من بدايات الأمور، لم يكن مفاجئا أن يظهر شخص بلباس رجل دين شيعي في تونس، بعد أن كان يتردد إليها لسنوات بعد الثورة بلباس عادي، فقد ظهر أولا في برنامج إعلامي لم يكن صاحبه مقبولا من حيث تاريخه المهني، فقد اتحفنا قبل ذلك في بدايات هذه الثورة التعيسة، باتصال هاتفي مع الشيخ حسن عز الدين مسؤول العلاقات العربية حزب الله اللبناني، ليطرح عليه أسئلة فضوليّ، لم تظهر غايته منها وقتها، أخذتنا نشوة الحرية بعيدا لنراها مجالا واسعا من الحرّية انفتح علينا، واعتبرنا حينها مبادرته تلك حسنة من حسنات الثورة التعيسة، وقد شكل ظهور الشيخ أحمد سلمان في برنامج برهان بسيس التاريخي، مفاجأة لنا نحن المسلمون الشيعة الامامية الاثني عشرية، ذلك لأننا لم نتعود على تلك الحالة من الإنفتاح مع إعلام تونسي، معروفُ بانغلاقه التّامّ في العهدين السابقين، فلا صوت يشارك النظامين في ما يتعلق بالحقوق والحرّيات العامة والخاصة، ولا وجود لإعلام يكون خارج منظومته السياسية والدينية، لا صحفيّا ولا إذاعيّا ولا تلفزيّا، فجميعها أبواب مقفلة بمفاتيح الحزب الفاشي الواحد، وما يجري في كواليس الإعلام وإن حصل خطأ ما فسر خاص، ليس متاحا لمن هم خارج أجهزة الإعلام، وماكينته المكتوبة والمسموعة والمرئية، تتحرّك جميعها بأذون من قصر قرطاج، حتى الوزراء لا قدرة لهم على خرق تلك الخصوصية إلا بإذن خاص.
ثم جاء الإعلان والتّرويج لحلقة برهان بسيّس الثانية لأحمد سلمان، في شكل مناظرة مع الشيخ بدري المداني، ليس مهما إصدار حكم عليها، بقدر ما يجب النظر إليها في جوانب أخرى، من انجازها وتقديمها للجمهور التونسي المتابع للقناة التاسعة، وحتى الفضولي الذي تناهى إليه الخبر فرغب في متابعة أحداث الحلقة، مع أنني لم أتابع سوى عشرين دقيقة مسجلة من الغد، من باب الفضول لا غير.
انتهت تلك الحلقة، دون أن يسقط أحد الشيخين الآخر بالضربة القاضية أو بالنقاط، كما يتبادر إلى أذهان البعض وذهبت طي النسيان، وكل الأمل في أن لا يعود الإعلامي بسيس ليرتضع من جديد باسم التاريخ من ثدي واحد، كأنما أعجبه أسلوب دونالد ترامب في رضاعة الكبير، التي مارسها فقهيّا على آل سعود، وامريكا تهيّء هذه السنوات لمشروعها في الإسلام الأمريكي ( ديانة ابراهام) التي بدأت الإمارات في الترويج لها كمنطلق قاعدة تُجْبى إليها قطعان العرب بالإغراءات العديدة، ولا أرى برهان ولا أحمد سلمان متخلّفين عن ركب هذا المشروع التآمري ضدّ الإسلام المحمّدي الأصيل، فكل له دوافعه أقلّها بروز وشخصنة ومتاع قليل، نسأل الله الثبات على الولاية الصحيحة وحسن العاقبة. حتى لا يكبر شكنا وبرهان صاحب خطة يريد بلوغها بدهاء وظيفته، وأسرار شخصيته، وما تحمله من جرأة في هذا العصر، كانت مخبأة بإحكام فيما مضى، وجاء وقت إظهارها الآن، مدفوعا وسباقا إليها، فلتة من فلتات زمانه، كصاحب العمامة ولباسها الخاص الشيخ أحمد سلمان.
آسف للقول بأنّ هناك من اغتر بحلقتيْ برهان بسيس، واعتبره بداية فتح إعلامي دعائي، دون أن يتساءل عن هذا الشيخ القادم من السعودية، وصاحب جنسيتين سعودية وتونسية، من الذي حركه للعمل بهذا الأسلوب على الساحة التونسية؟ ومن الذي يقف وراءه؟ وما هي الغاية من هذا كله؟ والإعلام بهذا المستوى من الجرأة مجازفة لا تكون بالمجّان أبدا، ولو أقسم على براءتها من التّهمة صدّيقوا هذا الزمن إن وجدوا.
مع أن الساحة التونسية وان كانت مفتقرة إلى إعلام نزيه لحد اليوم، واعلامنا لا يزال في أردء حالاته لم يتغيّر، فان ذلك الظهور يدعونا كعقلاء إلى التساءل والبحث عن الدوافع الملجئة لذلك، وعلينا الإحتراز جيّدا (كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر يركب ولا ضرع يحلب)(1) فلسنا أغبياء حتى نكون ضحية مؤامرة جديدة حاكتها أجهزة خارجية تريد وضع اليد على المكون الشيعي بتونس وتحييده سياسيا.
المفاجأة التي حصلت أمس، وهي غير متوقعة من أساسها، وكان الاعتقاد السائد أن الشيخ أحمد سلمان سيكتفي بالمركز الثقافي الذي اسسه، وما سيتفق عليه مع الإعلامي برهان بسيس، وقد يذهب بها أبعد من ذلك إعلاميا، وكانت بحقّ من العيار الثقيل، ليس من حيث قيمتها، فهي لا تساوي شيئا قانونا ومجتمعا، ولكن من حيث تداعياتها وآثارها السّلبية، ومنها مهاجمة البعض إيران على أنها طرف دافع إليها مع أنها بريئة منها، براءة الذّئب من دم يوسف، لكن الأنفس المريضة أتاحت لها مثل هذه الأعمال الغير بريئة المجال للمزايدة والكذب، تأليف (الميثاق الوطني للتعايش السلمي المشترك)، والإمضاء عليه من طرف ستة مواطنين بالأمس (26 جانفي 2022 )، يبدو من خلالها أن كل واحد يمثل جهته العقائدية والفكرية، وليس ذلك صحيحا واقعا، لأن الشيخ أحمد سلمان لا يمثل إلا نفسه أو من استجازه على ذلك، وليس عموم الشيعة في تونس، والذي حصل يوم أمس بأحد فنادق المرسى، إثارة إعلامية لا طائل من ورائها، ولا تمثل شيئا يُعتبر قانونا ملزما، ولم يكن هناك داعيا واحدا يدفع هؤلاء إلى كتابة هذا الميثاق، واجرائه مجرى رسميّ، كما تبرم عليه المعاهدات والمواثيق الدولية.
ذلك أننا في تونس كمواطنين شيعة نعيش في كنف السلم الأهلي منذ تشيعنا، ولم يقع تهديدنا اجتماعيا وحتى سياسيا، سوى أنّ النظامين السابقين ضيقا على أسماء محددة في تنقلاتها ومعيشتها، حتى الذين وقعت محاكمتهم ظلما وهم قلائل، كانت أسلوبا لقمع أصحابهم، وهذه الحالة ليست خاصة بالشيعة، العامل الوحيد الذي ازعجنا في بلادنا ما بعد الثورة، هي الأنفس الوهابية وجماعتها الإرهابية التي هددت البعض، واعتدت على البعض، وهي حالة أمكن معالجتها أمنيا، وقد تم ذلك بنسبة مأوية كبيرة، لكن بقيت فقط جرأة سياسية لم تُتّخذ، بالإشارة بالإسم إلى الجحر الذي اصيبت منه بلادنا، وفقدنا أعزاء لدينا بسببه، وهو هذا المذهب الوهابي المتحجر الهدام، الذي يبقى التهديد الوحيد للسلم والأمن الأهلي، والخطر الكبير الذي مازال قائما، ولكن بشكل أخف من السنوات الأولى، التي كانت فيها عناصره تصول وتجول تنتهك حق البلاد والعباد.
وعلى أية حال فإن نظرة واحدة إلى دستورنا الجديد، الذي أنجز في مجمله بشكل جيد، وكتب فصوله نواب الشعب من المجلس التأ سيسي، تمنحنا الثقة في التزام الدولة به والعمل بمقتضاه، فلا مجال لخرقه، يقول الفصل السادس من الدستور التونسي:
(الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها.(2)
ملخّص القول بأن الشعب التونسي بما بلغه من وعي والدّولة من نضج ونحن نعيش عهدا جديدا من الألفة والتعايش السّلمي الذي تحسدنا عليها عديد الدّول، لسنا بحاجة إلى مواثيق لم تُكْتب بإرادة نابعة من صميم الشعب، فلا الدّافع الذي يتهدد سلمنا وتعايشنا موجود، ولا الدولة تفككت حتى نستجير من الرمضاء بالنار، الميثاق ايحاء خبيث لمن لا يعرف تونس فيقول أن فيها نزاعا أو حربا بين فرقاء، فيحجم حتى عن زيارتها خوفا من وهم ركّبه من له غاية يعرفها خالقه، المموّلون لهذا المشروع التفريقي الفتنوي لن يمرّوا طالما أن في تونس رجال يُعرفون باستقامة الأخلاق وحب الوطن.
المصادر
1 – شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج18 ص82
2 – الدستور التونسي
https://www.constituteproject.org/constitution/Tunisia_2014?lang=ar