ليست هذه هي المرة الأولى التي يقع فيها تبادل سجناء أو أسرى بين أمريكا وإيران، فقد سبق هذه العملية التي توسطت فيها أطراف موثّقة من الجانبين، وأدى ذلك إلى نجاحها، وتجاوزها جميع العقبات والإشكالات المعطلة لتنفيذ بنودها، تذليل هذه العقبات، وهي أمريكية وهميّة صرفة، تحقّق بعد طول مفاوضات غير مباشرة، وانتهت على اتفاق وقع تطبيقه بحذر إيراني شديد، تفاديا لعدم وفاء قد تصدر من الجانب الأمريكي، وعادة أمريكا كلما وجدت ثغرة لصالحها استغلتها، لتنقلب على ما اتّفقت عليه مع أيّ طرف.
وحتى لا تتكرر مخادعة أمريكا التي راوغت بها اتفاق الجزائر (1)، بخصوص رهائن سفارتها بطهران، الذين قبعوا في الأسر والتوقيف طيلة 444، بعد الهجوم الذي شنه الطلبة الثوريون الإيرانيون على السفارة الأمريكية (2) وكان حدثا مفاجئا للعالم بأسره، ولكنه كان جيدا للدّاخل الإيراني، وقع تنفيذه من أجل تحصين الثورة الإسلامية، من التدخل الامريكي في الشأن الداخلي، وقطع أواصر التواصل مع عملاء الداخل من بيادق أمريكا، ذلك الإتفاق الذي أُبْرِم بوساطة جزائرية، اخلّت به الإدارة الأمريكية، لم تفي بجانبه السياسي ببقاء تدخلاتها في الشأن الداخلي الإيراني، وكذلك الجانب المالي، وقد بقي الإتفاق نقطة سوداء فاضحة، لعدم الوفاء بما التزمت به دوليّا، وهو سلوك جُبِلت عليه ليس مع ايران فقط، بل مع دول العالم التي لها مواقف غير متوافقة ومعارضة للسياسة الأمريكية.
هذا الوضع شبيه بالحرب الباردة (3) التي مرت بها العلاقات بين الإتحاد السوفييتي وأمريكا، بشأن الصراع الدائر بينهما، ومنه جانب الجواسيس الذين كانوا يعملون لحساب أحد الطرفين، وقد تجاوزت الأربعين سنة تماما، كما هي حال المواجهة الباردة بين أمريكا وإيران منذ أزمة الرهائن إلى اليوم، وقد لا تنتهي هذه المواجهة مستقبلا طالما أن النظام الإسلامي في إيران يعتبر أمريكا شيطانا أكبر، وتصنّف أمريكا إيران دولة معادية وراعية للإرهاب، وهي تهم باطلة تماما، باعتبار أن من تدعمهم إيران وتساندهم، هم مجموعات حركات نضال شعبي، تأسست من أجل تحرر شعوبها من الإحتلال والهيمنة الصهيونية على المنطقة.
الإدّعاء الأمريكي الأوّل بأن موافقة إدارته بشأن تبادل السجناء جاء بدافع انساني، عار عن الصحّة، الحقيقة التي لا يمكنها أن تخفى على العارفين تقول، بأن هؤلاء السجناء المعتقلون، هم عملاء أمريكيون فعلا، وإن كانت جنسياتهم الأصلية إيرانية، وقد خضعوا لتحقيق اثبت تورطهم في أعمال تجسسية، وهو ما سيعرضهم لحكم المؤبّد أو الإعدام، وليس هناك من أمل لهؤلاء ينقذهم من العقاب المستحقّ، سوى نزول أمريكا عند شروط التبادل المقترحة من إيران، بعد العرض الدبلوماسي الإيراني عبر وسطاء عمانيين وقطريين.
والادّعاء الأمريكي الثاني الذي أرادت من خلاله خارجيتها، حفظ ماء الوجه، بالقول أن الأصول المالية الإيرانية المجمّدة، ستكون خاضعة لشروط الخزانة الأمريكية، في صرفها في مجالات إنسانية، بعيدا عن الإقتصاد الإيراني وتنميته، كما نقل عن المصادر الأمريكية، ومنها شبكة (سي. أن. أن. C.N.N) الإعلامية، التي ذكرت بأن الأموال الإيرانية التي حولت لحسابات في قطر، ستستخدم للمشتريات الإنسانية فقط (4) وهو ما نفاه الإيرانيون تماما، فالأموال المفرج عنها حق تجاري إيراني، جاء من مبيعاتها النفطية لكوريا الجنوبية، ولا يمكن أن تقبل إيران بشرط فارغ كالذي ادّعته أمريكا تغطية لخيبتها.
تحرير الأموال الإيرانية المجمّدة في بنوك الدول التي تعاملت تجاريا معها في مجال النفط، كان ولا يزال من أولويات إيران، وهو أحد أهمّ حقوقها الدولية، وتسعى الى إيجاد حلول للعوائق التي وضعتها الخزانة الامريكية ظلما وتسلطا عليها، وقد برهنت السياسة الإيرانية على قدرتها على تجاوز العقوبات الأمريكية الظالمة، والخيارات مفتوحة أمامها، ولن تصمد العقوبات المُسلّطة على إيران، ولن يفيد أمريكا ما اقترفته بحقها، وما سبق أن سلبته من حقوق كوبا قبلها بعشرين عاما (19/10/1960) (5)
ولنا أن نتساءل: هل نجحت العقوبات الأمريكية المسلطة بكثافة على إيران، وهي التي لم تترك مجالا إلا دخلت فيه؟ الإجابة حملتها لنا نجاح السياسية الإيرانية في تخطي العقوبات المفروضة على اقتصادها وشخصياتها، وبفضل حكمتها حولتها من عامل سلبي معرقل، إلى حافز دفع بها لمزيد من البذل والجهود والتضحيات، وقد حققت بذلك نجاحات باهرة على مختلف الأصعدة الإقتصادية والعلمية وحققت بها الإكتفاء الداخلي، وفتحت مجالا رحبا لمزيد من التحدي في المستقبل، ولا أعتقد أن إيران كانت ستقدم خيرا مما قدمته لحدّ الآن من نجاحات، لو لم يكن هناك عامل تلقائي، حفّز الشعب الإيراني على تحد للعقوبات الامريكية الظالمة، هذه النتائج الباهرة التي تتجاهلها الإدارة الأمريكية – ولاتزال تأمل في انقلابها – وتمضي برعونتها قدما لتسليط مزيد من العقوبات عليها، وهي مدركة تماما أنها بلا فائدة، وانما هي إجراءات تصدرها من حين لآخر، حفظا لماء الوجه الأمريكي إن بقي له ماء وجه.
شعار الإنسانية ودوافعها ما فتئت أمريكا تلوّح بها كل مناسبة، لم يعد له ما يؤيّده على أرض الواقع، فقد كشفت عن وجه هو الأقبح في هذا العالم من حيث تناقضه مع الإنسانية التي يجب أن تكون سمتها الحقيقية، ومن خلال سلوكها الذي أبدته، ظهر بعدها تماما عن ذلك الشعار، بل قد تناقضت معه من خلال استخفافها بمصائر الشعوب، وأعمالها العدوانية التي انخرطت فيها،
ما فعلته أمريكا لكوبا يجب أن يعتبر انتهاكا فظيعا لحقوق الانسان والشعوب الحرّة، ومع ذلك لم تتمكن أمريكا من اسقاط نظامها وبقيت كوبا بفضل شعبها وسياستها دولة حرّة مستقلة لم تؤثر فيها مؤامرتها رغم قربها من في مدخل خليج المكسيك وجنوب ولاية فلوريدا، فإذا عجزت أمريكا عن فعل شيء لكوبا وهي الجزيرة الصغيرة الضعيفة، فكيف لها أن تؤثر في إيران، وهي في قوّتها المتنامية اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، وذات عقيدة صلبة ثابتة ثبات معتنقيها هناك، عبثا تحاول فعله، وحلم يستحيل أن يراودها في استعادة ربيعها القديم في إيران؟
المراجع
1 – اتفاقية الجزائر 1981 https://ar.wikipedia.org/wiki/
2 – أزمة رهائن إيران https://ar.wikipedia.org/wiki/
3 – الحرب الباردة https://ar.wikipedia.org/wiki/
4 – صفقة طهران وواشنطن… أموال إيران تصل إلى الدوحة وترقب لتبادل السجناء
https://www.aljazeera.net/news/2023/9/18/
5 – الحظر الأمريكي على كوبا https://ar.wikipedia.org/wiki/