الإثنين , 23 ديسمبر 2024
أخبار عاجلة

قيس سعيّد يجهّزُ “صاروخ” تطهير القضاء…بقلم محمد الرصافي المقداد

ليس هناك في حياة المجتمعات البشرية أسوأ من الظلم والقائمين به وهم بلباس العدل وتحت أفنِيَتِه، سواء كانوا حكاما أو محكومين، وإنّ أكبر الظلم أن يشرِك المخلوق بخالقه، فينسب إلى  غيره قدرته دون الرّجوع إليه، بكونه أصل الصّلاح والإصلاح، وإليه يرجع الفضل في كل أساس خير ومبدأ حقّ، لذلك لا تقوم مجتمعات الدّول ويبقى نظاها، من دون عدل حقيقي، يشمل جميع أفراد المجتمع، بلا فرق بين طبقة وأخرى، ولا صفة شخص على آخر والإسلام يتعامل معهم على أساس سويّ كأسنان المشط.

هذا ولم يأتِ الإسلام بأفضل من إقامة العدل، ونشر الفضائل بين أهله وبقيّة الناس، وتجنيبهم الرّذائل ومساوئ الأخلاق والأعمال، فلا ظلم في مجتمع اسلامي حسب ما جاء في القرآن الكريم،ومن تدبّره وجده حاثا على العدل الإحسان، وداعيا في المقابل إلى تجنّب الوقوع في الظلم، الذي عبّر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالظلمات.

(إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به) (1)

(إنّ الله يأمر بالعدل والاحسان)(2)

وعن القضاة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: »القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار.«(3)

ولم تكن كلمة النبي صلى الله عليه وآله وسلمقالها بخصوص علي بن أبي طالب: (أقضاكم عليّ)(4) إلا توجيه منه للصحابة إذا ما تخاصموا بأن يلجؤوا له على كلّ حال بعدما زكّاه من بينهم، ولعلي في مجال الحكم والقضاء باع ومدى لم يبلغه في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيره، ومن تأمّل عهده الذي ضمّنه صاحبه مالك الاشتر عندما عيّنه واليا على مصر وجده أعظم وثيقة سياسية كتبت في الإسلام، جاء فيها بخصوص القضاة:

»ثمّ انظر في أمر الأحكام بين الناس بنيّة صالحة، فإنّ الحكم في إنصاف المظلوم من الظالم، والأخذ للضعيف من القويّ، وإقامة حدود الله على سنّتها ومنهاجها، ممّا يصلح عباد الله وبلاده، فاختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك « وأنفَسِهم للعلم والحلم والورع والسخاء، ممّن لا تضيق به الأُمور ولا تُمحِكه ( تُلِجُّهُ) الخصوم، ولا يتمادى في إثبات الزلّة، ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فَهْمٍ دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصوم، وأصبرهم على تكشّف الأُمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم ممّن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراق، ولا يصغى للتبليغ، فولّ قضاءك من كان كذلك وهم قليل.«(5)

ولم تكن تعابير العلامة عبد الرحمان ابن خلدون عن العدل، الذي لا يكون إلا بقضاء منصف وعادل، الا تجسيدا لمنطق القرآن وسيرة النبي ص في مجتمعه الاسلامي الأول، وهي اللبنة التي تأسس عليها ليقوم المجتمع بوظائفه، على اساس العدل الذي أمر به الله سبحانه، فقد قال ابن خلدون:»عليْنا أن ننزع الظلم عن النَّاس، كي لا تخْرب الأمصار وتكسد أسواق العمران، وتقفر الديار، وخاصَّة أنَّ الشَّارع أشار في غير موضع إلى تحريم الظلم. «(6)

خلال اشرافه على أعمال مجلس الوزراء المنعقد يوم الخميس 18/11/2021 تناول الرئيس قيس سعيد وضع القضاء في تونس، معتبرا إياه قضاء الدّولة له استقلايته التّامة ولا سلطان عليه من أي طرف، منتقدا  سير القضاء، مشيرا إلى ذلك بقوله: لماذا لا يتحدّث هؤلاء عن التدخّلات في سير القضاء؟ وكيف يسحب ملفّ جريمة من قاض أمضى 4 سنوات حتى تُقْبر إلى الأبد.. فالبعض من القضاة اصبحوا يُعْرفون بانتمائهم لتيّار معيّن أو لشخص ما.. ولا يمكن أن نواصل في ظل مثل هذه الأوضاع.

واسترسل الرئيس مخاطبا وزراء حكومته ذاكرا مثالا على التسيّب والفساد في القضاء، أنّ تحقيقا بقي جار طيلة عشر سنوات، متسائلا فيم يحقق القاضي طيلة هذه المدّة؟ وعندما يُقرّر ختم البحث يسحبُ منه الملفّ ويعطى لقاضي تحقيق آخر.. معلِنًا بكل وضوح بأنه سيتحدّث في مناسبة قادمة بالإسم عن هؤلاء الذين يعتبرون القضاء جزء من السلطة السياسية أو امتدادا لها.. ومذكّرا بالقول: كم من مظالم وكم من تجاوزات لم يقع النظر فيها نتيجة التدخّل في الشأن القضائي..كما ألفت سعيّد انظار المجلس الوزاري، وكلامه موجّه للشعب أيضا، عن وجود من يحاول التسلّل إلى القضاء والجلوس على أرائكهم، قائلا: الشّعب يريد تطهير البلاد وستأتي اللحظة التي أُعلِنُ فيها عن كلّ التفاصيل حتى يتحمّل كل واحد منا مسؤوليته أمام الله وأمام الشعب، نحن نريد تطهير البلاد في إطار القانون، وفي إطار قضاء عادل. (7)

لا يختلف اثنان في أن سلك القضاء في بلادنا نخره الفساد إلى حدّ بعيد، استمرّ على مدى 65 سنة كاملة، فلم يترك فيه مجالا نزيها سوى قليل ممّن أحصنوا أنفسهم من شرّ الوقوع في هاوية ظلم العباد، وشأن جهاز القضاء في هذا الإنحراف، شأن بقية أجهزة الدّولة التنفيذية والتشريعية، وهذه حقيقة مُرّة يتجرّعها من ابتلي من المواطنين، هناك من يريد أن تبقى طي الكتمان، بل وقد يلحق كل متحدّث عنها إلى التتبّع، والعُرضة للإنتقام من طرف المفسدين المتحصّنين داخل جهاز القضاء، ولأجل قضاء نظيف ومستقل وعادل، بما يوفّر أرضية صالحة لنموّ مجتمع سليم،في إطار من العدالة التي هي أساس العمران، ومن دونها تتّجه البلاد إلى الخراب وضياع الحقوق.

بداية سقوط المفسدين في سلك القضاء التونسي، ظهرت من خلال (تسريب مراسلتين وُجِّهتا إلى وزارة العدل، الأولى من (بشير العكرمي)، وكيل الجمهورية السابق، الذي اتهم زميله (الطيب راشد) الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، بأنه متورط في قضايا فساد، وأنه يمتلك ثروة طائلة، كسبها عن طريق التلاعب بقضايا المواطنين، وأن بعض هذه القضايا تعود إلى سنوات خلت، ولذلك يطالب برفع الحصانة عنه، وفي المقابل تضمنت رسالة (الطيّب راشد) إلى وزارة العدل، اتهامات خطيرة لوكيل الجمهورية السابق (البشير العكرمي)، بتورطه في التلاعب بملفات، تدين أشخاص قريبين من حركة النهضة، ومتورطين في ملف اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، الخطير في الأمر أن الوثائق التي تم تسريبها في الشكايتين، تثبت أن القاضيين على علم بالتجاوزات الخطيرة، التي يقوم بها الطرف الآخر، أي أن الطرفين تسترا على كثير من المعطيات المهمة منذ مدة.)

وتأتي هذه التسريبات لتلقي الضوء على حجم الخراب الذي لحق بالمرفق القضائي، هذا المرفق الذي كان مدجّنا بالكامل زمن الاستبداد، وكان يستعمل مثل سائر أجهزة الدولة في تبرير القمع والقهر ومأسسته، وإسكات الأصوات الناقدة والمخالفة للنظام آنذاك.) (8)

ملخّص القول هنا أنه لا يمكن لمشروع الرئيس قيس سعيد أن يُكتب له النجاح من دون تطهير مرفق القضاء من عناصر الفساد فيه والتي نأمل أن لا تكون كثيرة مما يزيد من صعوبة العملية بتحزّب هؤلاء وتحالف بعضهم ببعض، الا أن ييسّر الله كشف ملفاتهم وتورطهم بالأدلّة، وليس الأمر مستحيلا، عندها تكون بلادنا قد طوت صفحة مثقلة بالفساد، وتخلصت من عناصره الفاعلة بالسّوء، مع أن ذلك ليس بالأمر الهيّن، فلنتأمّل خيرا، ولنُعبّر عن مساندتنا الكاملة للرئيس القيس سعيد الاصلاحية، لأنه بأمسّ الحاجة إلى إسناد شعبي لخطواته الصحيحة الصادقة.

المصادر

1 –سورة النحل الآية 76

2 –سورة النحل الآية 90

3 –سنن ابي داود اول كتاب الاقضية باب في القاضي يخطئ ج4ص8ح3573/ سنن الترمذي ابواب الاحكام باب ما جاء عن رسول الله في القاضي ج3ص6ح1322

4 – سنن ابن ماجة المقدمة باب في فضائل اصحاب رسول الله(ص)ج1ص161ح154

5– نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب عهده لمالك الأشتر لما وجّهه وليا على مِصر

6– المقدّمة ابن خلدون الفصل الثالث والأربعون: في أن الظلم مؤذن بخراب العمران

7–رئيس الجمهورية يفتح النار على القضاة مجددا

https://chabaka.tn/

تونس.. قيس سعيد: الشعب يريد تطهير البلاد ولدينا قضاء مستقل

https://www.elbalad.news/5049997

8–ملفات فساد وتواطؤ مع الإرهاب: القضاء في قفص الإتّهام

https://nawaat.org/2020/11/23

شاهد أيضاً

الردّ على جرائم الكيان قادم لا محالة…بقلم محمد الرصافي المقداد

لم نعهد على ايران أن تخلف وعدا قطعته على نفسها أيّا كانت قيمته، السياسية أو …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024