استغلوا سذاجة الشعب وثقته في القائمين على شؤونه، بعد سقوط الدكتاتور بن علي، فبادروا إلى تعطيل مسار الثورة، كبادرة حسن نيّة على أساس مصالحة مع رموز الفساد والنظام البائد، وهي حماقة دلّت على لؤم مقترحها ومتاجرته بضحايا حركته، فسمح ذلك بعودتهم الى الساحة السياسية تحت مسميات أخرى، ومنهم من احتضنتهم كمستشارين.
ومن المجلس التأسيسي إلى المجلسين البرلمانيْن اللذين أعقبا فترة كتابة الدستور الجديد، عاشت تونس تراجعا خطيرا في سلم النمو الإقتصادي، نتيجة الفوضى التي عمت البلاد، وسمحت لعناصر الفساد في الأرض، أن تستبيح مقدراتنا وتستنزف اقتصادنا، وفي ظل تهاون وقطاعات من الشعب، في مواجهة بوادر عرقلة سير عجلة الإقتصاد بسلسة من إضرابات يتحمل النقابيون مسؤولية فيها، على أساس أنه ليس وقتها ولا في محلها، والإعتصامات التي كان ينفذها من حين لآخر المعطلون عن العمل، الذين طالت بهم سنوات تعطّلهم، ولم يكونوا ليجرؤوا على فعل ذلك زمن الدكتاتورية، للعقوبات القاسية التي كانت ستطالهم لو أقدموا على ذلك، ولما جاءتهم الحرية – ولم يدفعوا قِبَلَها ثمانا باهظا – استغلوها جميعا تقريبا أسوأ استغلال، بحيث شكلت أغلب مطالب شرائح الشعب، إن لم نقل كلها على جانب مادّي، تمثل مطالب تحسين أوضاعهم المادية
دون مراعاة للظروف الإقتصادية الصعبة التي تركها النظام السابق، وتفاقمها في ظل الحكم الجديد، الذي كان ثوريّا شكلا وظاهرا، وخاويا على عروشه مضمونا، وزاد الطّين بلّة تناقض السياسيين وأحزابهم في مواقفهم وصراعاتهم التي طفت على المشهد البرلماني التونسي، حتى أصبح مظهر اشمئزاز عام من الشعب، دعاه إلى التبرّم من جلساته، وما يدور فيها من كل مهازل، إلى أن قرّر الرئيس قيس سعيد تجميد بؤرته (1)، وإيقاف مهزلته ليتنفّس التونسيون الصعداء، ويستبشروا خيرا بقرار جاء في وقته.
وكأنّما مرادف السياسة الكذب، ورديفها التحالف مع الفساد، في نظر زعيم حركة النهضة، وهو المفكر الذي يرى نفسه رائدا من رواد الإصلاح، في تونس والعالمين العربي والإسلامي، لم ينجح في تحالفه الأول مع الرئيس السابق الباجي قائد السبسي، ولم يحقق شيئا قبل ذلك، فلجأ إلى الدّهاء ليتحالف مجددا مع حزب قلب تونس، الذي أسسه أحد مافيات الفساد، رغم أنه كان قد صرّح بأنه وحزبه لن يفعل ذلك، ولم يكن ما قام به أخيرا ليفاجئ، سوى عدد هامّ من شرفاء أتباعه، من قيادات وقواعد فيحتجون على ذلك، وينسحب منهم كثيرون، استنكارا وتبرئا من مقاربة عناصر الفساد، التي أسهمت في تردّي أوضاع البلاد قديما وحديثا.
يخطئ من اعتقد أن ما قام به الرئيس قيس سعيد من اجراءات استثنائية انقلابا على الدّستور، وعليه أن يثوب إلى رشده – إن كان يريد حقيقة مصلحة تونس- ليصحح موقفه، ويعيد وجهة بوصلته إلى العمل لصالح البلاد، والقرارات التي اتخذها، تصبّ جميعها في إطار معالجة الإختلالات والعبثية، الواقعتين في عمل البرلمان والحكومة، والأهمّ اصلاح الثغرات في القانون الإنتخابي، وبعض فصول الدستور، الذي كُتِبَ بآراء غير مختصّة في القانون وتشريعه، ولأجل ذلك ستنطلق بداية من السنة القادمة استشارة شعبية، ستفسح المجال لمن يريد أن يُعَبّر عن رأيه من الشعب أن يكتب ما يراه مقترحا ضروريا للبلاد، وفتح المجال للجميع هنا، من شأنه أن يعطي لما سيثمر عنه من اقتراحات ارتباطا شعبيا أكبر.
واستتباعا للإجراءات الاستثنائية، “مدد الرئيس التونسي تجميد البرلمان حتى إجراء انتخابات قال إنها سوف تجرى بعد عام من الآن. وقرر الرئيس إجراء استشارة شعبية على الانترنت تشمل التونسيين في الداخل والخارج، لتقديم مقترحات بشأن الإصلاحات السياسية، في الفترة بين الأول من يناير/ كانون الثاني وحتى نهاية شهر مارس عام 2022، ووفق قراراته، فإنه سوف يتم إجراء استفتاء على هذه الإصلاحات المقترحة في الخامس والعشرين من يوليو/ تموز المقبل، وسوف تجرى الانتخابات البرلمانية يوم 17 ديسمبر/كانون الأول عام 2022، حسبما أعلن سعيد.” (2)
لا شك بأن الفساد الذي ابتليت به البلاد، قد طال جميع مرافقها الحساسة والقانونية، خصوصا وزارة العدل ودوائرها القضائية، وقد عبّر قضاة عن قلقهم إزاء قرارات الرئيس – بعدما شعروا باستهدافهم – وأعلنوا معارضتهم لها، وهدّدوا بالتصعيد في صورة المساس بمجلسهم ( المجلس الأعلى للقضاء)، محاولة منهم لغلق ملفّ الفساد، الذي أتّهّمُ به عدّة قضاة استغلوا ووظائفهم ومواقعهم القضائية، لفائدة منافع لهم، حصلوا عليها من المتقاضين، مقابل إصدار أحكام لفائدتهم، أو بتجميد ملفات قضاياهم.
يكفي هنا أن نستدل بتقاعس من حكم في العشرية الماضية، عن استعادة أموال البلاد المنهوبة، وهي أموال ضخمة لو أعيدت الى خزانة الدّولة فإنها ستحلّ وحدها معضلة المديونية التي نعاني منها، وتهدد بمصير لا تُحمدُ عقباه لبلادنا.
وتونس التي تعيش على وقع هذه الاجراءات، بين أغلبية شعب راض بها، مستبشر بما ستثمره من نتائج، من شأنها أن تخرج البلاد من مستنقع الفساد الذي تردّت فيه، وتتخلّص من كثير من المفسدين، الذين استغلوا نهم الطامعين في اجهزة الدّولة، ليوظفوهم للعمل لفائدتهم، أما المعارضون لهذه الإجراءات، فغالبهم من الذين لحقهم ضرر منها، ومن أولئك الذين رافقهم الفشل طيلة حياتهم السياسية، فلم يقدروا على تقديم ما ينفع مسيرتهم العاطلة، فكيف بهم سينجحون في تقديم ما يفيد بلادهم؟
المعارضون لإجراءات الرئيس قيس سعيد أغلبهم تلاحقهم هذه الاجراءات، منهم من تعلقت به تُهم الفساد المالي، ومنهم من تورط في صفقات توريد فاسدة، ومنهم من كان سببا في ضرر قطاع بأكلمه نتيجة سياسته الخاطئة، ومنهم من عُرِف بسلوك خالف تُعْرَفْ، وفيهم وهذا الأخطر، وهو ملف التسفير إلى بؤر التوتّر، والتأثير على القضاء بتعطيل قضايا متعلقة بالإغتيالات والإرهاب.
تجاذبات وصراع خفيّ وصل إلى القواعد والشارع، وطبيعي أن يستعمل المفسدون جميع طرق عبثهم، ايهاما للرأي العام بأن جبهتهم تشكل الأغلبية، في مواجهة قرارات الرئيس، مع أنّهم يدركون أنهم ليسوا كذلك، والسبب أن الشعوب التي تتخاذل أمام أداء واجباتها، تترُك الساحة شبه خالية لأعدائها يمرحون فيها، ويحققون كذبة الديمقراطية الزائفة، في زمن يكون للشواذ والمثليين والمفسدين في الأرض، قدرة على تنغيص عيش بقية النّاس، واعتقد أنّ الشعب يرفض أن يكون لهؤلاء صوت وهو العريق في دينه ومعتقداته التي تأبى عليه أن يسقط في الزّيف والكذب وتقليد الغرب الأعمى.
المراجع
1 – تونس: إجراءات الرئيس قيس سعيّد ” الإستثنائية” تؤجج المخاوف والقلق في الأوساط السياسية والقضائية
2 – الرئيس التونسي قيس سعيد يمدد تجميد البرلمان لحين إجراء انتخابات نهاية العام القادم
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-59645833