بقلم: فوزي حساينية – كاتب جزائري |
أبو القاسم عبد الرحمن القالمي شخصية ثقافية وسياسية مغاربية بامتياز فقد كان رئيسا لديوان الإنشاء في دولة أجدادنا الموحدين الأماجد، ومنصب رئيس ديوان الإنشاء يُشبهه بعض الباحثين بحق بوظيفة رئيس الوزراء أو على الأقل الأمين العام للرئاسة في عصرنا، أي أننا لو افترضنا أن المغرب العربي اليوم دولة واحدة كما كان في عهد أجدادنا الموحدين، وأن أبا القاسم عبد الرحمن القالمي من رجال عصرنا الراهن، فإنه بهذه المثابة سيكون رئيس الوزراء في دولة المغرب العربي الكبير أو الأمين العام للرئاسة في دولة الولايات المتحدة المغاربية، ولنا عندئذ أن نتصور كم ستكون أهمية وخطورة هذا الرجل ومدى الاهتمام الذي سيحظى به من قبل وسائل الإعلام المحلية والعالمية، والأضواء التي ستسلط عليه والناس الذين سيتهافتون على التقرب منه والتعرف عليه .
ولكن المغرب العربي اليوم ليس موحدا بل هو يعيش تجزئة ربما هي الأسوأ في تاريخه، كما أن أبا القاسم عبد الرحمن القالمي ليس موجودا اليوم فقد غاب عن مسرح الأحداث منذ عدة قرون، ومن هنا تأتي أهمية العودة إلى سيرته وأعماله..
ولد أبو القاسم عبد الرحمن القالمي في العهد الحمّادي بمنطقة قالمة، وكانت يومذاك من المناطق التابعة لبجاية الحمادية في دورها الثاني، وهو شخصية أدبية وفكرية وسياسية مرموقة عاصر أدوارا حاسمة في التاريخ الجزائري والمغاربي بصورة عامة، فهو وإن كان قالمي المولد أي جزائري إلا أن ضخامة وأهمية الأحداث التي عاصرها وطبيعة المهام التي أُسْندت إليه والمناصب التي تبوأها كفيلة بأن تُدرجه في مصاف الشخصيات الأكثر أهمية وتضعه موضع الشاهد الممتاز على مجريات التاريخ في عهده، إذ أنَّه وقبل أن يرتبط مصيره بالدولة الموحدية، كان من كتّاب الدولة الحمادية ، بل وتولى رئآسة ديوان الإنشاء فيها حيث استكتبه الأمير “يحيى بن عبد العزيز” آخر الأمراء الحماديين الذي شهدت فترة حكمه سقوط الدولة النهائي سنة 547هـ على يد الموحدين بقيادة عبد المؤمن بن علي السياسي والعسكري والإداري المحنك الذي ما إن أتمَّ فتح بجاية عاصمة الحماديين سنة 547هـ حتى بادر بتسمية أبي القاسم رئيسا لديوان الإنشاء في دولة الخلافة الموحدية العظيمة – التي اتخذت من مدينة مراكش في الجنوب المغربي عاصمة لها – وهو ما يقف دليلا قاطعا على علو شأنه وذيوع صيته في الآفاق لأن خطة – وظيفة – الإنشاء في ذلك العصر من أهم الخطط، إذ يُشترط فيمن يتولاها التضَّلع في العلم، والقدرة على العطاء المتنوع وشجاعة القلب والتمرس بطبائع الناس والأحداث، وبعبارة أخرى يُشترط فيه أن يكون حكيما وقادرا على التدبير وتوجيه زمام الأمور بما يخدم مصالح وقوة الدولة ويدعم استقرارها وهيبتها وشرعية وجودها وأعمالها في نظر في الرعية، وأكثر ما يدل على خطورة وظيفة الإنشاء هذه أن حياة أكثر الأشخاص الذين تولوا هذا المنصب قد انتهت بالقتل نتيجة الظروف والملابسات التي تدفع عادة إلى مثل هذه النتيجة، وذلك ما يفسر تشدد الخلفاء والأمراء وتقصِّيهم في البحث عن الشخصية المناسبة لتولي مسؤولية رئآسة ديوان الإنشاء، وذلك مايُفسر كذلك إحجام الكثيرين وترددهم في قبول هذا المنصب عندما يعرضه عليهم الخلفاء، واضطرار هؤلاء إلى استخدام الضغط والتعنيف الشديد أحيانا لتولية من يرونه كفيا مقتدرا.
ولكن هل سبق وأن تعرف الرجلان إلى بعضهما بعضا أم لا ؟ نحن لا نملك جوابا حاسما على هذه السؤال لذا يبقى التساؤل مطروحا، هل سبق وأن اتصل أو التقى أبو القاسم بعبد المؤمن قبل فتح بجاية ؟ وإذا كان الأمر كذلك فمتى وأين وقع مثل هذا الاتصال أو اللقاء ؟ وسيكون من المهم والمفيد لو نستطيع أن نقف على محور اللقاء أو موضوع الاتصال، وعلى أية حال يرجِّح المؤرخ الجزائري ” المهدي البوعبدلي” أن يكون هناك نوع من الاتصال المسبق قد وقع بين الرجلين قبل فتح الموحدين لبجاية لأنه لا يُعقل أن يقوم أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بتسمية رجل لا يعرفه – وإن كان مشهورا بالعلم وقوة الشخصية – في منصب رئيس ديوان الإنشاء لدولته الناشئة وسط الحروب والزوابع والتحديات الداخلية والخارجية دون سابق معرفة واطمئنان لشخصية الرجل وكفايته وولائه للدولة الجديدة.
ومها يكن، فقد نهض أبو القاسم بمقتضيات عمله جادا صادقا ونجح نجاحا باهرا فيما أُنتدب إليه وليس أدل على ذلك من بقائه ملازما لعبد المؤمن طيلة إحدى عشرة سنة، وعند وفاة عبد المؤمن سنة 558هـ ظلَّ أبو القاسم في منصبه لدى أبي يوسف يعقوب الذي خلف والده عبد المؤمن في عرش الخلافة الموحدية لغاية وفاته.
وتخبرنا بعض المصادر التاريخية أن أبا يوسف يعقوب تأثر تأثرا بالغا لوفاته وواجه صعوبة كبيرة في إيجاد خلف له مما يَشي بالفراغ الكبير الذي تركه من بعده، وحتى عندما اهتدى إلى الرجل الذي يمكنه أن يحل مكانه لم يجد أحسن من تلميذه ” أبي محشرة ” الذي كان من أبناء بجاية ونال هو الآخر حظوة ومكانة سامقة لدى الموحدين ككاتب ورئيس لديوان الإنشاء نتيجة ما أشتهر به هو أيضا من تضلع وتمكن من مختلف فنون الأدب وفروع العلوم بصورة دفعت بالعديد من معاصريه إلى الإشادة به وبفضل أستاذه عبد الرحمن القالمي عليه، وهكذا كانت عبقرية التلميذ امتدادا لعبقرية الأستاذ، وكانت مساهمة الرجلين في السياسة والفكر خير شاهد على القوة والازدهار الذي حققه المغرب العربي الكبير في ظل الخلافة الموحدية صانعة العصر الذهبي في المغرب الإسلامي بل في التاريخ المغاربي كله.
أما عن آثار أبي القاسم عبد الرحمن القالمي فالمعروف منها لحد الآن مئات من الرسائل التي خلَّد فيها انتصارات الموحدين ومنجزاتهم الحضارية الرائدة في السلم والحرب إذ كان يحضر المعارك التي كان يخوضها أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ضد أعداء الدولة في الداخل والخارج ، ونظرة سريعة على بعض رسائله تلك، تساعدنا على تكوين فكرة واضحة عن أسلوبه في الكتابة التي تميَّز بالدقة والجزالة وثراء المضمون، وتسمح لنا بصورة أخص بإدراج هذا الجانب من كتاباته ضمن تراثنا الأدبي المتعلق بأدب الحرب، ومن المؤكد أن آثاره أوسع من ذلك بكثير، وإلا لما وصفه تلميذه “أبي محشرة ” بقوله : ” إن الكتابة بدأت بعبد الحميد، وانتهت مع عبد الرحمن القالمي وابن العميد ” ولما وصفه صاحب كتاب ” رايات المبرزين ” بــ” الرئيس الكاتب “.
وفي انتظار المزيد من الكشف عن جوانب هذه الشخصية الفذة لا يسع المرء إلا أن يلاحظ في إكبار وإعجاب أن ارتقاء أبي القاسم إلى تلك الوظيفة الخطيرة على مستوى دولة الخلافة الموحدية – التي ضمت تحت لوائها المغرب العربي كله والأندلس وأمصارا أخرى– وفي عهد تميَّز بكثرة العلماء والنابغين دليل على عبقريته ونبوغه وتمكنه من فرض شخصيته على مستوى المغرب كله، لذلك – وهذه نتيجة من الأهمية بمكان- فالبعد المغاربي بعد أساسي في شخصيته فقد كان مناصرا للموحدين وهم حملة لواء الوحدة ، ضد أنصار التجزئة السياسية والفكرية، فهو بحق رمز من رموز الوحدة السياسية والثقافية في المغرب العربي الكبير، ذلك هو الكاتب الرئيس أبو القاسم عبد الرحمن القالمي رجل العلم والسياسة والتاريخ. فمتى نرى فيلما سينمائيا يَرفع ستار العصور عن هذا الرجل العظيم، ومتى نرى اسمه يُعطى لإحدى المؤسسات الثقافية المحلية أو الوطنية ؟