الأحد , 24 نوفمبر 2024
أخبار عاجلة

كتب إبراهيم علوش: إشكالية الموقف من تركيا عقائدياً وسياسياً

شكلت شبه هضبة الأناضول تاريخياً كتلةً جغرافيةً-سياسيةً شديدةَ الوطأة على الميدان الشامي، وعبره، على الوطن العربي كله. فمنذ الحثيين، حتى الرومان والبيزنطيين، حتى السلاجقة والعثمانيين، مثلت بلاد الشام معبراً ضرورياً للكتلة الأناضولية من أجل التحول إلى قوة عالمية، ومن أجل التمدد نحو العراق والجزيرة العربية ومصر.

لذلك، ظلت بلاد الشام مهددة من الشمال الأناضولي، بغض النظر عما إذا كان حاكمه حثياً وثنياً أو بيزنطياً مسيحياً أو عثمانياً مسلماً، إلا عندما كانت تنشأ فيها دولٌ قويةٌ قادرة أن تدافع عنها وعلى رأسها قيادات ذات رؤيا ومشروع، قبل الإسلام وبعده، الدولة الأموية، أو دولة الحمدانيين تحت قيادة سيف الدولة، نموذجاً.
ما عدا ذلك، كانت يتوجب أن تنشأ دولة قوية في العراق (آشور) أو في مصر (دولة رمسيس الثاني) تواجه التمدد الأناضولي. وقد خاض الآشوريون، بقيادة شلمنصر الأول، معركة نايريا مع الحثيين عام 1237 ق.م.، وخاض الفراعنة، بقيادة رمسيس الثاني، معركة قادش مع الحثيين عام 1274 ق. م. وكان عنوان المعركتين الدفاع عن سورية، بالمعنى الشامي الواسع.
كل معارك العرب ضد البيزنطيين في بداية الفتح الإسلامي لا تخرج عن السياق الجغرافي-السياسي ذاته، وعلى رأسها معركة اليرموك عام 636 م.، وكان عنوانها إخراج بلاد الشام من ربقة الاحتلال الأناضولي.
فإذا لم تنشأ دولة مركزية عربية في سورية أو غيرها، تحمي الشام من تغول الأناضول، كان لا بد من نشوء حالة تحصين ومشاغلة في الشام ذاتها. ولا تخرج معارك سيف الدولة الحمداني الأربعون ضد البيزنطين عن هذا السياق، وعلى رأسها معركة “الحدث” عند سفح جبال طوروس، في 8 تشرين الثاني 960 م. وهي المعركة التي خلدها أبو الطيب المتنبي في قصيدته الملحمية “على قدر أهل العزم تأتي العزائم”، كما هو معروف، والتي قال فيها أيضاً: “هل الحدثُ الحمراء تعرف لونها وتعلم أي الساقيين الغمائمُ؟”. وللعلم، ما برح تشويه التاريخ وسيف الدولة الحمداني قائمين لمن يطلع على المراجع الأجنبية عن معركة الحدث.
ومن المهم الإشارة أيضاً إلى أن معارك إبراهيم محمد علي باشا ضد الاحتلال العثماني، لا سيما معركة نصيبين عام 1839، التي يحاول الترك سلخ هويتها باسم “نزيب” الرث، خاضها جيشٌ مصري-شامي واحد، كتفاً بكتف، ضد الاحتلال العثماني الذي مُرِّغ أنفه بالتراب في تلك المعركة التي أدارها مستشارون ألمان على الجهة العثمانية (بدلالة المراسلات الخاصة بين إبراهيم باشا وأبيه محمد علي التي نشرها د. أسد رستم عام 1948).

ومن المعروف أن إبراهيم باشا فرض التجنيد الإجباري على أهل بلاد الشام أسوةً بمصر، وأن ذلك تسبب بثوراتٍ وانتفاضاتٍ في بعض المناطق الشامية، والحديث دوماً بالمنطق الشامي الواسع، لا بحدود سايكس-بيكو، وأن ذلك التجنيد الإجباري شمل كافة الطوائف والمناطق. ولذلك فإن النصر المبين على العثمانيين في معركة نصيبين المظفرة هو نصرٌ مصريٌ-شاميٌ لا ريب فيه، لا نصرٌ ألبانيٌ، لا قاعدة اجتماعية له في مصر وبلاد الشام، ولا “مشروع إصلاح للدولة العثمانية”، لا يوجد أي أثر له في أعمال أو خطاب محمد علي وابنه إبراهيم في الدولة التي أسساها.
نسوق هذه النقطة رداً على المستلبين عثمانياً في بلادنا ممن يزعمون أن جيش إبراهيم باشا كان قوامه من غير العرب، وهو هراء مبين (بدلالة سجلات التجنيد الإجباري في مصر وبلاد الشام تحت قيادة إبراهيم باشا) هدفه التغطية على حقيقة التدخل الغربي العسكري المباشر، البريطاني والنمساوي والإيطالي والبروسي والروسي القيصري، دعماً للدولة العثمانية في مواجهة مشروع تأسيس دولة عربية واحدة تبناه إبراهيم محمد علي باشا (بحسب خطابه الموثق المنقول عنه)، والذي نشأت على ضفافه بدايات الحركة القومية العربية الحديثة في القرن التاسع عشر في بلاد الشام، إذ إن تعبئة القوى لمواجهة التمدد الأناضولي كان تاريخياً الضرورة الجغرافية-السياسية التي ربطت ما بين ما هو سوري (بالمعنى الواسع)، وما هو عربي، عبر التاريخ وعبر الجغرافيا، لأن إزاحة الثقل الأناضولي الغاشم عن بلاد الشام غير ممكن بقوى سورية الذاتية وحدها من دون احتياطي استراتيجي وازن يمتد بعيداً من جبال اليمن إلى الأوراس.
مشكلة الاختراق الأيديولوجي في الهيمنة الأناضولية

كانت مشكلة الحثيين، أيديولوجياً، أنهم ينتمون إلى منظومة دينية غريبة عن المنطقة العربية، وما تسرب إليهم من آلهة كنعانية أو رافدية أو مصرية جاء عن طريق الحوريين، ولذلك فإنهم لم يتمكنوا من اختراق أهل الشام أيديولوجياً.
أما البيزنطيون، والسلاجقة والعثمانيون من بعدهم، فلعبوا معنا لعبة توظيف الأيديولوجيا في تثبيت هيمنتهم الجغرافية-السياسية من خلال الأيديولوجيا الدينية، البيزنطيون عبر المسيحية، والسلاجقة والعثمانيون عبر الإسلام.
كان المشروع، في كلا الحالتين، سياسياً، مشروعَ هيمنة قوم على قوم، الروم على العرب، أو الترك على العرب، عبر بوابة بلاد الشام. وكان الروم قد احتلوا شبه هضبة الأناضول استيطانياً من الحثيين، والسلاجقة من الروم.
كانت أداة التوظيف الأيديولوجي، في كلا الحالتين، المسيح ابن مريم، ابن مدينة الناصرة المحتلة، عيسى العربي الفلسطيني، ابن بلادنا، سلام الله عليه، أو نبينا العربي القح، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، الذي ثار على الاحتلالات جميعاً، الساسانية والبيزنطية، ووحد العرب ونهض بهم وجعلهم دولةً واحدةً وحولهم إلى رقمٍ فذٍ في معادلة التاريخ. فهو فاتحة النهوض العربي القومي، ولم يذكر القرآن محمداً أنه نبيٌ عربيٌ عبثاً، لأن لا عبث في القرآن.
لكنْ فجأة صار تحدي الاحتلالين البيزنطي أو العثماني كفراً من جراء التوظيف الجغرافي-السياسي للأيديولوجيا!
فجأةً صار على من يثور ضد الاحتلال أن يبرر نفسه دينياً، مع أن الاحتلالين، البيزنطي والعثماني، لم يقصرا أبداً في اضطهاد العرب المسيحيين واستغلالهم وقتلهم، بالنسبة للبيزنطيين، أو العرب المسلمين، بالنسبة للسلاجقة والعثمانيين.
من العجيب أن يصبح أنبياؤنا، الذين نبتوا في تربتنا، والذين تلقوا رسائلهم السماوية على أرضنا العربية، واجهاتٍ للهيمنة الأجنبية، مع أن من يتغطون بهم لا يراعون الحد الأدنى من القيم التي حملوها، تطبيع الكيان العثماني مع العدو الصـ.ـهـ.ـيوني نموذجاً، وهو التطبيع الأكبر تجارياً في العالم الإسلامي، والقرآن يقول: “إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ”، وهي آية واضحة وضوح الشمس ضد التطبيع مع العدو الصـ.ـهـ.ـيوني، ومن لديه تأؤيلٌ آخرُ لتلك الآية، غير مناهضة التطبيع مع من احتل فلسطين وأخرج أهلها منها وقاتلهم وقتلهم، فليتفضل.

مشكلة العثمانيين الجدد

يتحدث البعض اليوم عما يسمى “المشروع المشرقي”، الذي تتآلف فيه تركيا وإيران والعراق وسورية، باعتباره مشروعاً مـ.ـقـ.ـاوماً، بزعمهم، لمواجهة الهيمنة الغربية على “المنطقة”، غير المعرفة قومياً. ولو افترضنا السذاجة، لا سوء النية، فإن المشكلة الجغرافية-السياسية في مثل هذا الهراء هو أن إيران لديها مشروعها القومي، وأن لتركيا مشروعها القومي، وأن كلا المشروعين يستند إلى هوية قومية واضحة للدولة التي تمثله.
صحيحٌ أن المشروع الإيراني على مسار تصادمٍ حديٍ مع الغرب، وأن ذلك يخلق مساحةً كبيرةً للتقاطع معه عربياً في لبنان وفلسطين وسورية، رغم وجود نقاط خلافية معه من العراق إلى ليبيا، إنما المشروع التركي الطوراني العثماني يلعب على عدة حبال، وهو مشروعٌ قذر، بكل ما للكلمة من معنى، يلعب على تخفيف الحصار اقتصادياً على إيران وروسيا، ويلعب في الآن عينه على تزويد أوكرانيا بمسيرات بيرقدار التي أثخنت الجيش الروسي في أوكرانيا، وما برح يهدد وحدة إيران وسلامتها الإقليمية في أذربيجان، ويلعب ضد إيران في الصراع الأذري- الأرمني. ومع ذلك، فإيران وروسيا تسعيان لاسترضائه، وتلك، بصراحة تامة، ليست مشكلتنا، مع الاحترام للحلفاء الكرام، وتلك وجهة نظر شخصية لا أحمّلها لأحد. فللحلفاء حساباتهم، ولنا حساباتنا.
تركيا، ببساطة، عضو في حلف الناتو وأكبر مطبع مع العدو الصـ.ـهـ.ـيوني في “المنطقة”، مع الاعتراض على وصف (المنطقة)، الذي ينفي الوطن العربي وعروبة فلسطين، وينفي سورية ذاتها، لكنه، مع ذلك، يزايد على القدس وفلسطين بكل صفاقة، ويود أن يحمل مشروع الإخونجة في كل (المنطقة)، وهو مشروعٌ الإسلام منه براء.
مشكلة العثمانيين الجدد، وبعضهم للأسف في معسكر المـ.ـقـ.ـاومة، أنهم لا يقرأون الجغرافيا السياسية. فلا يوجد مشروع في “المنطقة” أو غيرها لا يحمل في جوهره قضية الدفاع عن المصالح الاستراتيجية لجماعة قومية ما، حتى لو تظاهر بأنه مشروع عابر للقوميات باسم الدين أو غيره.
المهم، في ظل غياب قوة عربية وازنة، فإن خطورة المشروع “المشرقي” هي إلحاق بلاد الشام بتركيا والعراق بإيران، بصراحة تامة. فجماعة “المشرقية” هم مجرد أتباع ذيليين فاقدين للهوية إزاء قوى إقليمية ذات مشاريع قومية راسخة في الجوهر، لا علاقة لها بالعرب، سواء كانت صديقة أم معادية.
وقولهم إن المشروع العربي “بعيد المنال” يعني فعلياً إلحاق بلاد الشام والعراق بأقطاب متكونة فيما يفترض بهم، لو كانوا مخلصين، أن يسعوا لتكوين قطب قوي يمثل بلادهم، ولذلك القطب، بعد أن يتكون، أن يحدد طبيعة التحالفات التي يراها مناسبة.
نحن مع المـ.ـقـ.ـاومة بالضرورة، ولكنّ على أرضية المصالح العربية، لا على أرضية تعويمها بالهراء الأيديولوجي الذي يغطي مصالح قومية أخرى في المحصلة باسم الطوائف. وما دامت تركيا تحتل أرضاً سورية، وتدعم قوىً إرهـ.ـابية، وتشكك بمشروعية الدولة السورية، وهي الطرف المقابل لسورية في محادثات اللجنة الدستورية في جنيف فعلياً، فإن من يتحدث عن تفاهم مع تركيا مخترق عقائدياً وسياسياً، حتى من دون الحديث عن الإسكندرون والمحافظات السورية السبع.
أخيراً، نعيش اليوم، كأمة عربية، حالة دفاعية صعبة. وفي مثل تلك الحالة، فإن دولة الرئيس بشار الأسد، على الرغم من كل الصعوبات، هي موضوعياً معادل دولة سيف الدولة الحمداني في حلب قبل ألف عام، دولة الدفاع عن هوية سورية العربية واستقلاليتها. وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ، فعلى أي جانبيك تميل؟

 

البناء

شاهد أيضاً

إردوغان .. هزيمة متوقعة وما تبقى لعبٌ في الوقتٌ الضائع…بقلم م. ميشيل كلاغاصي

تبدو الهزيمة التي تعرض لها الرئيس رجب طيب إردوغان وحزب العدالة والتنمية في الإنتخابات البلدية, …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024