لا يكاد يمر يومٌ دون أن يرتقي في القدس والضفة الغربية شهيدٌ فلسطيني، وكأنَّ أهلها أصبحوا على موعدٍ دائمٍ مع الشهادة، لا يخلفونه ولا يتأخرون عنه، ولا يحيدون عنه ولا يهربون منه، ولا يصدمون به أو يتفاجأون، فقد بات كل فلسطيني منهم مرشحاً لأن يكون مشروع شهيدٍ أو جريحٍ أو أسيرٍ، والحوادث على ذلك كثيرة، والشواهد يومية، والإحصائيات تؤكد هذه الظاهرة وتوثقها، والعدو الإسرائيلي لا يفتأ يكررها ولا يمل من مضاعفتها، بل يتعمد القيام بها ويحرص على ارتكابها، فقد كانت رؤيته القديمة وما زالت “أن الفلسطيني الطيب هو الفلسطيني الميت”، ومن لا يستطيع قتله يصيبه أو يعتقله، ولا يعني هذا أنه قد لا يقتل الأسير أو الجريح في أي فرصةٍ قادمةٍ تواتيه.
غدا كل فلسطيني يخرج من بيته، صباحاً إلى عمله، أو أثناء النهار لتأدية مهمته، يودع جاداً أطفاله وأهل بيته، ويستودعهم الله عز وجل أمانةً عنده، ويطبع على جبين بعضهم قبلةً، ويقبل يدي والديه ويرفعهما فوق جبينه تكريماً وتقديراً، إذ يتوقع ألا يعود إلى بيته، وألا يرى والديه ومن يحب مرةً أخرى، فقد يعترض طريقه جنود الاحتلال، أو يقطع الطريق عليه ويهاجمه المستوطنون وغلاة اليهود المتطرفين، وكلاهما بات يتعمد إطلاق النار على الفلسطينيين بحجة تحييدهم للاشتباه فيهم، وقد سمح لهم رئيس حكومتهم نفتالي بينت بحرية استخدام القوة ومختلف الوسائل بحجة حماية شعبهم ومنع “الإرهاب”.
تشير إحصائيات العام 2021 أن عدد الشهداء الفلسطينيين، الذين سقطوا برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه، في القدس والضفة الغربية، تجاوز المائة شهيداً، من بينهم تسعة وعشرون امرأة، قتل أغلبهم على الحواجز الأمنية أو قريباً منها، بحجة الاشتباه فيهم، وهي نسبةٌ عالية جداً بالمقارنة مع عدد الشهداء في السنوات التي سبقت، إلا أن ما يميز السنوات الأخيرة هو الحقد الإسرائيلي والتطرف الديني والتشدد القومي اليهودي، الذي يترجم على الأرض عنفاً ضد الفلسطينيين، وإفراطاً في القوة، ومبالغة في استخدام الأسلحة الفتاكة، ويزيد الحالة خطورةً سياسة الحكومة الإسرائيلية التي تمنح الجيش والعناصر الأمنية والمستوطنين حرية القتل بحجة الدفاع عن النفس.
لا يستثن الاحتلال الإسرائيلي فلسطينياً من إجراءاته الأمنية، ولا يفرق بطلقاته القاتلة بين طفلٍ وشابٍ، وبين رجلٍ وامرأةٍ، وبين مريضٍ وقعيدٍ ومعوق، وشيخٍ وعجوزٍ، فجنوده ومستوطنوه يطلقون النار على الجميع من نقطة الصفر، فيما يشبه الإعدام الميداني المقصود، الذي ينفذه الجنود الإسرائيليون العابثون المستخفون بحياة الفلسطينيين، والحاقدون الكارهون لهم.
وقد سجلت عدسات الإعلام عمليات الإعدام التي تنفذ عن قصدٍ وإصرارٍ، حيث يعمد الجيش على ترك الشهداء على الأرض ويمنع نقلهم إلى المستشفيات، بينما يترك الجرحى ينزفون حتى الاستشهاد، ولا يسمح لفرق الإسعاف التي تكون غالباً قريبة منهم، بتقديم العون والمساعدة والإسعافات الأولية لهم.
ولعل جريمة قتل السيدة غادة إبراهيم سباتين، التي أطلق عليها جنود الاحتلال النار من مسافةٍ قريبةٍ، رغم أنه يبدو عليها أنها في نهاية العقد الخامس من عمرها، وأنها لا تشكل خطراً على حياتهم، إلا أن الجندي الذي اقترب منها، واصل إطلاق النار عليها بقصد قتلها، تسلطُ الضوء على الجريمة الإسرائيلية ضد النساء الفلسطينيات، اللاتي يتعرضن للقتل على اختلاف أعمارهن وحالاتهن، فقد قتل العدو دونما سببٍ أو مبررٍ أمني، على الحواجز الأمنية، عشرات العجائز والمسنات، والحوامل والمريضات.
أما الأطفال الذين قتلهم ممن هم دون السادسة عشر من عمرهم فهم كثيرٌ، وقد ثبت بالأدلة الموثقة والصور المباشرة أنهم جميعاً قتلوا من مسافة الصفر، وأنهم تعرضوا لأكثر من طلقةٍ قاتلةٍ، ما يؤكد تعمد القتل وليس تحييد الخطر المُدَّعَى.
ولا نستطيع أن نغفل جرائم القتل اليومية التي ينفذها جيش العدو وقواته الأمنية، وفرق المستعربين وعناصر الوحدات الخاصة، خلال المداهمات اليومية لمدن ومخيمات وبلدات القدس والضفة الغربية، فقد باتت هذه العمليات دائمة، والجرائم متكررة، وهو الأمر الذي يزيد من مستوى التوتر، ويعرض حياة الفلسطينيين عموماً للخطر، ويرفع من عدد الشهداء والجرحى بصورةٍ لافتةٍ ومقلقةٍ.
لا يبدو على الإسرائيليين أي قلقٍ أو ندم حيال أي جريمةٍ يقترفونها ضد الفلسطينيين عموماً، ولا يبدو أنهم سيجرون تحقيقاً حول جرائم جيشهم المتكررة، طالما أن دول العالم تقف متفرجةً على جرائمهم، ولا تدينها ولا تستنكرها، بل تدين الفلسطينيين إذا حاولوا الدفاع عن أنفسهم أو رد العدوان عنهم، ولكنهم يخطئون تماماً إذا ظنوا أن سياسة القتل والعنف التي يمارسونها ستخيف الفلسطينيين، وستجبرهم على التراجع والانكفاء، وستمنعهم من مواصلة المقاومة والإصرار على الحق، وما علموا أن الدم دوماً، والتاريخ يشهدُ، يروي الثورات، ويقوي الشعوب، ويصبغ الأرض بلونه.
moustafa.leddawi@gmail.com