ان ما يظهر حسب رايي في الواجهة هو رأس جبل الجليد او واجهة شبكة المصالح ومراكز القوى الحاكمة لتونس لعقود طويلة والتي لن تقبل قيام سلطة سياسية خارجة عن ارادتها وعن خدمة مصالحها، وكل سلطة أمامها خياران اما عقد صفقة الحكم مقابل استمرار المصالح وتتحول السلطة الى مجرد واجهة وحارس لمصالح الطغمة، كما كان شأن كل الانظمة وهو ما قامت به حركة الاخوان وحلفائها بعد 2011 وهو الانقلاب الحقيقي على الشعب، أو مواجهة هذا التحالف الاجرامي المرتبط رأسا بمصالح قوى خارجية، ومواجهته ستؤدي حتما الى عدم رضا وقبول اجنبي غربي أساسا.
التغيير الذي حصل بعد 2011 هو تحويل واجهة الطغمة الحاكمة الحقيقية من واجهة فردية متمثلة في بن علي الى واجهة متعددة هي اشبه بدمى متحركة وأدوارها وارتبطاتها متداخلة بعضها ببعض والبعض منها لا يعرف حتى من مالكه الحقيقي ولا يعرف الاهداف الاستراتيجية للدور الذي يقوم به او الموكول اليه.
اذن الامتحان الحقيقي لحكم الرئيس قيس سعيد هو علاقته بهذه الطغمة التي تسيطر على كل شيء برا وبحرا وجوا وتملك الاقتصاد والسياسة والاعلام وهي من يحدد العلاقات الخارجية وفق ارتبطاتها ومصالحها لأنها ليست الا شبكة وكلاء في الحقيقة.
كان الصراع في البداية وحتى قبل 25 جويلية 2021 يدور بين الرئيس والواجهة السياسية متمثلة في الاخوان المسلمين وتوابعهم ومليشيات سياسية اخرى متفرعة عما عرف بنداء تونس، ولم يكن من الممكن حينها الحديث الا عن حسم مسألة السلطة ولم يكن من خيار أمام الرئيس والمؤسسات الاستراتيجية للدولة والشعب الا التأميم المؤقت للسلطة الفاسدة كما عبر عنها الدكتور عبد الاه بالقزيز حينها وقد حصل الامر بازاحة حكومة الدمية المشيشي والبرلمان وتغيير الدستور والقانون الانتخابي واجراء الانتخابات التشريعية.
وبدأ الاختبار الثاني فهل سيكتفي الرئيس بحسم مسألة السلطة فقط وعقد صفقة تضمن استمراره في السلطة وهو أمر متاح امس واليوم فيكفي أن يقبل بهذه الصفقة وهي معروفة ان “تحكم بدون حكم” اي أن تكون رأس سلطة في خدمة الطغمة الحاكمة الحقيقية وحينها سترى واجهاتها السياسية تقدم فروض الولاء والطاعة وتقبل بكل ما جاء من 25 جويلية الى اليوم.
الذي حصل الآن هو اندلاع المواجهة التي كانت في نظرنا حتمية ولا مفر منها اذا اراد الرئيس تنفيذ وعده للشعب لا خيار له غيرها فمراكز القوى التقليدية والجديدة ستفرضها عليه وستزيحه اذا لم يتم تقليم أظافرها على الأقل وهو ما كان يحضر سرا وعلنا وبالطرق “المشروعة والغير مشروعة” كما عبر عنها محمد عبو علنا في تصريح هستيري ولكنه كشف حقيقة الصراع الدائر فهو صراع الغائي.
ما يدور الآن هو صراع في العمق واكثر خطورة من الصراع الذي دار قبل 25 جويلية وما بعدها وأبعد من مجرد توقيف هنا وتوقيف هناك وتسريب على زيد او عمرو،والمواقف الدولية منه وخاصة الغربية والامريكية لا علاقة لها بموضوع الديمقراطية والحريات وانما حول حفظ مصالحها ومصير وكلائها حيث سيشتد الضغط كلما ذهب الصراع باتجاه الحسم اكثر،خاصة والوضع الدولي والاقليمي مساعد للرئيس أكثر.
السيناريوهات المحتملة:
– السيناريو الاول هو استمرار المواجهة وارتفاع الضغط الخارجي وفرض استنزاف طويل الامد على مؤسسات الدولة واقتصادها.
-السيناريو الثاني هو قبول مراكز القوى بالوضع الجديد وبالتخلي عن امتيازاتها الغير مشروعة خاصة بعد الاطاحة بنقاط ارتكاز كبيرة منها وقبول غربي “اوروبي -أمريكي ” بتونس مختلفة عما كانت عليه في اقتصادها وفي علاقاتها الخارجية على قاعدة حفظ المصالح المشتركة لا على قاعدة الهيمنة،وهو في نظري الأقرب لأن الشعب سيكون مع هذا الخيار ومؤسسات الدولة الاستراتيجية التي كان يراد اختراقها هي نفسها باتت في وضع الدفاع عن وجودها وعن نفسها اي دفاع الدولة عن نفسها وبالتالي استحالة زعزعتها.
هو صراع مفتوح المؤكد فيه ان كل خيار له تكلفة واذا اردنا فرض خيار وطني ما علينا الا وضع الصعوبات الكبيرة التي ستواجه هذا الخيار في الحسبان،فلا يمكن ضرب شبكة المصالح الداخلية المرتبطة بقوى الهيمنة في الخارج والتي تمتص جهود شعبنا ومقدراته لعقود طويلة بدون تكلفة وهو ما يتطلب جرأة سياسية في مواجهة هذا التحالف الشرس، ومن أوكد شروط النجاح هو وجوب استلهام الذات الوطنية وتجنيد القدرات القائمة والمحتملة وتعبئة الشعب حول مشروع وطني متكامل الأركان وهو ممكن الآن.