يطير الاستفسار عبر الأثير من كابول وواشنطن والدوحة منقسما على نفسه مثيرا تساؤلين:
هل هرولة القوات الأمريكية واكتساح طالبان “الحريري” للأراضي الأفغانية، وهروب الرئيس الأفغاني الدمية الأمريكية وسقوط كابول !هزيمة مدوية لأمريكا ومارينزها وحلفائها، رغم سيطرة دامت لأفغانستان 20 عاما ؟
أم انه اتفاق تم صياغته من جراء مباحثات الدوحة بين طالبان وأمريكا، بمقتضاه تناغمت طالبان، مع ما ترمي إليه أمريكا من حصار لروسيا والصين على الخصوص ؟
بعد أحداث 11 سبتمبر أواخر العام 2001، واتهام تنظيم القاعدة بتدبيرها وقد أتى على أنف أمريكا في التراب، فزاد من غطرستها فكان غزوها لأفغانستان مدعومة بحلفائها المقربين، على اثر التجاء بن لادن الي هناك.
فيما عرف النزاع بحرب الولايات المتحدة في أفغانستان، وقد كانت أهدافه العلنية تفكيك تنظيم القاعدة وحرمانه من قاعدة آمنة للعمليات في أفغانستان عبر الإطاحة بطالبان من السلطة.
وقد جاء الغزو بعد الحرب الأهلية الأفغانية 1996 بين طالبان ومجموعات التحالف الشمالي، وعلى الرغم من سيطرة طالبان على 90% من الأراضي، فقد جاء الغزو الامريكى ضدها .
طالبت الإدارة الأمريكية بتسليم طالبان لأسامة بن لادن وطرد القاعدة، رفضت طالبان تسليمه ما لم تُمنح ما اعتبرته دليلًا مقنعًا على ضلوعه في هجمات 11 سبتمبر وتجاهلت مطالب إغلاق القواعد الإرهابية وتسليم إرهابيين آخرين مشتبه بهم بمعزل عن بن لادن.
رفضت الولايات المتحدة الطلب معتبرةً إياه تكتيك مماطلة لا معنى له، وشنت مع المملكة المتحدة عملية الحرية الدائمة في 7 أكتوبر 2001. انضمت قوات أخرى، من بينها قوات التحالف الشمالي على الأرض، في وقت لاحق إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
طردت الولايات المتحدة وحلفاؤها حركة طالبان من السلطة سريعًا بحلول 17 ديسمبر 2001، وبنت قواعد عسكرية بالقرب من المدن الكبرى في جميع أنحاء البلاد.
لم يُقبض على معظم أعضاء القاعدة وطالبان،وهربوا إلى باكستان المجاورة أو انسحبوا إلى المناطق الجبلية الريفية أو النائية في أثناء معركة تورا بورا.
عشرون عاما من الكر والفر بين قوات الغزو، وحركة طالبان – فيما كانت الأخيرة تدرك طبيعة الأرض جيدا، صارت القوات الغازية لا تعي الا استخدام القوة الغير رشيدة المتغطرسة .
فيما حركة المدارس الأفغانية وقد نشأت بعد سقوط الجمهورية الديمقراطية الأفغانية التي دعمها الاتحاد السوفييتية في عام 1992م، إزاء تردي الأوضاع في أفغانستان وشيوع قانون الغاب بين القوى الأفغانية المتناحرة، فغدت مثالية الهدف .
في ولاية كندهار الواقعة على الحدود مع باكستان عام 1994م، على يد الملا محمد عمر، وقد رغب في القضاء على “مظاهر الفساد الأخلاقي” وإعادة أجواء الأمن والاستقرار إلى أفغانستان وساعده على ذلك طلبة المدارس الدينية الذين بايعوه أميرًا لهم – تكونت الحركة .
فيما حادثة بعينها، جعلت من طالبان المنقذ للشعب الأفغاني حين شاع خبر اختطاف واغتصاب فتاتين عند إحدى نقاط السيطرة التابعة لأحد الفئات الأفغانية المتناحرة في قرية قرب مدينة قندهار ونما إلى الملا محمد عمر خبر اختطاف الفتاتين فألّف قوة من 30 رجل وسعى لتخليص الفتاتين وقد نجح في عملية تحريرهما وقام بدوره بتعليق قائد عملية الخطف والاغتصاب على المشنقة.
كان لابد مما سلف، لاستبيان الجو الذي صعدت فيه طالبان، وطبيعة تكوينها وهدفه، لرؤية الخط الرفيع بينها وبين القاعدة وفروعها ،
قبل الغزو حيث استغل بن لادن حصته من ميراث المليادير والده لدعم ما سمي المجاهدين الأفغان ضد القوات السوفيتية، وأخيرا التجأ الى هناك بعد ضغوط على السودان بطرده منها – فيما صارت طالبان بعد الغزو، مجبرة على الانزواء مابين الحدود الأفغانية والباكستانية، والاعتماد على دعم القبائل الباكستانية، والتجاء بن لادن ومريديه بين الجبال والمناطق التي باتت تلجأ لها طالبان، وحتى داخل الحدود الباكستانية حيث تم اغتياله هناك .
عشرون عاما وقوات الاحتلال الأمريكية تعبث بمقدرات الشعب الأفغاني، وتصنع العملاء وتدبر الدسائس والمكايد للشعب، فيما حركة طالبان، وقد سبق وبينا أنها كانت تدرك طبيعة الأرض فقد صمدت، فيما قوات التحالف الأمريكي الأطلسي تستنزف يوما بعد يوم، خسائر في المعدات والأفراد، خاصة بعد إن تيقنت أن الأفغان، لا يريدون الحرب ضد طالبان .
واذا مؤشرات تقديرات (مشروع تكلفة الحرب) تشير إلى أن 241 ألفا لقوا حتفهم كنتيجة مباشرة للحرب، وإلى أن الحرب كلفت الولايات المتحدة 2.26 تريليون دولار، ومازال النزيف في اصطياد جنود
المار ينز- لذا كان التفاوض بين الأمريكان وطالبان في قطر، الذي أنهاه بإيدن بالانسحاب تحت ضغط النفس الطويل لطالبان ضد القوات الأمريكية وعملائها من الحكومات الأفغانية، ولوقف مزيد من نزيف الأموال الأمريكية التي كلفت الخزانة الأمريكية تريليونات الدولارات، في خضم اقتصاد امريكى أنهكه التمدد الأقتصادى للعملاق التنينى الصيني، الذي ساد الأسواق العالمية لرخصة منتجاته، وعدم تكبيل البلدان المتعاملة معه بالفوائد الباهظة للديون وأعباء خدمتها، فيما طريق الحرير الذي تنشئه الصين، ، فيما لو اكتمل لصارت الشركات الأمريكية في خبر كان .
ولما كان تنظيم طالبان وقد اعتبر ارهابيا فى روسيا، وكانت روسيا فى سباق محموم على التسلح مع أمريكا .
لما سبق بشقيه الصيني والروسي، صار تبرير البعض لانسحاب أمريكا من أفغانستان، هو أتفاق فيما بينها وطالبان، على تعكير صفو التقدم الروسي الصيني، وانشغالهما بمقاومة طالبان والتصدي لما قد تثيره من إرهاب، فيعود لأمريكا صدارة اقتصادها .
لكن يبدو أن ما سلف من تحليل قاصر ورؤية هلامية، هدفها أن تفت عضد من يرى في انسحاب أمريكا هزيمة ساحقة لها، وإجهاض لأهداف غزوها للأراضي الأفغانية بعد احتلال دام عشرون عاما، ارتد فيها الخنجر الي صدر من شرعه في وجه حركة طالبان، فَيُقضي على كل أمل في محاربة أمريكا في سوريا والعراق ومساندتها الكيان الإسرائيلي .
ما يؤيد ذلك، تجوال السفير الروسي في أفغانستان بعد سيطرة طالبان، وإشادته بحالة الأمان التي عمت سكان كابول مردفا: أن “طالبان” “انتظروا استسلام قوات الأمن الوطنية لمنع حدوث اشتباكات وحوادث إطلاق نار وإراقة دماء.. لقد ضمنوا على الفور العفو لجميع عناصر قوات الأمن والعسكريين ولن يتم مطاردتهم ولن يكون هناك عمليات تطهير”.
وأضاف أن “طالبان” حرصت أيضا على عدم سقوط “شعرة واحدة” من رأس الدبلوماسيين الروس.
وذكر أن “طالبان” صنفت منظمة إرهابية وفقا للقانون الروسي لكن اليوم الأول من سيطرتها على العاصمة الأفغانية تركت لديه انطباعا جيدا، مضيفا أن الوضع في كابل عاد إلى الهدوء بعد حالة من الفوضى والاضطراب في شوارع المدينة فور انهيار السلطة السابقة، وأن هذا الوضع “أفضل اليوم مما كان في ظل حكم أشرف غني رئيس افغانستان أو الدمية الأمريكية .
لذلك فأن الوضع على الأرض وسرعة مغادرة القوات الأمريكية، وهرولة عملاء أمريكا الي مطار كابول، ومحاولة الكثير منهم اللحاق بعجلات الطائرات الأمريكية المغادرة، لهو هزيمة منكرة تصورها الوقائع على الأرض، بل أن عودة طالبان التي حاربتها أمريكا طيلة عشرون عام إلى حكم أفغانستان من جديد، وقد أتت قوات الغزو الأمريكية للقضاء عليها ومحاولة فرض دمى أفغانية موالية، دون جدوى، لا يمكن الا إن يكون هزيمة ساحقة لأمريكا وغزوها وسقوط سيناريو عملائها، يدلل على ذلك كثير من المسئولين الأمريكان أنفسهم وحلفائهم الانجليز الرئيسيين في آن واحد .
وقد شبه دبلوماسيون بريطانيون، ما حدث في أفغانستان بـ”مدى الذل الذي ذاقه الغرب لدى سقوط سايجون عام 1975 إيذانا بنهاية حرب فيتنام، أو بأزمة السويس( المصرية) عام 1956 والتي كانت خطأ استراتيجيا فادحا أكد فقدان بريطانيا سلطتها الإمبراطورية”.
فيما تساءل بعض المحاربين القدماء البريطانيين عن التضحيات التي قدموها، وتحدث بعضهم عن “شعور بالخيانة”، وقال البعض إن زملاءهم القتلى ماتوا هباء.
كما وصف نائب الرئيس الأمريكي السابق، مايك بنس، الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، بأنه أكبر إذلال لواشنطن على الساحة الدولية منذ 40 عاما.
وتخشى مصادر أمنية غربية من أن يكون بإمكان القاعدة التي وفرت حركة طالبان لمؤسسها أسامة بن لادن المأوى قبل هجمات 11 سبتمبر/أيلول كسب موطئ قدم مرة أخرى في أفغانستان في غضون شهور، ويقولون إن هذا الاحتمال سيمثل تهديدا لكل من بريطانيا والغرب على اتساعه.
هذا الواقع المرير للقوات الأمريكية في أفغانستان وهرولة انسحابها منها، ومحاولة تعلق عملاء أمريكا بعجلات طائرتها العسكرية المغادرة مطار كابول على عجل أو بدون، لا يمكن أن يكون الا هزيمة وذل وانكسار، وإذا كانت نهاية الإمبراطورية البريطانية وافول شمسها كانت على يد الزعيم جمال عبد الناصر في السويس، فإن بداية النهاية للإمبراطورية الأمريكية وهيمنتها على العالم، هو في انسحابها المُذرى من أفغانستان في هزيمة منكرة بعد 20 عاما من اللعب بالقمار وخسارة تريليونات الدولارات، وضياع رقاب آلاف المار ينز سدى في رمال صحراء أفغانستان .
هذا الواقع لابد أن يشجع العرب في كل مكان على مقاومة الوجود الأمريكي على الأرض العربية سواء اقتصاديا أو من خلال قواعدها العسكرية بالتحالف مع حكام الخليج، ومقاومة وجودها الإحتلالى الغاشم لبلاد الرافدين، لتكون الأراضي السورية والعراقية، هي مقبرة الإمبراطورية الأمريكية، ليُقضى على هيمنتها نهائيا، ويعود للعالم السلام .
* كاتب ومحامى – مصرى