كثيرةٌ هي الأفكار التي تراود الإسرائيليين، والمشاريع التي يحلمون بها في منطقة الشرق الأوسط، الذي ظن البعض أن بذرته الأولى التي زرعتها وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كونداليزا رايس قد ماتت، وأن الشرق الأوسط الجديد الذي دعت إلى تشكيله قد انتهى، ولم يعد من الممكن إعادة بعث الحياة فيه، أو التنظير له والعمل على إنشائه، وأن المخططين الكبار وقوى الاستعمار التي تغيرت أسماؤهم وتبدلت أدوارهم قد يأسوا من مشروعهم، وصرفوا النظر عنه، وسلموا بموته قبل أن يولد.
أرادت كونداليزا رايس في مشروعها “الشرق الأوسط الجديد” أن تحمي الكيان الصهيوني، وأن تجعل منه دولةً طبيعيةً في المنطقة، تربطها علاقاتٌ طيبةٌ بجيرانها العرب، وتتبادل وإياهم الاعتراف والتمثيل الدبلوماسي، وتنشأ بينهم علاقاتُ تعاونٍ وحسن جوار، على قاعدة الاحترام المتبادل واتفاقيات عدم الاعتداء، وتتعاون معهم في خلق مجتمعٍ مزدهرٍ اقتصادياً، يتمتع سكانه بالرفاه والرخاء، بعيداً عن الحروب والقتل والتدمير والخراب.
بالمقابل كان على العرب والفلسطينيين أن ينسوا جريمة احتلال أرضهم، وطرد شعبهم، وخسارة وطنهم، وضياع مستقبل أجيالهم، وتتعاون الدول العربية مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي، في حل مشكلة السكان الفلسطينيين في الداخل، واللاجئين في الخارج، بما يشطب عنهم صفة اللجوء، ويمنحهم جنسية جديدة وحق المواطنة في البلاد التي يقيمون فيها.
ربما لم تكن الظروف الإقليمية في تلك المرحلة مناسبة بما يكفي لخلق شرق أوسطٍ جديدٍ، وهو نفسه الشرق الأوسط الذي دعا إليه رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق شيمعون بيريس في كتابه “الشرق الأوسط الجديد”، الذي بشر به قبل كونداليزا رايس، ودعا فيه إلى إعادة تشكيل المنطقة على أسس اقتصادية، إلا أن هذا الحلم الإسرائيلي الكبير لم يتحقق في حياته، ولم تتوفر له أسباب النجاح بعد ذلك، حتى في ظل سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كان يخطط لنقلة هائلة في مكانة الكيان الصهيوني وعلاقاته مع الدول العربية.
يرى الإسرائيليون أن الظروف الإقليمية في هذه المرحلة، خاصةً بعد توقيع اتفاقية أبراهام المتعددة الأطراف، قد أصبحت مواتية جداً لخلق شرق أوسط جديد، يضم غالبية دول المنطقة العربية، ويكون فيه الكيان الصهيوني شريكاً أساسياً وعضواً أصيلاً، يشارك بفاعلية، ويساهم بقوة، ويحضر علناً ويكشف النقاب عن ملفاته السرية، ويلتقي القادة والمسؤولين العرب تحت الأضواء وفي وضح النهار، ويرتبط مع الحكومات العربية باتفاقياتٍ سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية وسياحية وعلمية ودينية وغير ذلك.
لن يكتفي الإسرائيليون هذه المرة باتفاقيات سلامٍ باردة مع الدول العربية، يتم فيها الاعتراف بكيانهم، وتقتصر فيها العلاقات مع حكوماتهم، ولو تخللها فتحُ سفاراتٍ متبادلةٍ، ورفرفةُ أعلامٍ وعزفُ نشيدٍ، وتسميةُ ممثلين وإرسالُ مبعوثين، بل يتطلعون بثقةٍ وأملٍ إلى إمكانية إنشاء سوق شرق أوسطية مشتركة، يمثل كيانهم فيه القلب والمركز، وتجد فيه منتجاته طريقها إلى كل الأسواق العربية بسهولةٍ وبلا منافسةٍ، بعد أن تسقط كل قوانين المقاطعة ودعوات الحصار القديمة.
ويتطلعون إلى بناء سكة حديد تربط كيانهم بدول المنطقة، وشق شبكة كبيرة من الطرق الدولية الحديثة المُخَدَّمَة، العابرة للدول والمتجاوزة للحدود، التي تنقل الأفراد وتنظم الرحلات المشتركة، وتقرب المسافات وتسهل الحركة والانتقال، وتفتح الحدود المادية وتنسف الأوهام النفسية، آملين أن تقضي شبكة السكك والطرق البينية على بذور الكراهية القديمة، ومشاعر العداء التي كانت مستعصية، وتخلق أجيالاً جديدة ترى في الكيان الصهيوني دولةً شرعيةً طبيعيةً، من حقها العيش بأمان، والاستمتاع بالاستقرار والسلام، بعيداً عن أي تهديدٍ أو توترٍ.
أما الملاحة الجوية وتسيير الرحلات المدنية بين الكيان الصهيوني والدول العربية، فإن العمل عليها جارٍ على قدمٍ وساقٍ، حيث يتطلع الكيان الصهيوني إلى التخلص من المسارات الجوية الالتفافية الطويلة المكلفة، واستبدالها بمساراتٍ اقتصاديةٍ جديدةٍ فوق الأجواء الإقليمية العربية، يوفر من خلالها الجهد والكلفة والوقت، ويخلق علاقاتٍ طبيعيةٍ مع دول المنطقة، ويفرض رحلاتٍ مباشرةٍ من مطاراته إلى المطارات العربية وبالعكس، ولعل جولة الرئيس الأمريكي جو بادين القادمة ستدشن مجموعة من المسارات الجوية المباشرة بين الكيان وبعض العواصم العربية.
كما قد يستخرج الإسرائيليون خرائط شق قناةٍ بين البحرين الميت والأحمر، وهو المشروع المعدة خرائطه والمتفقة عليه أطرافه، والمؤجل منذ سنواتٍ تنفيذه، إلى جانب مشروع شق قناةٍ جديدةٍ، موازية لقناة السويس، تربط بين مينائي إيلات وعسقلان، وتكون لديها قدرة استيعابية كبيرة، تشارك في تنشيط حركة الملاحة الدولية وتنعش الاقتصاد العالمي، بما يعود بالنفع المادي الكبير عليهم.
إنها أحلام مؤسس الكيان الصهيوني ورئيس حكومتها الأول دافيد بن غوريون، وطموحات ثعلبه شيمعون بيرز وغيرهم، أن يشرعوا كيانهم، وينسجموا مع جوارهم، ويصنعوا علاقاتٍ طبيعية مع أهل المنطقة وسكان البلاد المحيطة، دون أن تكون القضية الفلسطينية عقبةً في طريقهم، أو منغصةً لهم ومحبطةً لآمالهم، فهل أضحت أحلامهم حقيقةً وأصبحت أمام عيونهم قريبةً.
أم أن الفلسطينيين سيصفعونهم على وجوههم، وسيبددون أحلامهم، وسيصحونهم من سكرتهم، وسيعيدونهم إلى مربعهم الأول، إذ لا سلام على أنقاض وطنهم، ولا استقرار بدون حريتهم، ولا شرعية لعدوهم على أرضهم، ولا تفكيك لقضيتهم، ولا شطب لهويتهم، ولا تنازل عن حقوقهم، ولا تفريط في عودتهم، ولا من ينوب عنهم غيرهم، أو يتحدث باسمهم سواهم، فهم أصحاب الأرض وأهل الحق.
moustafa.leddawi@gmail.com