تطوّر السَّوْق[1] السُّوري لتحرير فلسطين
من خلال المفكر السَّوْقي أنيس النقاش
توطئة:
لا يُمكن – بالمنطق الديمغرافي والعسكري بالأقل- أن يكون تحرير فلسطين بدون الوعي بالوطن السوري الكبير (وعيا يتمثل فلسطين أحد عناصره). ومن أهم عوامل استمرار الهيمنة الصهيونية هو تطبيعنا اللاشعوري والكلامي مع تجزئة بلاد الشام بمقص سايْكس-بيكو وبلفور، ومع تعضية الوطن الفلسطيني[2] بتمثله منفصلا عن الوطن السوري الكبير. ومن الضروري، حسب أنيس النقاش، الوعي بأن استقلال بلاد الشام وبناء أمنها الإقليمي بالكامل لا يكون «دون بحث مسألة تحرير فلسطين والخلاص من الكيان الصهيوني»[3].
ولقد تحملت الجمهورية العربية السورية، مركز بلاد الشام المتجزئة، هم تحرير الوطن الفلسطيني. وقد جسدت ذلك بأساليب مختلفة منذ نشأتها.
-
سَوْقان لتحرير فلسطين بداية:
تجاذب سوريا الكبرى (أو بلاد الشام[4]) سَوْقان تحريريان.
السَّوْق الأوّل جسّدته الناصرية، ونواتُهُ المركزية هو أن التحرير يقوم على «مبدأ الوحدة أوّلاً»[5]، أي وحدة الأمة سياسيّا واقتصاديا وبشريّا. لكن كانت النجاحات متواضعة وكانت الإخفاقات كبيرة. وقد حاولت ذلك بمشروع الوحدة الاندماجية، ثم بمشروع الوحدة التفاعلية. وهذا السَّوْق جهلته الدُّول المتبنية للناصريّة.
أمّا السَّوْق الآخر، فقد كان يقدّم التحرير على الوحدة، على أساس «أنّ الوحدة لا يمكن أن تتم بشكل فعلي وكامل، مع وجود قوة صهيونية في الإقليم تمارس دور الرادع والمهيمن على مقدراته»[6]. وقد رأى ذلك حزب البعث العربي الاشتراكي بشقيّه السوري والعراقي. وقد حملت الدولة البعثية هذا السَّوْق في سوريا والعراق.
ولكنْ، مع انتصار حركة التحرر الجزائرية والفيتنامية، «تقدمت نظريات حركة الشعب وحرب العصابات»[7]، خاصة مع تخاذل الأنظمة العربية في خوض معركة التحرير، ظهرت حركة التحرر الفلسطينية. ولقد أكدت نكسة عام 1967 هذه الأطروحة.
استفادت الجيوش العربية (ومنها الجيش السوري) من انشغال العدّو الصّهيوني بحركة التحرر الفلسطينية، ممّا كان من عوامل «الانتصار» النِّسْبي في معركة أكتوبر 1973. لكن من سوء الحظ أن سوريا أصيبت بنكسة سَوْقية بعدم إتمام تنفيذ مصر لسَوْقِها الذي اتفقت عليه مع الشريك السوري قبل المعركة[8]. وقد تفاقمت تلك النكسة السَّوْقية على سوريا بانسحاب مصر من الصراع كليّا عقب اتفاقيات كمبْ دَيْفد، لتبقى سوريا والمقاومة الشعبية الفلسطينية وحدهما على مسرح الصراع، مع دعم مِن العراق والجزائر وليبيا.
-
سَوْق سُوري متوحد مع السَّوْق المصري:
اتخذت الدولة السورية قرارًا سَوْقيّا منذ انطلاقة حركة التحرر الفلسطيني عام 1965 بفتح أراضيها وأجهزة دولتها لهذه المقاومة. وكان الفلسطيني فيها، متساوي الحقوق مع السوري- دون استثناءات- دون غيرها من الدّول العربية. وبَعْد تصفية المقاومة في المملكة الأردنية عام 1970، لم يبق لحركة التحرر الفلسطيني سوى سوريا ولبنان مركزيْ انطلاق. وبعد خروج حركة التحرر الفلسطينية من بيروت عام 8219، لم يبق على الأرض الشامية مركز انطلاق للحركة باتجاه فلسطين سوى سوريا.
بعد هزيمة سنة 1967، كان جدل كبير داخل القيادة السورية حول إعادة بناء سَوْق الصراع مع العدّو الصهيوني. طرح البعض «فكرة الحرب الشعبيّة بديلاً، ومن ثمّ التوجه نحو ما يشبه حلّ الجيش السوري وبناء جيوش المقاومة الشعبية لخوض هذه الحرب الطويلة مع العدو»[9]. لكن وزير الدفاع، آنئذ، حافظ الأسد، كانت له وجهة نظر معاكسة، تدور حول «إبقاء شعلة المقاومة وإشغال العدّو على عدّة جبهات، مع الاستمرار في تحضير الجيش السوري لخوض معركة نظامية تقليدية، إلى جانب الجيش المصري»[10]. ومع تباعد وجهات النظر، كانت الحركة التصحيحية التي قادها وزير الدفاع عام 1970، مِن أجل تنفيذ سَوْقه الذي يراه الأصوب.
هذا السَّوْق يشبه سَوْق هُوشي مِنه في فيتنام. كانت الإمبريالية قسمت فيتنام إلى دولتين (كما الشام قسمتها الإمبريالية إلى 4 دول). التزم هوشي مِنه بالخريطة الإمبريالية لتكون فيتنام الشمالية قاعدة ارتكاز لحركة تحرير الجنوب من المحتل الأمريكي. فقد كان سَوْق حافظ الأسد يعتمد سوريا قاعدة ارتكاز، «مع إطلاق المقاومة على أكثر من جبهة لإضعاف العدّو وتشتيته، إلى حين ساعة الصفر التي تسمح بالهجوم النظامي على قوّات العدّو»[11].
-
الإحباط المصري للرهان السُوري وتداعياته:
مُفارقتان أحبطتا سَوْق حافظ الأسد.
كانت المفارقة الأولى أن حركة التحرّر الفلسطيني لم تصل إلى المستوى الذي يسمح لها بإنهاك قوى العدّو، وإن استطاعت إنهاكَهُ.
وكانت المفارقة الثانية أن الدولة المصرية لم تكن شفافة مع سوريا حافظ الأسد إذ لم تشتغل على سَوْق مشترك. فقد كانت على سَوْق تحريك لا على سَوْق حرب تحرير. فَعِوض أن يستمر الطرف المصري في الحرب حتى تحرير كل الأراضي المصرية، وفي الآن نفسه يستمر الطرف السُوري في تحرير كل أراضيه، قَبِل الطرف المصري- فجأة- بوقف إطلاق منفرد دون تنسيق مع الطرف السُوري، ثم دخل في اتفاقية سلام مع العدّو الصهيوني. وبذلك خسرت الدولة السُورية حليفتها الأقوى، وانكشفت جبهتها لصالح العدّو، فغزا لبنان، واحتل العاصمة بيروت، وأخرج قوّات حركة التحرر الفلسطيني منها.
وفي لحظة انهيار سَوْق حافظ الأسد بخسارته حليفته المصرية الوهمية، ظهرت فجأة الثورة الإيرانية آخر عام 1978. وجَد حافظ الأسد بديله عن الإحباط المصري، فلم يضيع الفرصة التاريخية وقام بتفاهمات سَوْقية مع الجمهورية الإيرانية التي قطعت علاقاتها بإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية(التي كانت لها نحو 15 قاعدة عسكرية على الأرض الإيرانية وعلاقات سوقية قوية مع العدو الصهيوني عسكريا واقتصاديا وأمنيا)، متبنية سياسة دعم لحركة التحرر الفلسطينية واللبنانية، جديدة وأكثر متانة وتأثيرا جغرافيا-سياسيا.
-
سَوْق سُوري- إيراني مع المقاومتيْن الفلسطينية واللبنانية:
نجح السَّوْق الجديد. فخرج العدّو الصهيوني عام 2000 من لبنان دون شروط ودون مفاوضات.
دعَّم السَّوْق السوري- الإيراني تطوير المقاومتين منظومتيهما التخطيطية والسَّوْقية والتسليحية الخصوصيتيْن. وكانت نتيجة ذلك انتصار المقاومة اللبنانية أمام العدوان الصهيوني عام 2006، رغم التعاون الأمريكي والعربي مع ذلك العدوان. وتمّ تأكيد ذلك الانتصار، بانتصار المقاومة الفلسطينية على العدوان الصهيوني على غزّة عام 2008. وبذلك ظهرت جبهتان: شمالية – لبنانية وجنوبية-غزَّاوية مهدّدتين للعدّو.
وهكذا تأكدت صوابيّة السَّوْق السُوري-الإيراني ونجاعته وواقعيته، بتجاوزها اختلاف هويات المقاومين القومية واللغوية والمذهبية- الطائفية والحزبية. كما ظهرت جبهة بلاد الشام لتحرير فلسطين لأول مرة ضامّة سوريا وفلسطين ولبنان.
النتائج:
(1 كانت الجمهورية العربية السورية بين سَوْق فلسطيني يبجل تحرير«الإقليم» الشامي « فلسطين» على الوحدة وبين سَوْق فلسطيني يبجل الوحدة على تحرير ذلك الإقليم. ومع حافظ الأسد كان هناك توحد مع السَّوْق المصري، فيكون مسعى تحرير الأراضي «المصرية» و «السورية» معا في الآن نفسه. ولكن خذلان «الرئيس المؤمن» المصري جعل الدولة السورية في حالة انكشاف سَوْقي فظيع عام 1973، وزاد الانكشاف تدهورا عام 1978 باتفاقية «السلام» المصرية-الصهيونية.
ولكن ظهور الثورة الإيرانية أواخر عام 1978 ، جعل الدولة السورية تسترجع أملها في تحرير كامل الوطن الشامي الكبير، فلقد أطرد النظام الإيراني الجديد القواعد العسكرية الأمريكية والسفارتين الأمريكية و«الإسرائيلية».
(2هذا ما لم يرق للإمبريالية ولدولة التبعية العربية، ولذلك كان تحالفهما مع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين واختلاقهما للسلفية الجهادية، من أجل الإعداد لضرب الدّولة السُورية، وهي خاصرة سَوْق محور المقاومة ونواته المركزية، عَبْر ما سُمّي «الربيع العربي».
(3 إن عدم تفكير أجنحة المقاومة في أقاليم بلاد الشام في سَوْق تحرر موحد وفي تساند المصير المشترك لتلك الأقاليم، جعل حماس بين «الحياد» في الحرب الإمبريالية على الدولة السورية منذ سنة 2011 وبين الانخراط فيها مع السلفية الجهادية ومنظمة الإخوان المسلمين العالمية ودول الخليج التابعة. وذلك لفائدة المراكمة السَّوْقية الصهيونية لأن الإنفراد بكل جناح على حدة يسهل الانتصار الصهيوني على مجمل حركة المقاومة الشامية.
* (باحث إناسي، الجامعة التونسية)
***************************************************************
[1] «السَّوْق» هو« الاستراتيجيا » في اللغات الأوروبية.
[2] … مع العلم أن فلسطين في الإدارة العثمانية كانت تجمع ما يسمّى الآن بالمملكة الأردنية + حِمى الدولة الصهيونية. راجع: الرائد الإنكليزي كُونْدَر Major Conder, The survey of eastern Palestine 1881, The Commitee of the Palestine exploration fund, 1889
[3] النّقّاش (أنيس)، الكنفيدرالية المشرقية، نيسان، بيروت، 2015، ص 229.
[4] استعمل الطبري اللفظتين.
[5] م. س، ص 230.
[6] م. س، ص 230 أيضا.
[7] م. س، ص 231.
[8] راجع: البكوش عقيل،«سوريا من خلال وثائق حرب الثلاثين سنة» ضمن: بالكحلة (عادل)، محمد حسنين هيكل مفكرا استراتيجيا، منتدى التفكير في الحراك العربي/ المركز الديمقراطي العربي-برلين، تونس 2021.
[9] م. س، ص 234.
[10] م. س، ص 234 أيضا.
[11] م. س، ص 235.