يعتبر انهيار جدار برلين، وسقوط النظام الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي الذي كان يتقاسم الهيمنة مع الولايات المتحدة الأمريكية على العالم انتصاراً للنظام الرأسمالي الليبرالي، حيث ظهر ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي يدعو إلى تبني الأيديولوجيا الغربية تحت ستار العولمة و التي تمثل مرحلة متطورة للهيمنة الرأسمالية الغربية على العالم. أدى سقوط النظام الاشتراكي إلى تحول العالم من “نظام الحرب الباردة” المتمركز حول الانقسام والجدران إلى نظام العولمة المتمركز حول الانفتاح وتبادل المعلومات والأفكار والرساميل بكل يسر وسهولة. فكيف ظهر مصطلح “العولمة” وماهي مفاهيمه؟
1- ظهور مصطلح العولمة
ذكر مصطلح العولمة أول مرة سنة 1959 في صحيفة The Economistالأنقليزية ثم في الصحيفة الفرنسيةLe monde و منذ ذلك التاريخ أصبحت العولمة مجالا للجدل. هذا المصطلح متعدد الأبعاد، لا يسمح بتكوين رؤية موحدة بل يختلف حسب تخصصات البحث: إقتصاد، علم اجتماع، سياسة، فلسفة…
ظهر في الثمانينات في الولايات المتحدة مصطلح جديدGlobalisation ou globalization و يعني تحول “المحلي” إلى “الكلي” أو “الشامل” أي توسيع إشعاع هذا المصطلح على المستوى العالمي. في مجال الأعمال و التجارة مثلا يعني هذا المصطلح الجديد ظاهرة تدويل المبادلات التجارية و المالية و الصناعية التي تقوم على المضاربة بحثا عن فاعلية أجدى على المستوى العالمي.
يرى بعض الباحثين أن لفظة العولمة هي ترجمة للمصطلح الإنقليزي (Globalization)، وبعضهم يترجمها بالكونية، وبعضهم بالشوملة، وبعضهم يترجمه بالكوكبة، إلا أنه في الآونة الأخيرة أشتهر بين الباحثين مصطلح العولمة وأصبح هو أكثر الترجمات شيوعاً بين أهل السياسة والاقتصاد والإعلام.
تحليل الكلمة بالمعنى اللغوي يعني تعميم الشيء وإكسابه الصبغة العالمية وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله. يقول “عبد الصبور شاهين” عضو مجمع اللغة العربية :” فأما العولمة مصدراً فقد جاءت توليداً من كلمة عالم ونفترض لها فعلاً هو عولم يعولم عولمة بطريقة التوليد القياسي… وأما صيغة الفعللة التي تأتي منها العولمة فإنما تستعمل للتعبير عن مفهوم الأحداث والإضافة، وهي مماثلة في هذه الوظيفة لصيغة التفعيل”.
كثرت الأقوال حول تعريف معنى العولمة حتى أنك لا تجد تعريفاً جامعاً مانعاً يحوي جميع التعريفات وذلك لغموض مفهوم العولمة، ولاختلافات وجهة الباحثين فتجد للاقتصاديين تعريفا، وللسياسيين تعريفا، وللاجتماعيين تعريفا…، و حسب الدراسات الجغرافية يمكن تأليف هذه التعريفات في ثلاثة مفاهيم: ظاهرة اقتصادية، هيمنة أمريكية، وثورة تكنولوجية واجتماعية.
2- التعريف الأول : العولمة ظاهرة اقتصادية
عرفها صندوق النقد الدولي بأنها :”التعاون الاقتصادي المتنامي لمجموع دول العالم والذي يحتّمه ازدياد حجم التعامل بالسلع والخدمات وتنوعها عبر الحدود إضافة إلى رؤوس الأموال الدولية والانتشار المتسارع للتقنية في أرجاء العالم كله.”
وعرفها “روبنز ريكابيرو” الأمين العام لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والنمو بأنها :”العملية التي تملي على المنتجين والمستثمرين التصرف وكأن الاقتصاد العالمي يتكون من سوق واحدة ومنطقة إنتاج واحدة مقسمة إلى مناطق اقتصادية وليس إلى اقتصاديات وطنية مرتبطة بعلاقات تجارية واستثمارية.”
وقال محمد الأطرش: “تعني بشكل عام اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة، وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافات والتقنية ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق، وفي النهاية خضوع العالم لقوى السوق العالمية، مما يؤدي إلى اختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة، وأن العنصر الأساسي في هذه الظاهرة هي الشركات الرأسمالية الضخمة متخطية القوميات.” هذا التعريف للعولمة ركز على أن العولمة تكون في النواحي التجارية والاقتصادية التي تجاوزت حدود الدولة مما يتضمن زوال سيادة الدولة ؛ حيث أن كل عامل من عوامل الإنتاج تقريباً ينتقل بدون جهد من إجراءات تصدير واستيراد أو حواجز جمركية، فهي سوق عولمة واحدة لا أحد يسيطر عليها كشبكة الإنترنت العالمية.
وعند صادق العظم هي: “حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها، وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ”.
حسب ألفيي دولفوس” تمثل العولمة الانتشار الشامل لبعض المنتوجات و الطرق و التقنيات و وسائل النقل ببناها التحتية نحو متقبلين للمعلومة عن طريق الصورة و الصوت التي تتولى نقلها الوكالات الكبرى المالية أو غير المادية (مقابلة كرة قدم) كالتواصل العلمي. يكون هذا التبادل غير متكافئ لكنه معمم الكفاية و منظم في إطار الأسواق و العولمة المالية و تمر كل هذه المبادلات في الطيران و البنوك و العلوم و الاعلامية بواسطة لغة عالمية هي اللغة الأنقليزية.”
3- التعريف الثاني : العولمة هي الهيمنة الأمريكية
قال محمد الجابري: “العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه، وهو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات، على بلدان العالم أجمع”.فهي بهذا التعريف تكون العولمة دعوة إلى تبنى إيديولوجيا معينة تعبر عن إرادة الهيمنة الأمريكية على العالم. ولعلّ المفكر الأمريكي”فرانسيس فوكوياما” صاحب كتاب “نهاية التاريخ” “يعبّر عن هذا الاتجاه فهو يرى أن نهاية الحرب الباردة تمثل المحصّلة النهائية للمعركة الإيديولوجية التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية وهي الحقبة التي تمت فيها هيمنة التكنولوجيا الأمريكية.
4- التعريف الثالث : العولمة ثورة تكنولوجية واجتماعية
يقول عالم الاجتماع “جيمس روزناو” في تعريفها قائلاً: “العلومة علاقة بين مستويات متعددة للتحليل: الاقتصاد، السياسة، الثقافة، الايديولوجيا، وتشمل إعادة تنظيم الإنتاج، تداخل الصناعات عبر الحدود، انتشار أسواق التويل، تماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول، نتائج الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة” وعرفها بعضهم بأنها: “الاتجاه المتنامي الذي يصبح به العالم نسبياً كرة اجتماعية بلا حدود. أي أن الحدود الجغرافية لا يعتبر بها حيث يصبح العالم أكثر اتصالاً مما يجعل الحياة الاجتماعية متداخلة بين الأمم”.
فهو يرى أن العولمة شكل جديد من أشكال النشاط، فهي امتداد طبيعي لانسياب المعارف ويسر تداولها تم فيه الانتقال بشكل حاسم من الرأسمالية الصناعية إلى المفهوم ما بعد الصناعي للعلاقات الصناعية.
وهناك من يعرفها بأنها: “زيادة درجة الارتباط المتبادل بين المجتمعات الإنسانية من خلال عمليات انتقال السلع ورؤوس الأموال وتقنيات الإنتاج والأشخاص والمعلومات”. وعرّفها إسماعيل صبري تعريفاً شاملاً فقال: “هي التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ودون الحاجة إلى إجراءات حكومية”.
بعد قراءة هذه التعريفات، يمكن أن يقال في تعريف العولمة: أنها صياغة إيديولوجية للحضارة الغربية من فكر وثقافة واقتصاد وسياسة للسيطرة على العالم أجمع باستخدام الوسائل الإعلامية، والشركات الرأسمالية الكبرى لتطبيق هذه الحضارة وتعميمها على العالم.
هنالك تعاريف نجدها أقرب للجغرافيا و أقل حدة و أدلجة و أكثر موضوعية و الأول هو أن “العولمة تمشي تنمو فيه مبادلات البضائع و الخدمات و رؤوس الأموال و البشر (الهجرة) و الثقافات على مستوى العالم و تخلق تلك المبادلات تفاعلات هامة و متسارعة بين مختلف أجزاء العالم.” و الثاني هو “جعل الشيء عالمي الانتشار في مداه أو تطبيقه أو دوليا. تكون العولمة عملية اقتصادية في المقام الأول، ثم سياسية، ويتبع ذلك الجوانب الاجتماعية والثقافية. أما جعل الشيء دولياً فقد يعني غالباً جعل الشيء مناسباً أو مفهوماً أو في المتناول لمختلف دول العالم. وتمتد العولمة لتكون عملية تحكم وسيطرة ووضع قوانين وروابط، مع إزاحة أسوار وحواجز محددة بين الدول.”.
في النهاية يمكن تلخيص مصطلح العولمة في المفهوم التالي: نمو التفاعل على المستوى العالمي. إنطلاقا من هذه المفاهيم العامة، كل تيار أكاديمي يدرس البعد الذي يراه مناسبا له.
مصطلح العولمة منشأه غربي، وطبيعته غربية، والقصد منه تعميم فكره وثقافته ومنتوجاته على العالم، فهي ليست نتيجة تفاعلات حضارات غربية وشرقية، قد انصهرت في بوتقة واحدة ؛ بل هي سيطرة قطب واحد على العالم ينشر فكره وثقافته مستخدمة قوة الرأسمالي الغربي لخدمة مصالحه. فهو من مورثات الحركة الإستعمارية فروح الاستيلاء على العالم هي أساسه ولبه ولكن بطريقة نموذجيه يرضى بها المستعمر ويهلل لها؛ بل ويتخذ هذه الحركة الغربية المنمقة بلباس العولمة مطلبا للتقدم.
المصادر و المراجع:
بكر أبو زيد: “حراسة الفضيلة”.
عبد اللطيف جابر: “العولمة بوابة للرفاه أم الفقر ؟”، صحيفة الشرق الأوسط (العدد 7460).
عبدالصبور شاهين: “العولمة جريمة تذويب الأصالة”، المعرفة العدد(48).
عمرو عبد الكريم: “العولمة عالم ثالث على أبواب قرن جديد”، مجلة المنار الجديد (العدد الثالث).
سيد يسين : ” الوعي التاريخي والثورة الكونية “، ” الكونية والأصولية وما بعد الحداثة” و “في مفهوم العولمة”.
سيد يسين: “العرب والعولمة : ما العمل ؟”، مجلة “فكر ونقد” (العدد السابع).
Olivier DOLLFUS (Professeur de Géographie, Université Paris 7, Président du GEMDEV) : Article, « Une lecture géographique du Système du Monde »