحلة جديدة في سياق الصراع. واليوم تتبلور معالم تحولات ظاهرة، يفترض أن يبنى عليها مضمون تعبوي سياسي وجدول أعمال جديد. فقد انجلت التطورات والتراكمات عن انهيار وتلاشي أوهام التسويات وانكشافها، مع انتقال الكيان الصهيوني إلى مرحلة أشدّ تغولا ووحشية، أعدمت بالاستيطان والاقتلاع والعدوان، جميع أوهام التسوية والاستسلام، التي راجت فلسطينيا وعربيا خلال العقود الأخيرة. وقد افتضحت حقيقتها كأدوات تضليل وكبح لنزعة المقاومة والتحرّر في البلاد العربية. ويكفي أن يكون الصهاينة قد تكفّلوا بتعرية حقيقة الكيان الفلسطيني المسخ، الذي تنطوي عليه التسويات المبنية على تكريس الاغتصاب الصهيوني. فقد انهارت جذريا خدعة الدولة الفلسطينية، وما سُمي بالسلام العادل والشامل، التي بلغت ذروة الفضيحة في اتفاقيات كمب ديفيد وأوسلو، وانكشف واقعيا للرأي العام العربي، ما يضمره العدو الصهيوني وحكومات الخيانة والاستسلام العربية برعاية الإمبريالية الأميركية.
ثانيا: هذا الانعطاف السياسي في محتوى التناقض وتعبيراته ترتّب عليه ردّ القضية إلى جذورها، وانهيار وهم التعايش مع الكيان الغاصب، ومصنّفات وخزعبلات عمّمتها الدعاية الأميركية الغربية وأبواق الردة والخيانة في المنطقة، منذ عقود، تحت يافطات التفاوض والحلول السلمية، وسعت بواسطتها لخنق قوى المقاومة العربية والفلسطينية على الأخص. وقد بلغت مسارات التفاوض وصفقات الاستسلام التي شهدتها المنطقة حالة انكشاف فاضحة لمضمونها التصفوي المذلّ، ولمضمونها بتعميم أنماط خطيرة من التغوّل والنهب اللصوصي الاستعماري، الذي أنشب أظافره في الثروات والأسواق والمصائر. وقد شكلت الحروب المدمّرة والدموية وذروتها المجسّدة في غزوة التكفير والتوحش، التي اجتاحت المشرق وقلبه النابض سورية الذروة الأخطر في الغزوة الاستعمارية الصهيونية الرجعية، خلال ما يزيد العشرين عاما.
ثالثا: مضمون التجديد المناسب للخطاب التحرري يغتني بخبرة التجربة التاريخية. ولا بدّ أن يقوم على اعتبار تحرير فلسطين هدفا مشتركا لكفاح شعوب المشرق من أجل التحرّر والتقدّم والتنمية، على أساس مفهوم التكتّل الإقليمي الاقتصادي والسياسي، ووحدة العمل لتنمية الثروات على أساس الاستقلال والتحرّر من الهيمنة والنهب، وتحقيق العدالة الاجتماعية في بلدان المشرق. وهذا التكتّل الاقتصادي السياسي المقاتل حول فلسطين، هو الحاضن التاريخي الممكن لعملية تغيير ثورية، تتقدّم في سياقها المقاومة الشعبية الفلسطينية المقاتلة لإنجاز التحرير، محتضنة في هذه البيئة الإقليمية الجديدة وكتلتها التاريخية الحيّة في سورية والعراق وإيران ولبنان واليمن وداخل فلسطين. وهذا التحول الثوري الممكن يتكفّل بولادة تاريخية للنصر المرتجى، ويسقط المستحيل الموهوم بالتضحيات البطولية وبشجاعة المبادرة، ويهدم السدود الواقعية والافتراضية، لفتح سماء المشرق على أعراس تحرّر وانتصار.