يجب أن تسجل لدول منظمة شنغهاي واقعيتها لناحية تقديرها بعدم إمكانية هدم أسس النظام العالمي القائم، أو الانفصال عنه.
لم يكن المشهد الدولي، المعبّر عن الصراع بين الأقطاب، واضحاً كما أظهرته أحداث قمة منظمة شنغهاي الأخيرة، إذ بدا قرارها حاسماً لناحية الإعلان عن ضرورة تكريس عالم متحرر من الهيمنة الأميركية والغربية.
فإذا كانت القمم السابقة قد آثرت مقاربة منهجية اقتصادية تفترض تكاملاً بين اقتصاديات مجموعة من الدول الساعية للتخلص من عقدة الخضوع الاقتصادي والمالي للتكتل الغربي، من دون إثارة مواجهة سياسية، فإنها في السنتين الأخيرتين قد اتخذت سلوكاً يعبّر عن الجوهر الحقيقي لهذه المنظمة، إذ إن خطاباً موحداً، جوهره التحدي، قد جرى تسويقه بلغات متعددة.
أما عن المصطلحات التي جرى استخدامها في شنغهاي منذ عام 1996، والتي كانت تعبّر عن مساعي النمو والتبادل التجاري الحر واستخدام العملات المحلية، فإن تحولاً جذرياً قد طاولها، بحيث أفرزت مناخاً قوامه تعزيز لغة المواجهة وضرورة بناء عالم متعدد الأقطاب، وأظهرت أيضاً إجماعاً دولياً على ضرورة العمل على تظهير هذه المنظمة كتحالف مصيري لا يتقبل هزيمة، ويؤمن بحتمية تحقيق توازن دولي يجنب العالم مساوئ الأحادية القطبية، المدعومة من حلفائها الراضين بموقع يقدم لهم من المزايا ما لا يمكن تحصيله في نظام متعدد الأقطاب.
وإذا كان الغرب قد حاول إظهار القمة الأخيرة على أنها فرصة ستحاول روسيا استغلالها لتأكيد فشل الغرب في محاولة عزلها؛ بسبب عمليتها العسكرية في أوكرانيا، فإن هذه المحاولة قد تبدو قاصرة عن فهم حقيقة هذه القمة، إذ إن مجموعة من الملفات العالقة بين بعض دول القمة والغرب، تؤكد أن الغاية منها تتخطى محاولات فردية لإظهار القمة على أنها تعبير عن تضامن جماعي حول بعض الأهداف القومية أو الخاصة، لتقارب أهدافاً ترتبط برؤية جديدة للنظام العالمي بعيد عن الشكل الحالي، الذي يمكن تحليله كنظام تؤدي من خلاله أكثرية ساحقة من الدول وظائف حيوية لضمان رفاهية ومصالح عدد قليل من الدول الأخرى.
في هذا المجال، تؤكد الواقعية السياسية عدم إمكانية الفصل بين السياسات الخارجية للدول ومصالحها القومية. وعبر حقبات طويلة، عملت الدول على تحصين أمنها القومي وضمان مصالحها من خلال مبادرات وسياسات فردية، تفترض للعالم رؤية تتوافق مع منظور هوبز للعلاقات الدولية.
بطبيعة الحال، لا يمكن القول إن دول منظمة شنغهاي قد خرجت عن الافتراض السالف الذكر. فالنظام الدولي الذي تهدف هذه دول إلى إرسائه لا يقترب من المثالية التي تقوم على أساس سيادة القانون، ووفق مبدأ الأمن الجماعي، وإنما يبقى في إطار الواقعية السياسية التي ترتكز على توازن القوى والمصلحة القومية.
وعليه، يبرز الطرح الجديد في شنغهاي ضمن إطار تعديل عدد الفاعلين الرئيسيين في النظام الدولي، وفق منطق إلغاء رؤية نمطية تكرس القيم الغربية كقيم ومثل عالمية يجب على الأمم المتحدة والشرعية الدولية أن تبقى انعكاساً لها.
وإذا كان هناك من يعتقد بأن الغرب عموماً، والولايات المتحدة الأميركية خصوصاً، لا يستشعرون خطر هذه المنظمة في المدى القريب، نتيجة إيمانهم بعدم قرب إعلانها كحلف استراتيجي بين دولها، ونتيجة الاختلاف التكتيكي بين الطرفين الأساسيين الصيني والروسي في مقاربتهما لعلاقاتهما بالقوى الغربية، فإن التوجه الذي حاولت القمة في بيانها الختامي أن تكرسه يؤكد، على الرغم من اللغة الدافئة والكلمات المنمقة، أن وجود مراكز قوى جديدة، ذات أدوار حيوية في توازنات النظام الدولي، قد أصبح حقيقة واقعية، لا يمكن التغاضي عنها.
في هذا الإطار، يجب أن تسجل لدول منظمة شنغهاي واقعيتها لناحية تقديرها بعدم إمكانية هدم أسس النظام العالمي القائم، أو الانفصال عنه. فإصرارها، من خلال بيانها الختامي وكلمات زعمائها في سمرقند، على ضرورة إصلاح الآليات الدولية المنظمة للعلاقات بين الدول، إذ طالبت بإصلاح منظمة التجارة العالمية، وبناء نظام عالمي يضع الأمم المتحدة في صلبه، يؤكد أنها في طور البحث في إمكانية التعديل الناعم، بعيداً من ضوضاء الحرب والتهديدات في شرق أوروبا وبحر الصين الجنوبي.
في قمتها الأخيرة، نجحت منظمة شنغهاي في نفي صفة التبعية للقوى الكبرى، كالصين وروسيا، وأظهرت قدرتها على تقديم نموذج للتكامل، بعيداً من فلسفة تفوق إحدى دولها، أو التبعية لبعض القيم الأيديولوجية الجامعة. فالقمة التي جمعت دولاً مختلفة في الرأي حول الخيار الروسي في أوكرانيا، أو التي ضمت دولاً تعدّ في صلب حلف شمال الأطلسي، لا يمكن تقييمها وفق معايير تقييم الأحلاف والمنظمات الدولية الأخرى.
فإذا كان القرار الأميركي طاغياً، على الرغم مما يُسَوق لحلف شمال الأطلسي كمنظمة عسكرية تعبر عن وحدة المثل العليا الغربية، وتفترض الدفاع عن أيديولوجيا واحدة وجامعة، بحسب زعم ميثاقه، فإن منظمة شنغهاي لا تعبر عن تبعية لدولة متفوقة تحدد مسار سياساتها.
أما لناحية القيم التي قد تؤدي في حال تعميمها والتماهي معها إلى الانعزال، كما هي حال الاتحاد الأوروبي، فإن المنظمة لا تتوانى عن إعلان رفضها لأي محاولة لتقديم ثقافة معلبة، وتؤكد دائماً أن خيار التلاقي والتكتل لا يفترض إلغاء سمات القوميات المتعددة، وإنما يهدف إلى إيجاد أسس مشتركة لمصالح اقتصادية وجيوبوليتيكية، إذ إنها، أي المنظمة، لا تؤمن بهوية حضارية مشتركة، يمكن اعتبارها معياراً أساسياً لها.
من ناحية أخرى، يمكن القول إن في البيان الختامي للقمة الأخيرة، والذي يمكن وصفه بالتقليدي، ما يثير القلق لدى الجانب الغربي. فالإصرار على تطوير العلاقات في ميادين الدفاع والأمن، واعتماد قائمة مشتركة للمنظمات الإرهابية والمتطرفة، بالإضافة إلى طغيان الحديث عن عالم دولي جديد، وضرورة الالتفات إلى الدور المتعاظم لمراكز النفوذ الجديدة، يؤكد اتخاذ المنظمة خيار التعاون وفق مسار تصاعدي، يظهر جدية العمل على إنهاء ظاهرة طغيان السلوك الغربي القادر على الاستفراد بالدول الممانعة لسياساته.
وإذا كانت المنظمة قد آثرت عدم تحديد سقف زمني لتحقيق أهدافها، بالإضافة إلى عدم اختيارها لأدوات المواجهة الصلبة والمباشرة، بما تفرضه هذه الأدوات من حلول أمنية وعسكرية، فإن في ذلك ما يؤكد قدرتها على استيعاب أساليب المواجهة الناعمة التي أمعن الغرب في استخدامها في إطار التفرقة والتشتيت.
وعليه، يمكن تصنيف منظمة شنغهاي كباكورة تخطيط دولي يهدف إلى كسر شكل النظام الدولي الحالي، من خلال إجبار القوى الغربية عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، على اتخاذ مسار مختلف في علاقاتها الدولية. فمجموع قوى شنغهاي، بما تكتنزه من ثروات طبيعية وتقنية، ومن نسبة عالية من عدد سكان المعمورة، وبما تمثله من استراتيجيات متعارضة مع المشروع الغربي، باتت متيقنة من إمكانية تنفيذ قرارها بتغيير شكل النظام العالمي. ولذلك، لم تكتف المنظمة، وخصوصاً في بيانها الأخير بإعلان النية بتنفيذ مخططها، وإنما وضعت لنفسها ما يمكن اعتباره خارطة طريق فاعلة تمكنها، إذا سارت وفقها، من تحقيقه.