الأربعاء , 18 ديسمبر 2024
أخبار عاجلة

مودّة أهل البيت بين التطبيق والإدّعاء والتلفيق…بقلم محمد الرصافي المقداد

 

ظاهرة إحياء مناسبات أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا تزال تستفزّ كلّ من استهوته الدنيا، فخاض في لُجّتها خوض الباحث عن لذّاتها، غائصا في أعماق فتنتها، فغرق في قعْرها، مثْقَلاً بما ملأ به بطنه وفرجه من لذّاتها، بعد أن أعطاها مقودته، فلم تترك له مجالا لإنقاذ نفسه، ولا دعتْ له سبيلا للخروج من المآل الذي وصل إليه عبدا من عبيدها وأسير شهواتها، وهذا العبدُ وذاك الأسير ليسا بقلّة بيننا، حتى نعتبر أنهم باقون على حالهم، بلا تأثير فيما حولهم من النّاس، أدعياء محبّة فارغة بلا أثر في أنفسهم، سوى مجرّد إدّعاء خال من دليل يثبته، جعلوا منه شعارا لدرء نقائصهم، بخصوص واجب تركوه وراء ظهورهم، فلا هم طبّقوه وفق أمر الله فيه، ولا هم تركوه دون التّبجّج به، لقطع حُجّة من احتجّ عليهم، بأنّهم أبعد ما يكونون عن أداء تلك الفريضة، وهم فقط مجرّد أدعياء صِفَةٍ لم ترتقي يوما واحدا إلى مقام التطابق بين الموصوف والصفة.

إخْوَتنا في الإسلام من الموروث السّنّي، هم أولئك الذين ألمَحْتُ إليهم في الفقرة السابقة، مسلمون مثلنا، وإن كان قسم منهم، أخذه تطرُّفُ منْ تطرَّفَ من دعاته بعيدا عنا، اعتبروا المسلمين الشيعة فرقة ضالة عن الإسلام، لذلك قرروا صمّ آذانهم وأغشوا أبصارهم عن مخزون تراثهم الفكري، وذهبوا في تسقيط شعائرهم كلّ مذهب ينتصر لاعتقادهم فيهم، وأنا في هذا المقال الموجز الصغير سوف لن أتطرّق إلى مناقشة عقائدنا في مشتركاتنا واختلافاتنا، فهي لا تُخرِجنا عن الإسلام عموما، سواء كان اعتقادنا في توحيد المولى تعالى خالصا، أم مشوبا بما شاب به المشبّهون من شوائب، واعتقادنا بالعصمة المطلقة في النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أم بما رآه شركاؤنا في الإسلام من عصمته الجزئية، وما دوّنوه في كتب تراثهم من أخطاء نسبوها له، أخجل من ذكرها مرّة أخرى، ولا نختلف في أنّ الحكومة ضرورة لا بدّ منها، ليستقيم أمر المسلمين دينا ودنيا، فنراها نحن في مقام إمامة إلهيّة معيّنة تعيينا ضروريّا تقتضيه المرحلة، ويرونها هم خلافة شورويّة متروك أمرها للناس يرون فيها رأيهم كما يشاؤون.

ما سآتي لذكره هنا، شعيرة إلهيّة واجبة على كل مسلم، من أيّ فريق كان سنّيا كان أم شيعيا، فريضة لا تَسْقُطُ بأداء البعض، فهي ليست فرض كفاية، ولا تنتهي بالتقادم وتتتالي الأجيال، ليس لأنّ أهلها محتاجون فيها إلينا، حتى نقيمها رفعا من شأنهم، بل لأنها رحمة إلهيّة، خصّ بها المولى سبحانه وتعالى هذه الأمّة، كرامة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أدّاه من رسالته، وبذله من جهود مضنية، من أجل تثبيت دعائم دينه، هي مودّة قرباه التي نزلت بشأنها الآية الكريمة: (ذلك الذي يبشّر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلّا المودّة في القربى) (1) وقد جاء في التفاسير المعتمدة عند الفريقين بشأنها، خطاب الله سبحانه لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأمر أمّته أن تودّ قرابته.

عن ابن عبّاس قال لما نزلت الآية : ( قل لا أسالكم عليه أجرا إلّا المودة في القربى) قالوا يا رسول الله، من هؤلاء الذين أمر الله بمودّتهم؟ قال: فاطمة وولدها. وعن ابي الديلم قال: لمّا جيء بعلي بن الحسين أسيرا، فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشّام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، وقطع قرني الفتنة. فقال له علي بن الحسين: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: اقرأت آل حم؟ قال: قرأت القرآن ولم اقرأ آل حم. قال: ما قرأت ( قل لا اسألكم عليه اجرا إلّا المودّة في القربى؟ قال: وأنتم هم؟ قال: نعم.(2)

 وإن عجِبْتَ يوما، فأعجب من امّة وصل بها الجهل، أن نزّلت مقام صفوة الإسلام، من جاء فيهم قوله تعالى: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا) (3) منزلة السّبي والأسر، للبقية الباقية من أهلها من وقعة كربلاء، وهي منتهى الشّرف والمكانة الرفيعة، وفي المقابل رفعتْ من شأن طلقاء جدّهم، عندما جاءوه منافقين اذلّاء يوم فتح مكة، يطلبون الصّفح فقال لهم: إذهبوا فأنتم الطلقاء. أمّة اختلطت عليها الأمور بالدعاية الباطلة، فلم تفرّق بين ما هو حق وما هو باطل، فخاضت في شبهات كثيرة، فضلا عن سقوطها في فخاخ أهل الباطل.

واقعة كربلاء أو فاجعة الطفّ هي من أشدّ المناسبات وقعا في آثارها القلبية لكل مؤمن، فلا حزن يوازي الحزن على قرابينها، وفي طليعتهم الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس عليهما السلام، وبقية الطاهرين الذين لم يبخلوا بأرواحهم ودمائهم، من أجل هدف واحد، أعلن عنه قائد المسيرة سيد شباب أهل الجنّة عليه السلام، وهو الإصلاح في أمّة جدّه، ومن فهِم ووعى حركة أبي الأحرار من مدينة جدّه إلى مكة ومنها إلى العراق وكربلاء، انخرط في مشروعه الإصلاحي في الأمّة وعمل بمقتضاه، تصحيحا لانحراف خطير طرأ على هرم السلطة لا يمكن السكوت عنه، لأن القضيّة بالأساس متعلّقة بالظلم المسلط على المسلمين، وواجب دفعه عنهم بأي طريق مهما كانت التضحيات، وذلك هو جوهر الإسلام في نشر العدل ومحاربة الظلم.

كربلاء مدرسة الثوّار وكعبة الأحرار، من نظر فيها بعقله فهم ما كان يريده الإمام الحسين عليه السلام من مثاله فيها وغايته منها، ومن تعامل معها بقلبه، لم تخرجه مشاعره عن إطار المواساة بالحزن المتعارف عليه، بلا شطط فيه أو ابتداع لم يُعْهَد من قبلُ، في سيرة الهداة المعصومين عليهم السلام، فلا مبرّر لمن تجاوز آداب الحزن إلى أعمال ما أنزل الله بها من سلطان، بدعوى التعبير الحرّ عن مواساة لأهل البيت عليهم السلام اصطلحوا عليه بالتطبير، وما هي سوى ردود أفعال نكاية في من حرّم التطبير، وكل مناسبة يزيدون عليه بدعا جديدة.

إننا اليوم كمسلمين نعيش، بين فريقين متناقضين في تصرفهما، تجاه مودّة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فريق خالف منهجهم مخالفة عناد وجهل، رغم القيمة الروحية والمعنوية التي ملكها البيت النبوي الطاهر، مع منزلتهم التي ربطها الوحي بالكتاب العزيز، فقد روى جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: أيها النّاس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي.(4) في دلالة على مرجعيّتهم الكاملة، على أساس أنهم حملة القرآن الكريم، وتفسير أحكامه، وحفظة سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بما أعطاهم الله من مَلَكَاتٍ وقدرة على القيام بذلك.

وفريق وافق منهجهم، واعترف بمنزلتهم، اعتراف مقرّ بحقوقهم، لكنه في نفس الوقت، أطلق نفسه وراء إتّباع ما يسيء لهم، ويشوّه منهجهم المحمّديّ الأصيل، ويبعد بقية المسلمين عن صراطهم المستقيم، بما أدخلوه من بِدَعٍ سيّئة، ما أنزل الله بعا من سلطان، بدعّوى أنها تعابير، رأوا فيها مواساة لما حصل لهم في كربلاء، حثّوا أتباعهم على القيام بها،  على أساس أنها من صميم إتباع ومودّة هؤلاء الطاهرين، بينما هي إساءة كبرى لهم، وتسقيط لا مثيل له لخط الإمام الحسين عليه السلام، منهج الثورة والإصلاح في الأمّة، ومما زاد في الطّين بلّة، سكوت مراجع وعلماء عن تلك الأعمال المشينة، لرأي رأوه ولا أرى فيه من خير وحكمة أبدا، غير منسجم مع آراء مراجع وعلماء آخرين، لم يتوانوا من الإصداع بحكم تحريم التطبير، تحريما مباشرا وتحديدا بلا إيحاء من القول بأن وافعال إيذاء النفس البشرية، وما زيد من أفعال أخرى، رأى فيها من استنبطها برأيه انها تعبير عن مواساة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مصابهم يوم عاشوراء.

علماء مراجع كثرٌ قالوا بحرمة التطبير، لا يتسع المجال لذكرهم جميعا، وتفاديا للإطالة، اخترت منهم ما يقيم الحجة على من آثروا الخروج عن الاجماع، وخيّروا نهج التطرف،

المرجع الكبير السيد محسن الحكيم (أن التطبير ليس فقط مجرد ممارسات، هي ليست من الدين وليست من الأمور المستحبة، بل هذه الممارسات أيضا مضرة بالمسلمين وفي فهم الإسلام الأصيل، وفي فهم أهل البيت عليهم السلام)(5)

الشهيد محمد باقر الصدر: إنّ ما تراه من ضرب الأجسام وإسالة الدّماء، هو من فعل عوام النّاس وجهّلهم، ولا يفعل ذلك ايّ أحد من العلماء، بل هم دائبون على منعه وتحريمه.(6)

السيد أحمد الصافي ممثل السيد السيستاني دام ظله الشريف، في خطبة الجمعة التي ألقاها في العتبة الحسينية المقدسة، مؤكداً على (ضرورة  القضاء على هذه الممارسات والاقتداء بالشعائر المتوارثة خلفاً عن سلف المتمثلة في الحزن والجزع على ابي عبد الله عليه السلام دون هذه المظاهر الغير حضارية. وأضاء السيد الصافي على العديد من الامور ذات أهمية كبيرة ينبغي ان تلتفت إليه أنظار السائرين في طريق الامام الحسين (عليه السلام ) “وهو ضرورة تجنب ما يثير الاختلاف في صفوف المؤمنين، وعدم اعطاء هذه المناسبة طابعا سياسيا كاستغلال للترويج للجهات التي ينتمون اليها دينية كانت او سياسية او غيرهما).(7)

فتوى السيد الخامنئي دام ظله الشريف ردّا على سؤال عن التطبير

س 385: هل بعض انواع  التطبير حلال أم أن فتواكم الشريفة عامة؟

ج: التطبير مضافا إلى أنه لا يُعد عرفا من مظاهر الأسى والحزن وليس له سابقة في عصر الأئمة عليهم السلام وما والاه ولم يرد فيه تأييد من المعصوم عليه السلام بشكل خاص ولا بشكل عام، يعد في الوقت الراهن وهنا وشينا على المذهب فلا يجوز بحال من الاحوال.(8)

وطبيعي أن يقع تحريم هذه الأفعال المنفّرة من التشيّع لأهل البيت عليهم السلام عموما، والمغيّبة لأهداف مسيرة الإمام الحسين عليه السلام العالية المضامين في آداب الدين والثورة من أجله، بأفعال بشعة مشينة لا تمُتّ إلى الدين الإسلامي في عموم وخصوص أحكامه، وسلوكيات خيرة خلقه بصلة، لا من قريب ولا من بعيد، حكم رآه اهل البصيرة، والممهدون حقيقة لصاحب الزمان بالعلم والعمل والجهاد، تاركين الإدعاء والتمظهر لأهله، فعند الصباح يحمد القوم السُّرى .

المصادر

1 – سورة الشورى الآية 23

2 – تفسير الطبري / تفسير ابن كثير الدمشقي/ الدرّ المنثور السيوطي / سورة الشورى الآية

3 – سورة الأحزاب الآية 33

4 – سنن الترمذي ابواب المناقب عن رسول الله ج6ص124ح3786

5 – كل الحلول عند آل الرسول الدكتور التيجاني السماوي ص 150

6 – المسائل الشرعية  ج2ص337

7 – السيد علي السيستاني يفتي بحرمة التطبير
https://janoubia.com/2016/10/11/

8 – اجوبة الاستفتاءات ج2ص 129

شاهد أيضاً

الردّ على جرائم الكيان قادم لا محالة…بقلم محمد الرصافي المقداد

لم نعهد على ايران أن تخلف وعدا قطعته على نفسها أيّا كانت قيمته، السياسية أو …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024