على الرغم من التكاليف والأثمان السياسية والعسكرية والمالية الباهظة التي تكبَّدتها الولايات المتحدة الأميركية في فيتنام ولبنان والعراق وأفغانستان وسوريا، شهد العالم الأسبوع الماضي انسحاباً أميركياً وأطلسياً فوضوياً غير مسؤول، كانت إحدى نتائجه مقتل 13 جندياً أميركياً وبعض البريطانيين وعشرات المدنيين الأفغان، الأمر الَّذي يؤكّد أنَّ الغرب لم يتعلّم من دروس الماضي الأليمة.
ومن المثير للسّخرية أن يوجّه كلّ من الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الناتو ينس ستولتنبرغ أصابع الاتهام إلى القادة الأفغان الَّذين فروا منذ اللحظات الأولى، لتقدم “طالبان” نحو السيطرة على غالبية عواصم الأقاليم قبل وصولهم إلى كابول، فالناتو والولايات المتحدة لا يشعرون بالحرج وهم يطلقون الأكاذيب ويروجون إلى أنهم منقذو العالم، وجالبو الديمقراطية والازدهار والسلام، والمدافعون عن حقوق الأطفال والمرأة والإنسان في تلك البلاد التي احتلوها ودمروها ونهبوا خيراتها. يا لها من سياسة خارجية قامت ولعقود على استراتيجيةٍ تنضوي على أيدولوجيا غربية متوحشة ومريضة، تبدأ بتدمير الدول، ثم بإعادة إعمارها، سبيلاً لتحقيق المكاسب وتكريس الهيمنة!
كانت غالبية دول العالم تعتبر “طالبان” إرهابية، ولا يعني تمددها اليوم وسيطرتها على البلاد أنها شرعية، ولم يسبق لأيِّ دولة أن اعترفت بها، بدليل تصنيفها الإرهابي في لوائح عدد من الدول. واليوم، وبعد الانسحاب الأميركي والأطلسي، بات معيار الكثيرين للاعتراف بـ”طالبان”، ومنهم الولايات المتحدة ودول الناتو، مرهونٌ “بسلوكها وأفعالها” الحالية والمستقبلية، وليس تاريخها والجرائم التي ارتكبتها، وبحقيقة مشروعها والأيديولوجيا التكفيرية المتطرفة التي تتحكم في عقول قادتها وبعض داعميهم، في الوقت الذي يذهب الوزير أنتوني بلينكن إلى أبعد من ذلك، ويختزل كل ما تريده واشنطن من “طالبان” بـ”محاربة الإرهاب”، فيما يرى الكثيرون اليوم أن الاعتراف بالحركة بات بحكم الأمر الواقع، وهذا يؤكد نجاح واشنطن بتحويل “طالبان” من حركة إرهابية إلى طرف شرعي ومعترف به في المعادلة الأفغانية، وسيكون حتماً في مواجهة أطراف متوقعة وأخرى قد تتضح معالمها قريباً.
هذا الأمر يقودنا إلى السؤال: هل تحاول واشنطن وعواصم الناتو تطبيق الأمر ذاته في سوريا، من خلال تمسكها بوجودها كقوة احتلال سافر في الأراضي السورية، وبمحاولاتها لتلميع صورة المدعو أبو محمد الجولاني، زعيم تنظيم جبهة “النصرة – القاعدة”، في محافظة إدلب ومحيطها، بما يملكه من إمرةٍ على عدد كبير من الإرهابيين المحليين والغرباء، تحت عنوان أنه بات لا يشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي، وأنه زعيم سياسي لمعارضة مسلحة لحماية المدنيين السوريين من دولتهم وحكومتهم وجيشهم الوطني؟ هل تسعى واشنطن وأدواتها في دول الشر لتحويل “النصرة” إلى أمر واقع على غرار “طالبان” في أفغانستان وفق المعايير ذاتها، وعلى أساس منحه شهادة حسن سلوك أميركية – أطلسية، وعلى أساس أفعاله وتنظيمه الإرهابي المستقبلية، وليس بحسب تاريخهم الإرهابي والإجرامي في سوريا، من دون الاكتراث إلى تصنيفهم الإرهابي الأميركي والأممي والدولي؟
ماذا ستكون التداعيات على سوريا بعد حربٍ تجاوزت 10 سنوات؟ ومتى ستتوقف؟ هل سيحاول “منقذو العالم” الاستمرار بتعطيل الحل السياسي في سوريا، واستمرار محاولات تقسيمها ونهب ثرواتها وحصارها وشعبها وحرمانه من خيرات بلاده، ومن أدنى متطلبات الحياة من نفط وغاز ومحاصيل زراعية وغذاء ودواء في زمن جائحة كورونا، ودفع أبنائه نحو الهجرة؟
وبما أن “دوام الحال من المحال”، فلن يطول زمن حصاد جهود الدولة السورية الرسمية والشعبية، فقرار تحرير “كل شبر” متخذٌ، وبشكل رسمي ومعلن، منذ اللحظات الأولى للغزو الأميركي والتركي والانفصالي والإرهابي، كذلك قرار الشعب السوري ومقاومته الاحتلال هو من صلب جيناته اليوم وعبر التاريخ، وسيتم من دون أدنى شك اختراق المخطط الخبيث في ما تبقى من بؤر احتلال وتواجد إرهابي في الأراضي السورية، وستجد الولايات المتحدة الأميركية نفسها في وضع لا تحسد عليه، ولن يكون أمامها سوى الفرار السريع والهزيمة الكبرى ووصمة العار الإضافية لـ”جيش” احتلال “الدولة العظمى” وعصابة حلف الناتو.
يدرك العالم أن واشنطن لن تستفيد من المشهد الأفغاني في سوريا، فالحالتان مختلفتان تماماً، لكنهما قد تشتركان في مشهد فرار الولايات المتحدة والناتو. وعليه، يبقى السؤال: متى يفرون من سوريا؟ ومتى ستقودهم الحكمة إلى قرار تقليص خسائرهم في الشرق الأوسط، ويمدون يدهم إلى سوريا المنتصرة؟ ومتى سيعودون والأوروبيين والأتراك والعرب إلى التطبيع مع سوريا، وإنهاء العقوبات، وسحب القوات الأميركية وغيرها من الأراضي السورية، واحترام سيادتها الوطنية ووحدة أراضيها، والكفّ عن التدخل في شؤونها الداخلية؟
آن الأوان لتعميم بعض الأصوات الداخلية في مراكز صنع القرار الأميركي، والاتحاد خلف صوت عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فرجينيا المتقاعد ريتشارد بلاك في مقابلته مع صحيفة “سوريا تايمز” الإلكترونية، والذي تساءل: “ألم تساعدنا سوريا على محاربة أكبر جيشٍ من إرهابيي القاعدة على وجه الأرض في إدلب؟ وبما أنّ “عدو عدوي هو صديقي”، فقد حان الوقت لنسأل أنفسنا: من هو صديقنا؟ سوريا أم “القاعدة”؟”.
لا بد لعقلاء الولايات المتحدة والقارة العجوز من قراءة المرحلة بدقّة وواقعيّة، وأنّها ماضيةٌ نحو أفول “الإمبراطورية الأميركية” التي لا بدّ لها من أن تُسقط أوروبا معها، لأنها جزء منها، فالعالم الجديد متعدّد الأقطاب، ويتقاسم النفوذ الذي يحمي المصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى، ولا يتحكّم في حياة البشر، وفي تغيير الأنظمة السياسية بالقوة، وفرض العقوبات، وتعميم النسخ الخاصة والمزيفة للديمقراطية.
شاهد أيضاً
قمة الرياض…يستعرضون خيباتهم…بقلم ميلاد عمر المزوغي
سبعَ وخمسون من اصحاب الجلالة والفخامة والسمو اجتمعوا في بلاد الحرمين الشريفين, سهلت لهم التقنية …