تعتمدُ الولايات المتّحدة لغرض التمدّد والهيمنة، استراتيجيّة توريد الديمقراطيّات إلى شعوب العالم. والديمقراطيّة بالمعنى الأميركي لا تقف عند حدود المفهوم السّياسي أي شؤون الحكم، بل تمتد في التطبيق لتتضمّن الحريّة المطلقة للفرد، ليس داخل الولايات المتحدة فحسب بل خارجها في كافة دول العالم، وهو ما يُقصد به الديمقراطيّة الليبراليّة. ذلك أن الحريّة الفرديّة هي إحدى دعائم الديمقراطيّة الأميركيّة، التي يقع في دائرتها الشّذوذ الجنسي كحق إنساني بحت، ينبغي أن تتوفّر له التسهيلات السياسيّة والحقوقيّة كي يستمر وينتشر بالصورة المطلوبة.
تبذلُ الولايات المتّحدة جهودًا حقوقيّة وسياسيّة لشرعنة الشّذوذ الجنسي، وتتعامل مع الشّاذين جنسيًا كفئة مضطهدة تحتاج لدعم أفراد المجتمع، فقد سبق وصرّح أمين عام الأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” قائلًا: “طالما أن الأشخاص يتعرّضون للتجريم والتمييز والعنف على أساس ميلهم الجنسي وهويتهم الجنسانية وخصائصهم الجنسية، علينا أن نضاعف جهودنا كي نضع حدًا لهذه الانتهاكات. وقد أعربت آليّات الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان عن قلقها بشأن هذه الانتهاكات منذ مطلع التسعينيّات. هذه الآليّات تشمل هيئات المعاهدات المنشأة لرصد امتثال الدول للمعاهدات الدوليّة لحقوق الإنسان، والمقرّرين الخاصين. وإذا لم يكن هناك قوانين خاصّة بحماية حقوق الشاذّين في الولايات المتحدة، فمردّ ذلك إلى أن الدول بحسب الأمم المتّحدة ملزمة بفعل القانون الدولي لحقوق الإنسان والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بحماية الحقوق التي يتمتّعون بها”.
فكيف يمكن قراءة تصدّي الولايات المتحدة للدفاع عن الشذوذ الجنسي كمشروع سياسي؟
_الصوابيّة السياسيّة الأمريكية
تعرف الصوابيّة السياسيّة Political Correctness بأنها مصطلح “يستخدم في اللغة لوصف السياسات أو الإجراءات التي تتجنّب أوتحمل أقل مقدار من الإساءة لا سيما عند وصف مجموعات في المجتمع باعتبارات محددة متعلّقة بالعرق أو الجنس أو الثقافة أو التوجّه الجنسي”. تُستخدم الصوابيّة السياسيّة كأداة لفرض مفردات بديلة لمفاهيم معينة، غالبًا ما يكون لها بعد سلطوي في فرض مفهوم ما بصيغة معينة، ما يجعل النقاش به غير ممكن. وفي هذا الإطار، يمكن تفسير استبدال مصطلح “الشذوذ” الذي يصف بدقّة مخالفة الطبيعة الكونيّة لقانون الزاوج البشري، بمصطلح “المثليّة” كأمر له منطلقاته السياسيّة وأثره على الواقع الاجتماعي، لا سيما في الحث على استمالة الآراء وتسريب قيم جديدة إلى المجتمعات المحافظة. يؤكّد ذلك، مرجعيّة الغرب الأخلاقيّة وضرورة انصياع الجميع تحت خيمة الصوابية السياسية/ الأخلاقية الغربية. تعد الصوابية السياسية آخر معاقل الهيمنة الأميركيّة، في ظل انكفاء قدرة الدولار كأداة إكراه.
_فرض القيم للحفاظ على الحيوية الليبراليّة
تبشّر الولايات المتّحدة بالقيم الليبرالية التي يتصدّرها الشذوذ الجنسي في الوقت الحالي، رغم معرفتها بأنها تدمّر المجتمعات المستقرّة، في ظل غياب أنظمة ديموقراطيّة بديلة. ولذلك لا يمكن قراءة فرض القيم الليبراليّة على شعوب العالم كداعم للحريّات الفرديّة، في ظل التباينات الأيديولوجيّة والثقافيّة، لأن نفس هذا الحريّة تتعرّض للانتهاك عندما لا تُحترم خصوصيّتها في مجتمع ما. وهذا ما يجعل تفسير إنشاء ودعم قيم ليبراليّة معينة يصب في خدمة النظام الليبرالي حصرًا، والذي يستمد شرعيته من هذه القيم سواء على المستوى المحلي في الولايات المتحدة أو الخارجي. أيضًا هناك تحدّي آخر يواجه النظام الليبرالي، وهو تغير توازنات القوى في العالم والتعدّدية القطبيّة التي تمتلك منظومات فكريّة وثقافيّة مختلفة. في كتابه “الوهم العظيم: الأحلام الليبرالية والواقع الدولي”، يصف “جون ميرشايمر” الهيمنة الليبراليّة بأنها “استراتيجيّة طموحة” تهدف فيها الدولة إلى تحويل أكبر عدد ممكن من الدول إلى ديمقراطيّات ليبراليّة مثلها”. بيد أن هذا التصوّر بحسب رأي الكاتب خاطئ تمامًا، إذ نادرًا ما تكون “القوى العظمى” في وضع يُمكِّنها من اتباع سياسة خارجيّة ليبراليّة واسعة النطاق، خاصّة في ظل نظام ثنائي أو متعدّد القطبيّة.
في مقابل هذه التحدّيات، يبتكر أرباب النظام الليبرالي قيمًا جديدة باستمرار للحفاظ على حيويّة هذا النظام في ظل التحدّيات التي يواجهها، لا سيما الانقسام الأيديولوجي في العالم وحتى داخل أميركا نفسها بين التيار التقليدي وأنصار العولمة. بمعنى أن النظام الليبرالي يتطرّف في إطلاق الحريّات الفرديّة، ليبقى يدّعي أنه المالك الحصري لها. ومن هنا يمكن تفسير الترويج لقيم شاذّة أخرى تأتي في سياق اللبرلة الثقافيّة، مثل ممارسة الجنس مع الحيوانات، وبين المحارم.
_صناعة أقليات والتدخل لحمايتها
تعمل الولايات المتّحدة كحامية لحقوق الأقليّات في العالم، من خلال خلق أقليّة جديدة. مثلًا مدارس “الأونروا” التابعة لـ”وكالة غوث اللاجئين” تروّج للشذوذ في المناهج التعليمية في كل مراكزها خصوصًا مدارس الأطفال. صناعة هذا الاختلاف هو بداية لتأطير فكرة العنصرية أولًا ثم الجندرية ثانيًا، أي خلق المشكلة من العدم ثم تقديم الحلول الجاهزة مسبقًا. عمليًّا الربط السياسي جلي في الاستراتيجيّة الأميركيّة وهو خلق أعداء محليين، يعني خلق أعداء من أنفسهم باللعب على التمايز العرقي والديني والمذهبي. تبدو هذه الاستراتيجيّة قد تعثّرت، فاتجهوا لخلق تمايز جديد وأعداء جدد هم المثليون. وبطبيعة الحال، سيكون تصنيف الشذوذ كأقليّة في المجتمع، يعني جلب الكثير من التعاطف والدّعم، بزعم أنهم فئة تتعرّض للاضطهاد والقمع.
_مشروع تحديد النسل العالمي
يأتي الترويج للشذوذ الجنسي في إطار مشروع تحديد النسل العالمي الذي تدعمه مؤسسة Usaid ومنتدى Davos، بالإضافة إلى شخصيات شهيرة كـ”بيل غايتس”. تقوم فكرة تحديد النسل على كبح النمو السكاني في العالم وخصوصًا دول الجنوب، وبالتالي، ستكون النتيجة الطبيعية للشذوذ الجنسي في خدمة هذا المشروع.
_”المثليين” كمجموعات ضغط على الأنظمة
حاربت الولايات المتحدة النظام الروسي من خلال “مجموعات المثليين” كمجموعات ضغط على الحكومة الروسيّة، لكن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” تصدّى لهذه المجموعات بشراسة. ففي العديد من المناسبات عبّر “بوتين”عن موقفه الرافض للشّذوذ الجنسي، لا سيما خلال منتدى “فالداي” الدولي بمدينة “سوتشي” عام 2021. في خطوة عزّزت التزام بلاده “بالقيم الروحية والتقاليد التاريخية” الخاصة بها، وضرورة الابتعاد عن “الاضطرابات الاجتماعية والثقافية” لدى الغرب. كما وصف الرئيس الروسي النظام الغربي في تعليم الأطفال أن “الصبي يمكن أن يصبح فتاة والعكس صحيح” بأنها “فكرة بشعة وتقترب من كونها جريمة ضد الإنسانية”. ولذلك لم يكن مفاجئًا “حظر مجلس النواب الروسي (الدوما) في عام 2013 الدعاية للشذوذ الجنسي والإجهاض”. وهو يشير دائماً وبشكل مباشر إلى أن تفرد وقوة المجتمع الروسي قائمة على أننا “تعلمنا أن نعامل بعضنا البعض باحترام. وماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أيضاً معاملة أسس ثقافتنا الروحية التقليدية باحترام. أود أن أؤكد أن جميع شعوب الاتحاد الروسي لديهم الحماية الأخلاقية الداخلية ضد الظلامية التي ذكرتها للتو”.
بالنتيجة، لم يعد منطقيًّا أن يكون الهدف الاستراتيجي للولايات المتّحدة فرض نظام ليبرالي عالمي، بالنظر إلى صعود قوى أخرى غير غربيّة كالصين وروسيا، الأمر الذي سيتيح وقف امتصاص الهويّات الاجتماعيّة ونزف الأيديولوجيّات الناتج عن العولمة الثقافيّة. وهو ما يجعلنا بحسب “جيه ستابلتون روي” الدبلوماسي الأميركي المتخصّص بالشأن الآسيوي، “على قدم وساق في عمليّة الانتقال من عالم ما بعد الحرب الباردة الذي عرفناه على مدار الخمسة وعشرين عامًا الماضية إلى عالم جديد بدون قوة عظمى مهيمنة واحدة”. حينها سيكون بإمكان جميع شعوب الأرض حماية قيمها من الذوبان في منظومة قيميّة واحدة تُفرض من قبل جهة مهيمنة، وستكون أيضًا الكثير من الممارسات الشّاذة عن قانون الطبيعة منبوذة نزولًا عند رغبة الشعوب، لا بالقوّة السياسية للنظام الليبرالي.