التصريحات الامريكية الاخيرة بأن الولايات المتحدة قد انفقت ما يقرب من 10 مليارات دولار في لبنان على مدى سنوات على منظمات المجتمع المدني أو الغير حكومية والاجهزة الامنية في الوقت الذي تفرض على الدولة عقوبات إقتصادية خانقة وجائرة وغير قانونية ولا إنسانية, لهو دليل قاطع بأن هذه الاموال صرفت من اجل دوافع سياسية بحتة غير بريئة على الاطلاق. وإذا ما أضفنا الاعتراف الامريكي بأن أمريكا وأجهزة مخابراتها قد انفقت 500 مليون دولار لتشويه سمعة حزب الله اللبناني والسيد حسن نصرالله أدام الله عمره وحفظه تضح الصورة أكثر وأكثر عن النوايا والاهداف الخبيثة التي تجري وتخطط لها أجهزة المخابرات الامريكية والادارات المتعاقبة في البيت الابيض اللهم الا لمن فقدوا الذاكرة كلية لسبب او لاخر.
ويأتي التاكيد على هذا الانفاق ونواياه الخبيثة التي أصبحت تتردد في العلن في الفترة الزمنية التي تشتد العقوبات الامريكية على لبنان والتدهور الغير مسبوق في تاريخ لبنان في مستوى معيشة الشعب اللبناني وسعر صرف الليرة اللبنانية ومنع لبنان أو تخوفه او عدم وجود الجرأة السياسية لإتخاذ القرار الصحيح للتوجه شرقا في محاولة لفك الازمة الخانقة التي تنذر باوضاع أكثر كارثية ويفاقم هذه الازمة وخاصة بعد مضي اكثر من عام على المراوحة السياسية والعقبات المحلية والاقليمية والدولية التي فرضت على تشكيل حكومة من قبل الرئيس المكلف سابقا سعد الحريري.
إنفاق مئات الملاين او المليارت على منظمات المجتمع المدني أو الغير حكومية هي أحدى الوسائل التي تتخذها الولايات المتحدة وأجهزة مخابراتها لزعزعة الامن والاستقرار في البلد المعني وحتى في عمليات تغيير الانظمة عن طريق ما يسمى “بالثورات الملونة”. هكذا فعلت الولايات المتحدة في أوكرانيا على سبيل المثال لا الحصر كما صرحت مساعدة وزير الخارجية الامريكي آنذاك (2014) فيكتوريا نولاند ومكالمتها المفضوحة مع السفير الامريكي في كييف عنما قالت ” ليذهب الاتحاد الاوربي الى الجحيم”. ولقد اعترفت بعظمة لسانها ان الولايات المتحدة قد انفقت ما يقرب من 4 مليارت من الدولارات على منظمات المجتمع المدني والاحزاب اليمينية القومية المتطرفة والمناهضة لحكومة فيكتور يانوكوفيتش آنذاك والذي كان قريبا من موسكو والذي تم اسقاط حكمه عن طريق تثوير الشارع في كييف وزج عناصر منظمات المجتمع المدني والغير حكومية والاحزاب اليمينية الفاشية والنازية المقربة من أجهزة المخابرات الامريكية والتي وصلت الى البرلمان الاوكراني لاول مرة في تاريخ البلد بعد إسقاط نظام يانوكوفيتش.
وهكذا حاولت وما زالت تحاول أجهزة المخابرات المركزية الامريكية لتغيير النظام بإسقاط حكومة مادورو في فنزويلا. والتكتيك المتبع لاحداث الثورة الملونة تبدأ بتثوير الشارع وزج عناصر المجتمع المدني والغير حكومية الشابة المدربة تدريبا جيدا على إثارة الفوضى وزعزعة الاستقرار والاشتباك مع رجال الشرطة للوصول الى حالة عدم قدرة رجال الامن أو الجيش للسيطرة على الوضع. الى جانب استخدام قناصة من عناصر مرتزقة تقتل بعض المتظاهرين ورجال الامن ايضا للابقاء على حالة الفوضى وعدم الاستقرار وينتهي الوضع بإسقاط النظام وتغييره الى نظام موالي للولايات المتحدة. هذا التكتيك اتبع في اوكرنيا وجورجيا وبوليفيا وكذلك في الدول العربية اثناء ما سمي بالربيع العربي وغيرها.
أما في لبنان فقد فشلت مثل هذه المحاولات على الاقل للان في إسقاط الحكومة عن طريق دس عناصر تخريبية في اوساط الحركات الاحتجاجية الشعبية ضد الاوضاع المعيشية وإثارة نوع من الفوضى وإثارة الفتن الطائفية والمذهبية واستخدام المال السياسي القذر من قبل بعض دول الاقليمة لتأجيج وتصعيد المواقف.
ومن الضروري التوضيح هنا أننا لا نتهم أو نجمل كل منظمات المجتمع المدني او الغير حكومية على انها تابعة او لها علاقة بالمخابرات المركزية الامريكية او غيرها ولكن في نفس الوقت نؤكد ومن خلال تجربة العديد من البلدان على ان المخابرات المركزية الامريكية ومن خلال منظمة يو اس ايد تجند وتستقطب عناصر من هذه المنظمات الشعبية التي تمولها وتدربها من خلال دورات على قيادة الاحتجاجات الشعبية وبعض الاحيان تدرب هذه العناصرعلى استخدام السلاح لحين ساعة الصفر.
وربما من أهم الاسباب التي أفشلت هذه المحاولات للان يعود لوعي أطراف وازنة سياسيا وإجتماعيا عن الاهداف الخبيثة للولايات المتحدة وأذنابها وأدواتها في المنطقة وبالتالي تأخذ الحيطة وينأى جمهورها وقواعدها الشعبية عن الاحتكاك في الشارع مع القوى المناؤئة لها سياسيا. وثانيا يلعب الجيش دورا رئيسيا وصمام امان لمنع تدهور الوضع الامني كونه يعتبر ومن الجميع وكما اثبتت الكثير من الوقائع على الارض على انه المؤسسة التي قد تكون الوحيدة التي تتمتع بنزاهة وشفافية وفوق النزاعات الطائفية والمذهبية وهي المؤسسة الوحيدة أيضا التي تحظى بإحترام أغلبية إن لم تكن جميع القوى السياسية اللبنانية. وما زال الجيش يشكل الضمانة الاكيدة للاستقرار والمحافظة على السلم الاهلي في لبنان. الى جانب ذلك فإن القوى في الداخل اللبناني التي تتماشى وتتماهى مصالحها السياسية والاقتصادية مع المخططات الامريكية والفرنسية والاذناب في المنطقة تدرك جيدا أن التصعيد والوصول الى الحرب الاهلية لن يكون في صالحها وستخرج منها خاسرة. وبالتالي فإستراتيجيتها الحالية هي الاستقواء بالخارج ويذهب البعض بسوء نية بالتأكيد بالمناداة بتدويل الازمة اللبنانية ووضع لبنان تحت الوصاية الدولية ومجلس الامن وتوسيع صلاحيات قوات اليونفيل ومجيء مزيد من البساطير الدولية. وتبقى هذه أمنياتهم التي لن تتحقق فما زال شبح تفجيرات عام 1982 ماثلة امام أعين الخارج عندما قتل اكثر من 250 حندي امريكي وفرنسي نتيجة تفجير انتحاري ضخم في مجمع هذه الجنود.
* كاتب وباحث أكاديمي فلسطيني