منذ إنطلاق العمل بالدستور التونسي لسنة 2014 لم تنعم البلاد بأي هدوء سياسي و لا استقرار في منظومة الحكم فبين أزمة تشكيل حكومة و ازمة تحوير تعطلت اجهزة الدولة و فقدت نجاعتها، محطتين انتخابيتين كانتا كافيتين لبرهنة عدم نجاعة و ملاءمة هذا النظام السياسي للواقع التونسي حيث تسبب في تشتت السلطة التنفيذية و جعلها خاضعة للمزاجات السياسية داخل البرلمان ليصبح التغيير ضرورة و العودة إلى النظام الرئاسي. و القول بوجود نظام رئاسي لا يعني بتاتا الاستغناء على البرلمان كونه المعبّر عن الإرادة الشعبية و الممثل لإرادة الشّعب، بل يحافظ البرلمان على دوره و على قيمته بوجود توازن و تفاعل بين رئيس الجمهورية و البرلمان و تبرز هذه التفاعلات في مسار سن القوانين حيث تفترض كل القوانين التي يضعها رئيس الجمهورية مصادقة مجلس نواب الشعب عليها..والتوجه نحو تطبيق النظام الرئاسي سيساهم بإعادة التوازن المفقود بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وكونهما يعيدان الاعتبار للإرادة الشعبية في التمثيل السياسي..
لا يختلف إثنان على أنّ مشروع بناء الجمهورية الثانية بدستور 2014 ذهب بإتجاه دولة المكونات و التوافقات، وعمليات الاستقطاب في عملية اعادة بناء الدولة وتشكيل معظم القوى والأحزاب السياسية على أساس ولائها للمكونات الحزبية وعانت هذه القوى من غياب رؤية واضحة لمفهوم الدولة وتشبثت بالسلطة ونظام المحاصصة، وعانى الشعب التونسي من ظاهرة عدم الاستقرار السياسي وتفكيك البناء الثقافي والاقتصادي والمجتمعي والتدخل الخارجي والتي أدت الى انعدام الثقة بين مكوناتها والعنف السياسي والتي أدت بالنهاية الى استمرار العبث السياسي و التقسيم.. قامت إنتفاضة الخامس والعشرين من جويلية في الأساس رافعة شعار تحقيق الحرية و الكرامة ،ممّا يدل على معاناة المواطنين في الحصول على أبسط حقوقهم الاقتصادية ممّا يعطى انطباعًا على سوء الأوضاع الإجتماعية و الاقتصادية داخل المجتمع التونسي ، وما يرتبط بذلك من غياب العدالة الاجتماعية من خلال أقلية تملك كل شىء وأغلبية لا تملك أي شىء، ولعلّ هذا هو أحد العوامل التى فجرت إنتفاضة 25 جويلية 2021..، إنّ الأزمات المتتالية والتحديات تؤكد حجم وحقيقة الخلل البنيوي في النظام السياسي الحالي وطريقة الحكم، وأن المسؤولية التاريخية والوطنية تقتضي العمل الجاد على إنهاء دوامة الأزمات التي تعصف بالبلاد، و يستوجب ذلك الإقرار بأنّ منظومة الحكم التي تأسست بعد عام 2014 تعرضت إلى تصدع كبير و فشلت في إدارة الشأن العام ، ولا يُمكنها أن تخدم المواطن الذي بات محروماً من أهم حقوقه المشروعة، لذا فنحن بحاجة ماسة إلى عقد سياسي جديد يؤسس لدولة قادرة ومقتدرة وذات سيادة كاملة، و من غير الممكن أن يتحمل المواطن التونسي ضريبة الصراعات والإخفاقات السياسيّة والفساد إلى حد التلاعب بقوته اليومي.. أرى أنّ أولى خطوات الحل تبدأ بتغيير شكل نظام الحكم، فالجميع يعترف بأن النظام البرلماني المعدّل لا يمكنه إنتاج طبقة سياسية تفكر خارج إطار العُرف السياسي القائم على أساس المحاصصة والتطبيق المشوَّه لنموذج الديمقراطية التوافقية..، ولا يمكن إنهاء هذه الفجوة السياسيّة إلاّ بتغيير شكل نظام الحكم من البرلماني المعدّل إلى الرئاسي.. و إنّ أحد أهم مداخل اصلاح النظام واستقراره هو الإقدام على تعديل الدستور، بما يوضّح صلاحيات كل سلطة، وحقوق المواطنين وحرياتهم وعيشهم الكريم.. و إنّ القوى السياسية الرافضة للإستفتاء على النظام السياسي تريد الإبقاء دستور مفخخ وُضع على المقاس و الإبقاء على منظومة سياسية تُدار بمنطق المحاصصة و التوافقات المغشوشة الذي لا يمكنه إلا أن يعيد تدوير ثنائية الفشل والفساد، ومن جانب آخر، لا تفكر بحلول عَمَليّة قادرة على تجاوز حالة الانسداد، وبدلا من ذلك تُسخّر كل ماكيناتها الإعلامية التي تسعى لإفشال الإستفتاء على الدستور الجديد والنظام السياسي ، وبالتأكيد هم يتحدثون هنا عن نظامهم الذي أسسوه لمصالحهم ، وليس النظام السياسي المُرتبط بإدارة مصالح المجتمع.. ومن المفارقات المخجلة أنّ هذه الطبقة السياسية تريد من الشعب أن يرفض أيَّ محاولة لتغيير الدستور و النظام، وتتجاهل تماما، أن التونسيين باتوا لا يستحضرون أيَّ أمل إلاّ بتغيير النظام السياسي الهجين الذي أسسته صفقات وتوافقات بين زعماء سياسيين تهيمن على مخيلتهم عقلية الغنيمة والبحث عن ضمانات لبقاء هيمنهم وسطوتهم على العملية السياسية و بتغيير الطبقة السياسية التي كانت تتقاسم الحكم وتصادر الدولة، ومن ثم تكون جميع الاحتمالات للإصلاح و للتغيير مُرحَّبٌ بها.. وإذا كنا نتحدث عن دستور جديد للبلاد فإننا نتكلم وبشكل جلى عن عقد اجتماعى جديد بين الشعب والسلطة الحاكمة، بموجبه يفوض الشعب السلطة الحق فى الحكم وإدارة شئون البلاد، وإنّ المطالبات بالتعديل الدستوري لا تعد ترفا سياسيا او فكريا، او بدعة، فقد أجبرت الظروف وتطورات الاحداث بلدان عديدة على إعادة صياغة دساتيرها، ويعتبر التعديل الدستوري الوسيلة الأبرز لإصلاح النظام عبر معالجة الاشكاليات التي تشوب المواد الدستورية، واستيعاب الجديد وسد النقص التشريعي وتعديل القصور في الصياغات، ولم تتوقف الدعوات لتعديل الدستور منذ كتابته في 2014 حتى الآن، ليس فقط بسبب تغير الظروف التي كتب فيها وما رافق ذلك من ملابسات سياسية، بل لأن مواده كتبت على المقاس ،و تسبب في المأزق السياسي الذي تعيش على وقعه تونس، لذا فليس من الصحيح بقاء الدستور دون مراجعة، بل يتطلب الامر مراجعة مواده بما يتناسب مع التطورات والمتغيرات،و ان أحد اهم مداخل اصلاح النظام واستقراره هو الاقدام على تعديل الدستور، بما يوضح صلاحيات كل سلطة، وحقوق المواطنين وحرياتهم وعيشهم الكريم..و أن يتضمن الدستور الجديد بين فصوله ما يمنع خرقهُ ، أو التحايل عليه ، وأن يكون واضحاً وشاملاً لا يقبل التأويل ، دستور يوحد تونس ولا يقسمها ، دستور جديد يؤكد على إستقلال القضاء والفصل بين السلطات ، دستور جديد يحفظ الحقوق والحريات ويكرس الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ويحقق التوازن والتوازي بين السلط ويوحد السلطة التنفيذية في نظام رئاسي وسلطة تشريعية، ويحقق الضمانة لإستقرار و التوازن بين جميع مؤسسات الدولة التي هي ركيزة الديمقراطية ، ودستور يحقق مباديء حقوق الفرد في الحريات الشخصية التي كفلتها المباديء الأممية في قوانين الأمم المتحدة و يضمن العدالة الاجتماعية و الإقتصادية. ولتحقيق هذه الأمور لابد أن يتضمن الدستور الجديد مجموعة من المبادئ الجوهرية يعكسها مفهوم العدالة الاجتماعية وهى، أولًا: تحقيق تكافؤ الفرص بين المواطنين كافة، فلا يجب أن تكون ثروة المجتمع والدولة حكرًا على بعض المحظوظين من الطبقة العليا فى المجتمع، بل يجب أن يضمن الدستور تكافؤ فرص حقيقياً بين قطاعات واسعة إلى مستوى الكرامة الإنسانية في الحياة الاجتماعية بما يضمن الحد الأدنى من الحياة و العدالة الاجتماعية ، ويرتبط هذا بالأساس بالمبدأ الثاني القائم على تحقيق المساواة بين جموع المواطنين في الحقوق المقررة لهم والواجبات الملقاة على عاتقهم، أما المبدأ الثالث في مجموعة المبادئ التى يجب أنه يتضمنها الدستور الجديد فهو استحقاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتأتي أهمية هذا المفهوم مع تغيرها من كونها حقوقًا تضمنها الدولة بالقدر الذي تسمح بها مواردها إلى حقوق من الواجب على الدولة أن تحققها باعتبارها التزاما قانونيا وليس التزاما أخلاقيا فحسب، وهو ما يترتب عليه استحقاق المواطنين مجموعة من الحقوق الأساسية، ولعلّ العديد من ثورات الشعوب على أنظمتها الحاكمة كان سببها الأساسي هو فشلها في توفير الحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فقد قامت إنتفاضة 25 جويلية بسبب تفشى العديد من الأمراض الاقتصادية والاجتماعية وهي الفقر والبطالة والفساد، فقد خرج الشعب التونسي للمطالبة بالتغيير والكرامة والعدالة وانهاء صفحة الفساد.. ومن هنا فإن الدستور الجديد كعقد اجتماعي جديد يجب أن يضمن هذه المبادئ، لكي تكون حقوقاً مقدسة للمواطنين بموجب الدستور، وبالتالي تكون الحكومات المقبلة ملزمة بتحقيق هذه المبادئ بين جميع المواطنين على قدم المساواة بما يجعلنا نقود البلاد إلى أن تكون العدالة الاجتماعية على قمة الأولويات..
للأسف بعض الأطراف السياسية الفاشلة والمفلسة التي لفظتها الجماهير الشعبية تسعى لكي تعزز وجودها وتريد إستغلال مجريات الاحداث بخبث، و تبدأ بمعارك كسر العظام مع الجميع وتحاول نشر التخبط والفوضى بالمال السياسي، وممارسة التخوين والتنكيل والاستهداف عبر وسائل الإعلام الممول والحملات التي تصرف فيها الملايين، وإنّ مرحلة الإستفتاء الشعبي ستكون مرحلة التأزيم والإحتقان والترقب الحذر، نتيجةً لمعادلات أو سياسات شد الحبل الداخلية والخارجية لإفشال الإستفتاء الشعبي بأي شكل و بأي طريقة.. عشرُ سنوات قوّضت الدولة التونسية بالنظام البرلماني، فلتسقط شرعية التجويع والترويع، حان وقت التغيير وكفى لعباً.. كفى لعباً فإن البلاد مريضة وليس بشرب الماء تنطفئ الحُمّى.. و بالتالي معركتنا اليوم ليست فقط معركة إستفتاء أو تغيير نظام أو دستور ، بل معركتنا هي معركة تونس ومعركة السيادة التونسية ، معركة شعب، معركة وطن أو ما تبقى من الوطن ومؤسساته، و على الشعب التونسي أن لا يقبل الوصاية وأنّ النزعة لمحاولة تطويع إرادة التونسيين بما يتوافق مع رؤية أي طرف خارجي هي ضرب من الوهم، إنّ الشّعب سيِّد نفسه و تونس دولة مستقلة و السيادة الوطنية خط أحمر ..
عاشت تونس حرّة مستقلّة
عاش الشعب التونسي العظيم