لأنّ السّنن التي أجراها الخالق جلّ شأنه في خلقه، مستمرّة على نفس الوتيرة التي بدأ بها أوّل الخلق – في صراع مرير بين قوى الخير والشر، وبين الحق والباطل – ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون )(1) ماضية في أجيال خلقه لم يتغيّر منها شيء، فإنّه من دواعي حكمته وبلوغ أمره، أن يجعل لها من لدنه دعاة إليه مُوجّهين، ومُرشدين يهدون إلى الحق، واتباع سبيل من أناب إليه من أنبيائه ورسله عليهم السلام، فلم تخلو أرضه فيما عرفناه من أخبارها، من حجة له ظاهرا مشهورا- حاكما بميزان الحق ناطقا بلسان صدق – أو خائفا مستورا- لم يتسنى له ممارسة دوره والقيام بوظيفته – فحفظه مخفيّا ولم يأذن له بالظهور، حتى تتوفر له الأسباب، فهو منذ أن ستره يترقّب الأمر بإنفاذه ينتظر ميعاده، استنقاذا لمن بقي مستمسكا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
وظيفة الإمامة اصطفاء إلهيّ، ولطف من الطاف المولى سبحانه وتعالى، لم تنفكّ عن عباده بعد فترة من رسله، فهي حجته على خلقه ليسلك بهم سبيل الرشاد، ويعيد ضالتهم إلى حياض دينه، ويُنْفِذ فيهم حكمه جديدا بعد طول إندراس، يأمن به الضعيف، ويستغني فيه الفقير، ويعمّ العدل ربوع الأرض، بعد أن عمّها الظلم والجور والقهر، وسيطر الشيطان بأوليائه على الأخيار من عباده، فلم يعد لهم بين هؤلاء مجال، ليعبدوا الله حق عبادته، قد تخطّفهم شرار الخلق محقا لدينهم وتعطيلا لأحكامه.
هذا اللطف الإلهي تجسّد في شخص إمام، يراه قسم من المسلمين، ممن آمنوا بوظيفة الإمامة، دورا وأداء وعددا متعاقبا غير منقطع، اثني عشر إماما(2)، كعدّة نقباء بني إسرائل، دعا النبي صلى الله عليه وآله بطاعتهم ( فوا ببيعة الأول فالأوّل، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم كمّا استرعاهم) (3) خاتمها ومتوّج فترتها، فهو معروف عندهم بالإسم والشخص، يأتي بعد فترة من اليأس، واندراس الأحكام والسّنن، فبحوزتهم من الدلائل، ما أثبت أن هذا الإمام المنتظر ولد سنة 255 هجرية، وهو خاتم الإمامة الإلهية، لم تكن الأجواء الأولى مواتية لظهوره، ومباشرته وظيفته المقدّسة، بعد أن قضى أبوه الإمام أبو محمد الحسن بن علي الزكي عليه السلام مسموما، فأخفاه الله تعالى سنة 260 هجرية عن طلب العباسيين، على ما بذلوه من جهود للعثور عليه والتخلّص منه، إطفاء لنور الله وابطالا لحجته، ومع ذلك سيظهره يوما ليقيم به عُرى دينه، ويحقق به وعده الذي واعده في ظهور الإسلام على الدين كلّه، دينا واحدا عالميا، تتعهده جميع الشعوب بالسمع والطاعة عن قناعة تامة.
ويراه قسم آخر شرط من أشراط الساعة، وعلامة من علامات نهاية الحياة على وجه الأرض، دون أن يفهموا حقيقة شخصه، ودوره من خلال وظيفته التي أوكله الله بها، فأقرّوا به شخصا، واعترفوا باسمه ولقبه الذي لقّبه الله ورسوله صلى الله عليه وآله، لكنهم أنكروا أن يكون قد وُلد، لعدم استيعابهم الإمامة ودورها القيادي بعد مرحلة النبوة، وبقي عندهم حديث النبي صلى الله عليه وآله الذي أخبر فيه عن الاثني عشر إماما، بعد تحريفه إلى اثني عشر رجلا أو أميرا قابلا للتأويل، كما أراد ذلك أصحاب التحريف، بحيث أدخلوا في تعداد الإثني عشر حكام بني أمية على فسقهم وفساد سيرتهم. وبعَمَلِهم ذلك، حيّدوا قسما كبيرا من الأمّة عن منقذهم من الضلال والهلكة، فبقوا بعيدين عن الإمامة عموما، والإمام الخاتم المهدي الموعود خصوصا، فلم يرتبطوا بحركته الإصلاحية، بل صدّق من صدّق بأقاويل نفي وجوده تماما.
هذا الإمام المنتظر يعيش بيننا، لكنه ولأسباب عديدة لم نحظى برؤيته والتمتّع بوجوده، غريب بين أنصاره قلّوا في عددهم أم كثروا، ففي زمن الغيبتين -الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى – قال من قال وتحدّث من تحدّث في شأنه، منهم قال بعض الحقيقة ومنهم زايد عليه، كأنّ له الشرف وحده بمشاهدته ولقائه، عاصر الأجيال المتعاقبة قرابة أربعين جيلا، فلم يستقم منهم جيل ليكون حاملا مشروعه الإلهي، في استقامة تكون مدعاة لظهوره المبارك، وبداية تأسيس نظام حكم إسلامي صاف من كل وليجة، بمقدوره أن يمدّ إشعاعه ليعُمّ كل العالم، وتنعم البشرية جمعاء في كنفه بالأمن الكامل والعدل التامّ في ظل حكم الله العادل: ( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)(4).
هذا النمط من الحكم في الإسلام، أسّسه النبي صلى الله عليه وآله، نموذجا صالحا لكي يستمر من بعده في أمّته، مبنيّا على أساسات وأحكام منسجمة مع متطلبات الحياة في كل زمان ومكان من الأرض، والنبي فضلا عن كونه نبيا ورسولا، حاكم بأمر الله في أمّته بشريعته الخاتمة، وهذا التمشّي لم يكتب له أن يأخذ مجراه، فقد انقلب المنقلبون عليه استبعدوا فيه المَعْنيين به، الذين قصدهم من صفوة أهل بيته عليه السلام، بدأ من الإمام علي ومرورا بأبنائه الكرام البررة إلى خاتمهم المهدي عليهم السلام.
صحيح أن قائد الإصلاح النهائي لهذا العالم، يمتاز بخصوصيات لا تختلف في إعجازها ما حظي به أهل الله وصفوته من كرامات وإمكانات، ليست في متنول ما دونهم من البشر، كخفاء المولد والستر عن الأعين وطول العمر، لكنّه زيادة على ذلك، صاحب قدرات عقلية وروحية لا طاقة لأحد غيره بحملها، والتصرّف فيها بمنتهى الحكمة والحجة وفصل الخطاب….
حتمية وجود هذا الإمام وظهوره وفائدته، من المعتقدات التي لا يرفضها عقل سليم، فيكفي هنا القول بأنه من مستلزمات الإيمان بيوم ترى فيه البشرية آية الله الكبرى التي تظهر لهم من بعد يأس كبير ألمّ بأجيالهم، من سوء ما منيت به من ظلم وجور، تعاقب عليهم من طرف حكام، ركبوا ظهور شعوبهم كمنقذين رؤوفين بحالهم فساموهم سوء المصير، وأنماط حكم تعنون فصول أحكامها بالحقوق والحريات فلم ترى من ذلك سوى المنع والكبت.
النصوص القرآنية بخصوص الوعد الإلهي المحتوم، ولزوم أن يرث الأرض عباد الله الصالحون، والأحاديث النبوية التي بشّر بها النبي صلى الله عليه وآله أمّته، بأن المهدي – مصلحُ ما أفسده شياطين الإنس – سيختم به لطفه بمخلوقاته في آخر الزمان، وعلامته الظاهرة استشراء الظلم، بحيث أصبح حالة طاغية على الأرض، بلغت درجة العبثية في الإستهتار بحقوق الناس، والجرأة على الله في محق أحكامه ومقدساته والتطاول على أوليائه، هي إشارات ربانية، وبشارات نبوية لاستكمال الحجة على الخلق، وتحميلهم مسؤولية الإستعداد ليوم البشرى القادم لا محالة.
لقد جربت الشعوب نظرياتها البشرية دون فائدة تذكر، فلم تقدّم لهم ما يرفع عنها معاناتها المتواصلة، والتي بدأت بعد انحرافها عن جادة الحقّ تعالى، وما نشهده في عصرنا من تناقضات عجيبة، أصبحت كأنها من مستلزماته، يتعايش معها الناس، كأنّها حتميّة لا مفرّ منها، بعد إن بلغ منهم اليأس من صلاح حالهم مبلغه، يؤكّد على وجود منقذ لهم من نظرياتهم الفاشلة، بعد أن أسقطوا من أيديهم جميع حلولهم البشرية لتتعلق آمالهم باللطف الإلهي، فيتّجهوا نحوه ويعملوا على التمهيد والاستعداد لظهوره المبارك، وهذا ما هو حاصل في زماننا، فطوبى لمن آمن وعمل على أن يضع نفسه في خدمة الوليّ الخاتم.
المراجع
1 – سورة الأنبياء الآية 18
2 – تحريف مصطلح الحديث من إمام، إلى أمير أو رجلا، لا يمكن أن يفوت نبِيهًا/ جامع أحاديث البخاري كتاب الأحكام ج9ص81ح7222و7223/مسلم كتاب الإمارة ج6ص3ح1821
3 – جامع أحاديث البخاري كتاب أحاديث الأنبياء ج4ص169ح3455/ مسلم كتاب الإمارة باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء ج6ص17ح1842
4 – سورة المائدة الآية 50