بل هو رد في صلب الموضوع حاولتَ توهينه، حتى لا يقال أنك أخطأت بتحريرك للتدوينة، إيمانك بحرية الضمير لا يعفيك من ادعائك بخصوص المناظرة فعنونتها بالمشبوهة، وأثرت بها نوازع المتطفلين على حقيقة إيران، فأقحموها في مجال تعاليقهم تعسّفا عليها، وجعلوا منها مرمى عقولهم القاصرة عن فهمها، وأدخلوها بفضل ما كتبته، في سياق ما قد تكون تقصده من الإساءة اليها، وتجربتي مع الإخوان أثبتت أن فريقا منهم، يكنون لها العداوة ويتمنون لها الشرّ لسبب واحد، وهي أنها اعتمدت بعد ثورتها على المذهب الإمامي الإثني عشري، وهو في نظرهم مذهب غير إسلامي تأثّرا بتكفيرات ابن تيمية وابن عبد الوهاب.
الإسلام دين متكامل لا يتجزأ، فهو فضلا عن كونه اعتقاد فكري وايمان قلبي بأصوله، له فروع عبادية ومعاملاتية، والتشيع لأئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام هو موقف ولاء لسلسلة الولاية، التي هي أساسها الله ورسوله صلى الله عليه وآله ثم الأئمة الاثنا عشر عليهم السلام، بدأ من الإمام علي إلى الإمام محمد بن الحسن المهدي عليهم السلام، هذه الولاية تسوجب الطاعة الكاملة لسلسلتها (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (1) وتبشر الذين اعتقدوا قلبيا وأجروها في حياتهم عمليا بالفوز في الدنيا والآخرة ( ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون) (2)
وجه الاختلاف بيننا هنا وفي مسالة الولاية تحديدا أنها عمدة معاملات من اعتمد فقه المسلمين الشيعة الاثنا عشرية في تقليد الإمام المعصوم عليه السلام والفقهاء المجتهدين رضوان الله عليهم من بعدهم، هذا التقليد كان وقفا على العبادات والمعاملات فقط قبل الثورة الإسلامية وانتصارها على يد قائدها الراحل الامام الخميني رضوان الله عليه مؤسس النظام الإسلامي وخيّر الشعب الإيراني في اعتماد الإسلام دستورا فكان الاستفتاء الشهير الذي افحم أعداء إيران بموافقة بلغت 98.2%
هذا الولاء الذي سمّيته ولاء سياسيا، هو عمل عبادي من صميم إسلامنا في طاعة أولي الأمر – أهل ولاية الله – وفي ذلك كل الخير الذي لم تقدّره بتصورك، فرأيته خطأ وخيانة للوطن، وأسألك إن كنت تؤمن بنظرية الخلافة، ويسعى الى عودتها من جديد، هل إن ولاءك للخليفة إذا قام تعتبره خيانة للوطن؟ مع أنّ هذا الخليفة قد لا يكون فقيها مطلَقا، ويحتاج إلى من هو أو هم أفقه منه لرفد قصوره العلمي، بينما في نظرية ولاية الفقيه، يكون ولي الأمر فقيها مجتهدا مطلَقا مشهود له بالقدرة الفائقةـ على استنباط الحكم الشرعي من مصادره بكل يسر، والذي يجب أن تفهمه أنت ومن استوى معك على ثلّة النقد دون احتراز، أن التسجيلات الإلهية الدقيقة محفوظة حفظا لا يبلغ كنهه عقل، فاحذر من أن تكون من الغاوين ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) (3)
ولي الفقيه الذي أقلده اليوم وهو السيد علي الحسيني الخامنئي دام ظله الشريف، أحْرصَ على تونس من الشيخ راشد، وحتى من قيس سعيد نفسه، لا يريد لها ولجميع الدول الإسلامية سوى العزة والخير والسؤدد، وقد سخّر شعبه بجميع مقدّراته لخدمة القضية الفلسطينية، ويعمل عسكريا على تحريرها بما أسسه من محور المقاومة، وينفق على تسليح حركاتها وتقديم مختلف أنواع الدّعم لها، دون تمييز بين سنة وشيعة فيها، افترض مثلا أن القضية هي قضية تونس بدلا عن فلسطين، تأكد أن تعامل الوليّ معها سيكون بنفس مقدار الإهتمام والعمل من أجل تحريرها.
وأقول لك هنا افترض أنت المالكي المذهب، أنّ مالك بن أنس حي وموجود الآن بالمدينة، وأنت من مقلّديه، وتحتاج إلى استصدار الفتوى منه، هل يصح أن يقع اتهامك بأنك غير وطني؟ مع أنّه هناك فرق كبير بين الفقيه المستقل وحامل مشاريع مقاومة الاستكبار والصهيونية، وبين فقيه سلطان لا قدرة له سوى اتباع سلطانه، وتلك كانت حال إمام مذهبك في حياته عند المنصور والرشيد العباسيين، وقوّتهما الباطشة كانت سبب انتشار مذهبه في تونس وسائر البلدان المجاورة.
أما بالنسبة للشيخ أحمد سلمان، فقد أخطأت في تقديرك بشأن ميثاقه المشبوه، وهذا أحق بالشبهة من غيره، وليس من حقك أن تقرر أنه لم يراجعه بشأنه فيه أحد، فقد التقيت به وطلبت منه بمعية عدد من الأخوة الخروج منه والعدول عنه، نظرا للإخلالات الموجودة فيه، فضلا عن كونه ميثاقا كُتب برعاية مؤسسة (التلاقي) الممولة أمريكيا ومباركة منها، وعلى أساس أننا مسلمون ضمن المكوّن الإسلامي العام، وليس من الصواب ولا الحكمة وضعنا في إطار أقلية، مقابل أكثرية مسلمة، وهذا تقدير خاطئ، فتنصل من الخروج من الميثاق مصرّا على البقاء فيه، معتبرا أنه أمضى عليه باسمه الشخصي، فنبهناه بأن العنوان الذي أمضى تحته مع اسمه هو مركز أهل البيت عليهم السلام، ما يعطي انطباعا ظاهريا بأن الإمضاء يوحي بالنيابة عن الشيعة بتونس، وهذا خطأ ارتكبه شخص تحرك في تونس سنة 2019 كما قال، لا تزال شبهات تحوم حوله، من أين جاء؟ ومن ويقف وراءه أمريكيا كان أم سعوديا؟ وما هي غاياتهم التي يريدون بلوغها؟ موقف سجلناه لله ولدينه أولا، ولتونس التي نحرص على سلامتها من أي مخطط يستهدفها خارجيا ثانيا، ووطنية أغلب المسلمين الشيعة لا يشكك فيها سوى مرضى التعصب الطائفي، وإيران تاريخيا ليس لها أي مطمع بتونس، بل عرضتْ على مسؤولي بلادنا مشروعا ضخما لصناعة السيارات، كان سيشغل في تقدير أوّلي عشرة آلاف عامل وتقني فوقع تجاهلها، والنهضة كانت سببا رئيسيا في ذلك التجاهل، والمعمل الان يشتغل بالجزائر منذ سنوات بشراكة مع سوناتراك الجزائرية.
الحقيقة التاريخية التي اعتبرتها من السرديات الواهية، بأن التشيّع لأهل البيت عليهم السلام كان سباقا للمذهب المالكي – وانا بصدد استكمالي بحثي التاريخي (الإسلام بإفريقية)- أشار اليه ابن عذاري المراكشي تلميحا كما سبق أن ذكرت لك ذلك في ردي الأول، ولعلّه من المهمّ هنا أن أحيلك على رواية التاريخية جاء فيها ما يلي:
جاء في رواية لأبي بصير قال:”… سمعت أبا جعفر يقول لرجل من أهل إفريقية: ما حال راشد؟ قال: خلّفته صالحا يقرئك السلام.. فقلت له: أيّما كان الرجل؟ قال: كان لنا وليّا ومحبّا من أهل إفريقية، يا محمد والله لئن كنتم ترون أنّا لسنا معكم، بأعين ناظرة وآذان سامعة، لبئس ما ترون، والله ما خفي ما غاب (4) ومعلوم أن الإمام محمد بن علي بن الحسين عليه السلام استشهد في 114 هجرية فأين ظهور مالك من صيت أستاذ الفقهاء ومؤسس الجامعة الإسلامية؟ وقد أخذ المشعل عنه ابنه الامام جعفر الصادق وقام بإرسال رجلين إلى افريقية، هما الحلواني وأبو سفيان، لنشر الإسلام المحمدي الأصيل هناك، وهذا مما أقرّه المؤرخون، نسأل الله تعالى أن يرفع عن المسلمين غشاوة التعصب، يهديهم سواء السبيل.
المراجع
1 – المائدة الآية 55
2 – سورة المائدة الآية 56
3 – سورة ق الآية 18
4 – دلائل الإمامة لمحمد بن جرير بن رستم الطبري ص100/101