على مدى التاريخ الطويل بينهما سجلت العلاقات التركية – الروسية خطوطاً بيانية صاخبة لم تعرف ديمومة الإستقرار أو الثبات , وتنوعت ما بين العداء والصدام والحروب والنزاعات والتوترات , إلى الهدوء وحسن الجوار والتعاون السياسي والعسكري والإقتصادي , لكن الثابت الوحيد لجوهر تلك العلاقات هو الصراع على النفوذ ، المبني أساساً على صراعاتٍ جيو– سياسية , تاريخية , ثقافية , دينية … وضعت كل منهما على طرفي نقيض , من حلف الناتو إلى حلف وارسو , وتعددت القضايا الخلافية بينهما من القضايا الثنائية إلى الإقليمية والدولية… لكن ذلك لم يحرم العلاقات بينهما من بعض الهدوء والإستقرار المؤقتين تحت عناوين التقاء وتقاطع المصالح , الذي ساهم بتأسيس علاقاتٍ استراتيجية قادتهما نحو تقارب سياسي أسس بدوره لعلاقات إقتصادية وشراكة تجارية مميزة , احتل فيها قطاع الطاقة وأنابيب نقلها مركز الصدارة لكليهما , إن كان على مستوى التقارب أو الخلاف حولها والتباعد.
وإذا كان البعض يرى أن علاقات الجانبين اليوم , تمر بمرحلة صعبة ودقيقة , نتيجة إحتدام الصراع الدولي , وصعوبة التنبؤ بملامحه القادمة , في وقت تخشى فيه موسكو وأنقرة كغالبية دول العالم , من فواتير الحسابات الخاطئة , الأمر الذي يكسب تحركات وتصرفات الجميع بالحدة والحذر الممزوج بالرغبة بتفادي الهزيمة , في مناخٍ دولي يتجه نحو الصدام والتصعيد أكثر مما يتجه نحو إنتاج الحلول والسلام .
ومن خلال تشعب وتعقد الملفات ما بين موسكو وأنقرة وسط الصراع الدولي الملتهب , بات السعي لتسجيل النقاط وتجميعها لا يخضع لحدود ساحات الإشتباك فقط , وبدا كل منهما مهتماً بتوزيع إنتصاراته بحسب ترتيب قضاياه وأولوياته , واستعمال باقي الملفات للضغط والمناورة والمقايضة.
وعليه .. تستمر العلاقات الروسية – التركية بصخبها وتأرجحها على حبال التوتر والإحتكاك الخشن والمنافسة , ويواصل الرئيس التركي التصرف بحدة وتحدي تجاه روسيا والمصالح الروسية , وبالأمس من خلال كلمة تركيا في الدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة ، اعتبر إردوغان أنه من الضروري تكرار الإشارة إلى أن تركيا لا تعترف بـ “الضم غير القانوني لشبه جزيرة القرم” , في الوقت الذي يدرك فيه أن روسيا لا تعترف بسيادة تركيا على شمال قبرص.
مما لا شك فيه أن الإنتصارات التي حققتها الدولة السورية وحلفائها الروس والإيرانيون وحزب الله واّخرون , أجبر أنقرة على التخلي عن أولوية حلم الفوز بتقسيم سوريا والفوز بسرقة وقضم مساحات واسعة من أراضيها , في الوقت الذي أظهرت فيه موسكو ثباتاً في أولوية دعم الدولة السورية بمحاربة الإرهاب وبالحفاظ على وحدة أراضيها , وبإنهاء الحرب وبإعادة إعمارها , واستعادة استقرارها وأمنها ودورها في المنطقة.
لكن المواجهات الروسية – التركية الأهم تبدو في سورية , مع إصرار دمشق لتحرير كامل أراضيها وطرد قوات الإحتلال التركي وتنظيماته الإرهابية من إدلب وكافة مناطق الشمال السوري , بالإضافة إلى إصرار موسكو على تنفيذ بنود الإتفاقات الموقعة مع الجانب التركي والتي لم يلتزم بها منذ العام 2018 … وبحسب وسائل الإعلام فإن تركيا تنقل أربعة آلاف جندي تركي وثلاثمائة وحدة من المعدات العسكرية إلى محافظة إدلب السورية , في تحدٍ مباشر لدمشق وموسكو , وبما يؤكد تمسكه بإحتلاله وإرهابييه وبإستمرار زعزعة الإستقرار في سورية.
من المؤكد أن الرئيس التركي يراهن على الدعم الأمريكي والأطلسي والإعتماد على المرتزقة والإرهابيين , في الوقت الذي تملك فيه دمشق من الإصرار والعزيمة والقوة والمقدرة ما يكفي لإلحاق هزيمةٍ تاريخية بقوات الإحتلال التركي ومرتزقته على الأراضي السورية , وبأن محافظة إدلب ستعود عاجلاً أم اّجلاً إلى كنف الدولة , كذلك موسكو التي ضاقت ذرعاً بأكاذيب إردوغان ومرواغته في سوريا , وسط استعداد الجيش العربي السوري وبدعم ومشاركة القوات الجوية الروسية للدخول إلى إدلب , وبإستعادة السيطرة على الطريق الدولي المعروف بـ M4.
لا يمكن لإردوغان تحمّل المواجهة العسكرية المباشرة مع دمشق وموسكو , ولا تعدو تعزيزاته العسكرية سوى مناورات للتهويل ولرفع فرص الحوار مع موسكو والحصول على فرص ومكاسب إضافية , إذ لا يمكن لإردوغان تجاهل الهزائم التركية التاريخية أمام القوات الروسية , في حين لا تزال دمشق ترفض الحوار مع دولة الإحتلال التركي رغم كل ما يسوقه الإعلام المضلل , وتصر على خروجه من الأراضي السورية , في الوقت الذي تبدو مراهناته على الحلف الأطلسي مثيرة للشفقة , وسط اللحظات الصعبة التي يعيشها التحالف وإحتمالية تحول شروخه الداخلية إلى صدمات حقيقية تطيح بعقده , ناهيك عن المادة الخامسة من ميثاقه والتي تنص على صد العدوان عن دول التحالف , وليس بدعم الجيش التركي المعتدي على الأراضي السورية.
الوسومميشيل كلاغاصي
شاهد أيضاً
72 ساعة لولادة الشيطان الجديد.. أمريكا بلا مساحيق التجميل…بقلم م. ميشال كلاغاصي
ساعات قليلة تفصل العالم عن متابعة الحدث الكبير, ألا وهو الإنتخابات الرئاسية الأمريكية, و”العرس الديمقراطي” …