مرّت أحد عشرة سنة على الثورة التونسية – إن صحّت تسميتها كذلك- ولم يستفد منها الشعب ولا البلاد شيئا تقريبا، سوى شيء من الحرّية العقيمة، التي أفسدت انضباط التونسيين تحت القانون واستجابتهم لمصلحة بلادهم، وعوض أن تتخلّص بلادنا من أدرانها التي تعلّقت بها طوال فترتي حكم فردي، استبدّ فيهما كل من بورقيبة وبن علي أيّما استبداد، في كافّة شؤونها وقضاياها، ذهبت فيه مصالح شعبها وجهوده التي بذلها خلال تلك الفترة هدرا، فلم يستفد منها بشيء، يعود عليه حاضرا ومستقبلا بما كان يرجوه.
ولقد استبشر التونسيون بالتغيير الطارئ والغير منتظر، وتوسّموا في حدوثه خيرا، إلّا أنه سرعان ما تهاوت أحلامهم سنة بعد أخرى، إلى أن دخلت بلادهم في نفق مظلم من السّلبيّة والعبثيّة، وعوض أن تنصلح حال المرافق الحكومية وتنتهج مسارا ثوريا واعيا بمتطلّبات المرحلة، مستجيبا لتطلّعات الشعب، استمرت في أدائها السّلبي، كما كانت من قبل في خدمة النظامين الفاسدين السابقين، تعمل من أجل حماية الفساد والتغطية على المفسدين، ولم يكن مرفق القضاء بمنأى عن ذلك، فقد كان مع وزارة الداخلية، العصا الغليظة للإستبداد السلطوي الحاكم، لكنّه بمرور هذه السنوات، لم يقع فيهما اصلاح، باستبعاد عناصر الفساد، التي كانت تستغلّ وظائفها، لأغراض شخصية وفئوية وحزبية حاكمة.
ولما انتخب الرئيس قيس سعيد سنة 2019، هاله أن يجد الأوضاع على ذلك النّحو من التجاوزات الخطيرة، وانتظر أن يبادر البرلمان والأحزاب الحاكمة لفعل شيء، من شأنه أن يغيّر مسارا سلبيّا خاطئا يجب العدول عنه، لأنه أثبت عقما فادحا، لم يلد خيرا يرجوه الشعب المغلوب على أمره، وسط زُمر عابثة بمستقبله، ذاهبة به إلى حضيض الدّول المتخلفة سياسيا واقتصاديا، ولم يكن أشقى وأشدّ ضررا عليه من المرفقين الحكوميين المذكورين، الذين نخرهما الفساد المالي والإداري والتراتيبي، وما أفرزاه من تجاوزات بحق البلاد والعباد.
تحذيرات الرئيس من مغبّة مواصلة السّير على المنوال النفعي الشخصي القديم، دون أدنى اعتبار لمصلحة البلاد، لم يُعِرها البرلمان ولا أعضاء الحكومة أدنى اهتمام، فقد كانوا يعتبرون منصب الرئيس شكليا، بلا أثر فاعل في تسيير دواليب الدّولة، وأن صواريخه التي هدد مرات بإطلاقها من قرطاج ليست حقيقية، ومجازها لن يصل إليهم، وتصرّف جميع هؤلاء على نحو:
أسمعت لو ناديت حيّا لكن لا حياة لمن تنادي
بل وذهب من ذهب منهم، إلى التحالف مع عناصر تلبّسها الفساد بأنواعه، بلا خجل من تواريخهم المزدحمة بالشبهات المالية والأخلاقية، وتطويع القانون لجلب المنافع الغير مشروعة لهم ومن يدور بفلكهم، وخطر الفساد الذي لا يزال مخيّما على البلاد، لم ينفرد بالمرفقين المذكورين فقط، بل لقد عمّ أكثر من ذلك، فلم يبق مجال أو مرفق لم تصبه آفته الفتّاكة، فالمحسوبية والإرتشاء واستغلال المناصب، واسناد الرّخص ومنح القروض لتذهب دون رجعة، وتساهل في الرقابة المالية والجمركية، وغضّ الطرف عن المهرّبين، والتشغيل دون كفاءة بمقابل، كانا الوجه القبيح الخفيّ الذي بقي معمولا به، تحت ستر المنصب وخلال هذه السنوات.
وفيما عبّر التونسيون عن ارتياحهم للإجراءات الاستثنائية التي إتّخذها الرئيس قيس سعيد، ووقفوا مناصرين له أمام ساحة البرلمان في باردو، واجهضوا بذلك مع قوات الجيش الوطني الحامية للمبنى، محاولات أعضائه المجمّدين الدخول إليه، لإصدار قرارات معارضة للرئيس، وادخال البلاد في بلبلة واضطراب خطيرين، لا يعلم نتائجهما سوى الله تعالى، التفّت الأحزاب الحاكمة ومعها احزاب أخرى تدّعي حماية الديمقراطية، لا قيمة شعبية لها، ذات صفر فاصل، لتصطفّ إلى جانب معارضة قرارات الرئيس، معتبرة إياها انقلابا على الدستور، وتأسيسا لحكم فردي مستبد.(1)
اضطرار الرئيس قيس سعيد الثّاني والهامّ جاء من أجل اصلاح مرفق القضاء، فأصدر مرسوما بحلّ المجلس الأعلى للقضاء(2) وهو قرار صائب، استفزّ كل الذين كانوا مستفيدين من بقاء هذا المجلس العقيم، فعبّروا عن تضامنهم مع أعضائه الذين رفضوا القرار، نكاية في الرئيس الذي أصبح عدوّا لدودا منقلبا عليهم كما يصفونه بذلك(3)
دليل واحد يكفي للدلالة على مدى استشراء الفساد في مرفق القضاء، وهو من الخطورة الحاصلة كان دافعا قويّا، فرض على الرئيس القيام بعمليات إصلاح جذريّة شملته، جميعنا يعلم قضية المطرب الشعبي (نور شيبة)، ومداهمة منزله، وضبط حوالي 900 غرام من مادة الكوكايين فيه، إضافة إلى مواد مصنّفة خطرة أخرى، وإيداع السجن مع مورّطين آخرين معه (4) وباعتبار أنّ القضية قد أخذت بعدا شعبيّا واسعا، فإنّ الأحكام الصادرة بحقّ المُورّطين لم تمرّ دون ردود أفعال، رافضة لطيّها بالشّكل الذي أراده المتعهّدون للملفّ من القضاة وأعوانهم، فقد أُذن بفتح تحقيق جديد، من أجل الكشف عن المورطين في تغيير مواد جنائية ممسوكة، وأعيد ايقاف الفنان الشعبي ومن معه، ومن سيكشفه البحث (5)
وعوض أن يصدر حكم عادل يكون عبرة لغير هؤلاء المجرمين بحق المجتمع وأجيال شبابه، تفاجأ التونسيون بإصدار حكم بعدم سماع الدعوى بشأن الموقوفين واطلاق سراحهم، رغم التلبّس الذي أُخِذُوا بجرمه، وأعتقد أن عديد القضايا الحزائية والجنائية قد تبخّرت، بهذا الأسلوب الذي وقع بخصوص هذه القضية، وصواب القرار الرئاسي بحل المجلس الأعلى للقضاء، على أساس أن كثير من أعضاءه غير جديرين بانتمائهم للمجلس، وهو مجلس رقابي له سلطة الإشراف على مرافق القضاء، واصدار قرارات عقابية بشأن القضاة المخالفين.
تُعْتَبَرُ مكافحة الفساد من المسائل الجوهرية والهامّة في حياة الدّول، ونشر العدل بين أفرادها وطبقاتها الإجتماعية أساس للعمران، واستقرار مجتمع بقيادة سلطته على أساس من المساواة، وليس من السّهل بلوغ هذه الغاية، فركام الفساد الحاصل في البلاد، وتغلغله في دواليب الدولة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، يحتاج فضلا عن قرارات مصيرية صادقة، إلى مواقف جماهيرية داعمة لها، وصبر ومراقبة وجهود متظافرة من الجميع، وهي بعبارة أخرى إعلان حرب حقيقية على أوكاره أينما وجدت، في أعلى هرم السلطة أم فيما دونها من أجهزة السياسة والإقتصاد، حربٌ إن نجحت تونس في كسبها، ستكون لها آثار إيجابية في المستقبل، وخيبة أمل لمن عارضها، قد تدفعه للخروج باكرا من الساحة السياسية.
المصادر
1 – تنسيقية الأحزاب والشخصيات الديمقراطية: إشراف رئيس الجمهورية على تنصيب المجالس المؤقتة للقضاء خطوة انقلابية جديدة https://ar.tunisienumerique.com/
2 – تونس سعيّد يعلن عن مرسوم يقضي بحل المجلس الأعلى للقضاء
https://www.aa.com.tr/ar/2499304
3 – تونس الأعلى للقضاء يرفض استحداث سعيد مجلسا مؤقتا
https://www.aa.com.tr/ar /2502983
4 – بطاقات إيداع بالسجن في حق نور شيبة وراقصة وآخرين… التفاصيل
https://www.babnet.net/rttdetail-238463.asp
5 – قضية الكوكايين: فتح تحقيق ضد نور شيبة من أجل ‘تغيير مواد إثبات’
https://www.jomhouria.com/art139276