عندما تكون إرادة الشعوب الحيّة هي الأقوى من إرادة أعدائها، ينفتح لها بها باب فرج وتوفيق، ولأنّ الشعب الفلسطيني بما اثبته من صبر وصلابة، معدود في مقدّمة الشعوب المقاومة، ومعضلته التي يعيش آثارها إلى اليوم – بمقياس أهل النظر – فريدة في عصرنا عيّنة لا مثيل لها في عمق مأساتها، لم يبتلى بها شعب آخر في العصر الحديث، وتحمل تبعاتها طوال 75 سنة، ما أكسب هذا الشعب العزيز إرادة على تجاوز جميع المحن التي اعترضته، وقد أهّلته تجاربه ليخرج في كل مرّة من إحداها، مرفوع الهامة عالي الهمّة، بإرادة تُعدّ اليوم أقوى من إرادة الصهيوني المتحلّ لأرضه، وإرادات الشعوب الحرّة عادة لا تُكْتسب من دون ثمن، بل بالتضحيات الجسام.
قديما كان للدعاية الغربية تأثير على شعوبنا العربية والإسلامية، وقد تركّزت بعد توطين بريطانيا لليهود على أرض فلسطين، خلق حالة من الإحباط بين الشعب الفلسطيني وبقية الشعوب العربية والإسلامية، بإشاعة فكرة التفوّق العنصر الصهيوني على العربي، وحقّه التاريخي في فلسطين، زاد ذلك الهزائم العسكرية التي مني بها العرب في مواجهة الكيان الصهيوني، بحيث وُلِدت عقدة التفوّق الصهيوني، وأشيع بأن قواته العسكرية لا تقهر واصبح عنوانا مرتبطا بقطاعاتها، ولولا تواطؤ دول الغرب ومساندها لكيانه، لما تحقق من عنوانه التهويلي شيء، لكنّه بالأمس رأينا كيف انكفأ هذا الجيش إلى جحوره، عندما لحقته الهزيمة سنتي 2000 و2006، بعدما فرضت عليه المقاومة الإسلامية اللبنانية كلمتها في مواجهتين، وحققت من خلالهما نصرا مُعْتَبَرا، بدأ يغيّر من المعادلة العسكرية، التي كانت راجحة كفّتها سابقا لصالح الجيش الصهيوني نظريا، وعند الميدان والمنازلة – رغم الفوارق الكبيرة في التسليح – تبيّن أن الرجحان كان مجرّد وهم، ركّبته الدعايات الغربية المتصهينة، للرفع من شأن جيش مفكك واقعا، لا يمكن أن يصمد في وجه إعصار الشعب الفلسطيني وأحرار المنطقة لو وجدوا وسائل دفاعهم عند مواجهته.
ثلاثة أيام مرّت على طوفان القدس، ومازالت أعراضه قائمة تبشّر بيوم التحرير، الذي تستعدّ له المقاومة على اختلاف فصائلها، ما يمكن استخلاصه من هذه الأيام، أنّ العدوّ الصهيوني ومن يقف وراءه بالدّعم والتأييد، لم يكن يتوقع أن يقع هجوم على مستوطناته في غلاف غزة، وكان تركيزه بالأساس عل شمال فلسطين على الحدود مع لبنان، ومن هناك كان تحشيده العسكري وترجيح احتمال أن تقع مهاجمته من الشمال، أما وقد وقعت مهاجمته من الجنوب ومن فصائل يعتبرها محدودة التسليح، لم يكن يتوقع منها ذلك، رغم ما توفر لديه من معلومات استخبارية كانت أجهزته تجمعها من مصادر مختلفة، ومنها جهاز سلطة محمود عباس، فهناك كانت المفاجأة، وليس الذي حصل محض صدفة أو ردّ فعل، إنّه بداية الغيث الذي سيطهّر فلسطين من رجس الصهيونية طال الزمان أم قصر، بل لعلّ الذي حصل حتى الآن، هو بداية الطوفان الذي سيأتي على عرش هذا الكيان المجرم الغاصب، الفاقد لكل قيمة إنسانية.
قبل يوم السابع من أكتوبر 2023، ذهب في اعتقاد حكام الغرب ومن تبعهم من الأعراب، أنّ الإرادة الكامنة في الشعب الفلسطيني ضعُفت، ولم يعد لها أثر في حياته، بإمكانه أن يغيّر واقعه من شعب مغلوب على أمره، يتناهشه طرفان خبيثان، الكيان من جهة والسلطة من جهة أخرى، وهذه السلطة هي واقعا حرس الكيان في الضفة، وواجهته الخلفية التي لا تمثل الشعب الفلسطيني في شيء، وتاريخها شاهد على ذلك، متورطة إلى النخاع فيه، بتعاونها الأمني المُدان مع الأجهزة الصهيونية، في كشف عناصر المقاومة، للقيام بتصفيتها أو اعتقالها، وما وافق الكيان الصهيوني على إقامة هذه السلطة وبقائها مؤدّية دورها التآمري إلّا لأجل ذلك.
بالأمس عندما أسقط الشعب الفلسطيني من حساباته نهجين عقيمين، هما إعتماده على الدول العربية، وقد ثبت أنه اعتماد خاطئ، بعدما تبين له أن أغلب هذه الدول، لم تعد تحمل همّه في تحرير أرضه، بما أقدمت عليه دون حياء، من أعمال التطبيع مع عدوّه ومحتلّ أرضه الكيان الصهيوني، وهي بحد ذاتها تفريط وبيع وخيانة لقضيته، ولم يتردّد في اسقاط نهج المفاوضات مع العدوّ، لأنّه مسار فاشل، ولن يُعِيد ما اغتصب من أرضه، ومن خلال سنوات من التجارب العقيمة وعى الشعب الفلسطيني بأن قضيته لا يمكن أن يحملها بحق وصدق غيره، وأن حلّها لن يكون بالمفاوضات ولا بالتوافقات السياسية في سوق السياسة العالمية، والتي عادة ما تنتصب من أجل المتاجرة بحقوق الشعوب، هذا الوعي دفع بطلائعه الحيّة – والحمد لله هي اليوم دالّة على مدى الوعي الذي بلغه هذا الشعب المظلوم – لاتخاذ نهج المقاومة سبيلا لاستعادة حقوقه المسلوبة، فبادر متميّزوها إلى تأسيس حركات فدائية مسلحة، واجهت مشروع الإستسلام ببسالة رجال، بذلوا أرواحهم ودماءهم سخيّة، من أجل بقاء حق شعبهم حيّا قائما لا يسقطه شيء.
أمّا اليوم، وبعد سلسلة الإنتفاضات التي خاضها الشباب الفلسطيني وهو أعزل من السلاح، ولم يكن حينها يملك سوى إرادة وعزيمة، وفي أیديهم فقط حجارة تسلحوا بها، مع أنّ هذا الشباب الشجاع المقاوم ببسالة، لم يكن بيده أن يفعل شيئا أكثر من ذلك التحدّي، في مواجهة دبابات الميركافا والمدرعات، فتربى على مواجهتها دون سلاح، فكيف به اليوم، وهو يمتلك أسلحة قتال منافسة، يخشاها الصهيوني، الصاروخ مقابل الصاروخ، والمسيّرة مقابل المسيرة، هذه المعادلة التسليحية ستحقّق في قادم الأيام، قدرة فلسطينية على مواجهة عدوّه، بما يؤدّي إلى هزيمته، وإنهاء وجوده على جميع الأراضي الفلسطينية .
إنّ الذي حصل في هذه الأيام المباركة، شبيه بمعجزة، ومعركة طوفان القدس الذي نفذتها فصائل المقاومة مجتمعة، كانت ولا تزال بتأييد إلهي لا شك فيه، مصداق قوله تعالى: (أُذِنّ للذين يقاتَلُون بأنّهم ظُلموا وأنّ الله على نصرهم لقدير)(1) وعلى المعطيات المتوفّرة لدينا فإنّ باب زوال الكيان الغاصب قد انفتح وليس بمقدور أحد أن يغلقه على أمنه بل لقد أحدث صدمة معنوية هز ما بقي من ثقة في إمكانية بقاء المستوطنين مع أحلامهم الوردية في العيش على ارض الميعاد بأمن وأمان ورخاء، انقلاب معادلة الجيش الأسطوري الذي لا يقهر، إلى الجيش الذي امتلا أفراده رعبا – عندما اجتاح افراد المقاومة مستوطنات حزام غزة – ولم يعد لهم ثقة في قياداته السياسية، سيكون من السهل هزمه وبحركات المقاومة فقط.
المرجع
1 – سورة الحج الآية 39