في الواقع لم ينشغل اليسار الفلسطيني في تحديد هويته الأيديولوجية والفكرية خارج إعلانه وتبنيه للفكر الماركسي واعتباره الحزب الشيوعي للدولة البلشفية مرجعيته الأولى والحصرية في شؤونه التنظيمية والفكرية، إلا بعد انهيار هذه المرجعية دوليا, لكن وقع هذا الانهيار كان بطيئا على اليسار الفلسطيني بحكم غلبة المهام السياسية والوطنية على أجندته النضالية وبحكم أن مؤسسات المنظمة تموضعت في الشتات حيث استندت تنظيمات اليسار كباقي التنظيمات السياسية الاخرى بالأساس على المخيمات و التجمعات الفلسطينية كحاضنة وقاعدة اجتماعية, وعلى التنظيمات العسكرية وشبه العسكرية خلال فترة وجودها في لبنان والأردن سابقا. وبالتالي كان الكفاح المسلح الشكل الرئيس، وربما الوحيد، للنضال، خارج فلسطين، اما في الضفة الغربية والقطاع, أخذ أشكالا متنوعة في مقاومة الاحتلال الاستيطاني، في ظل ميزان قوى عسكري واقتصادي مختل لصالح”إسرائيل”، وقدمت المرحلة الأولية من الانتفاضة الأولى نموذجا خلاقا في تحويل ميزان القوى لصالح الحركة الوطنية عبر تنظيم المقاومة والصمود عبر اللجان الشعبية والمختصة وعبر توفير قيادة جماعية و بحضور مميز لأحزاب اليسار الفلسطيني لتوجيه الانتفاضة، وتمييز نضال الفلسطينيين في أراضي48 كنضال أقلية قومية تقبع تحت حكم نظام فصل و تمييز عنصريين. بتعبير آخر, لم يتدرب اليسار الفلسطيني على قيادة النضال الاجتماعي والمطلبي والديمقراطي، ولذا بقي انتمائه الفكري إلى حد بعيد نظريا لم تصقله المواجهات مع القضايا الاجتماعية والمعيشية ,كما أن اعتماد اليسار الفلسطيني مرجعيته الفكرية والتنظيمية “من الخارج”، افقده القدرة في مسؤولية توطين الفكرالماركسي ضمن خصوصيات الحالة الفلسطينية، حيث تشتت الشعب الفلسطيني الجغرافي والمجتمعي, وغياب أساس التشكيلة الاقتصادية -الاجتماعية الموحدة له، وغياب الدولة الوطنية المركزية, وتأثيرات هذا الغياب على التكوين الطبقي والثقافي للشعب الفلسطيني، مضافا إليه التداخل العضوي للتجمعات الفلسطينية مع المجتمعات العربية والدول المضيفة.
لذلك,فأن الاعتقاد بان هناك قوى سياسية خارج نطاق “الأزمات”، هذا بحد ذاته تعبيرعن أزمة معرفية ومنهجية حقيقية على صعيد وعيها لذاتها ودورها,
ولهذا, سوف أنطلق في هذه القراءة والمراجعة النقدية لدور اليسار الفلسطيني ليس من باب تسجيل النقد لمجرد النقد، بل من أرضية الاحترام والتقدير العميق والوفاء للتجربة النضالية الطويلة له، ولمحطاته الوطنية و النضالية البارزة في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية, في بلورة أسس البرنامج الكفاحي لمشروعها الوطني وتكريس مكتسبات وانجازات الحراك الفلسطيني عموما,ولكن الدافع الاساس لهذه القراءة النقدية, هو أن تتجاوز قوى اليسار الفلسطيني معضلاتها الاشكالية لكي تلعب دورها التاريخي المنوط بها و بما يليق بتضحياتها وأهدافها النبيلة, وفقط انطلاقا من الألم الذي يعتصر قلوبنا لما الت له قضيتنا الوطنية وحالتنا الفلسطينية, بل وأكثر من ذلك إنها تأتي أيضا في سياق الوفاء حتى لتجربتي الشخصية، حيث انخرطنا في هذه التجربة النضالية المشرفة والتي اعتز بها منذ نعومة اظفارنا, وفي مختلف ميادينها وتجلياتها, حيث تكونت في مسيرتها هويتنا المعرفية والثقافية والفكرية.
كما يجدر التنويه إلى أن هذه القراءة ما هي إلا مجرد محاولة استفزازية للفكر السياسي والبرنامجي الاستنباطي لأليات العمل وروافعه.
ان المعضلات الاشكالية لليسار الفلسطيني تعتبرمسألة وطنية بامتياز,لان فعاليته الوطنية والاجتماعية تؤثر على مجموع أداء الحركة الوطنية الفلسطينية، كما تؤشر إلى اختلال عميق في التوازن الذي يجب أن يحكم واقع تلك الحركة بحيث لا تصبح قضية الشعب الفلسطيني بكل أبعادها ودلالاتها تحت رحمة هيمنة قوى سياسية معينة, في الوقت الذي يعتبر- أي اليسار الفلسطيني – القوة الوطنية والاجتماعية التي شكلت في تاريخ النضال الوطني المعاصر, الرافعة الوطنية والاجتماعية والثقافية المحورية لإنجازاته ومكتسباته الوطنية الرئيسية, كما أنها قدمت ولا زالت تضحيات هائلة في مسيرة كفاحه الوطنية.
في هذا السياق, فإن المراجعة النقدية لدور اليسار الفلسطيني وقواه السياسية ليس ترفا فكريا وحديثا سفسطائيا يتناول اطراف اسقاطاته وحذلقته الكلامية في احد مقاهي او نوادي الترف الفكري, بل هو ضرورة وطنية بامتياز, تمليها التحديات والصعوبات والمخاطر التي تواجه المشروع الوطني الفلسطيني برمته, لأن الدور السياسي والاجتماعي لليسار الفلسطيني تمليه وتفرضه مكونات البنى والقوى الاجتماعية الطبقية للشعب الفلسطيني ,ولأن هذا التنوع الاجتماعي الفلسطيني، يستدعي تعبيرات سياسية وفكرية تحمل مفرزات هذا التنوع و تجلياته الفكرية والموضوعية.
يشهد الواقع الفلسطيني أزمة عميقة على مختلف الأصعدة؛ يمكن وصفها بالانحباس الاستراتيجي لحراكه الوطني وغياب استراتيجيته الكفاحية الخاصة وعدم توفر بدائله الوطنية, دون أن يعني ذلك غياب هباته الوطنية على شكل انفجارات انتفاضيه حينا, ومبادرات مقاومة شعبية ومجتمعية مدنية حينا اخرا, تأتي في سياق الحالة الطبيعية التي تنتجها معادلة المواجهة بين الشعب الفلسطيني وقمع الاحتلال الإسرائيلي, وتتجلى المعضلة الاستراتيجية لحركة التحرر الوطني الفلسطيني عموما وقوى اليسار الفلسطيني على وجه الخصوص في عجزها عن توفير شروط التحرر والاستقلال لإنهاء الاحتلال الكولونيالي واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية, ليس هذا فحسب, بل صيرورة التناقضات الداخلية لامتيازات السلطة تحت الاحتلال نحو مشهد غير مسبوق من الانقسام الداخلي والوهن في الأداء السياسي والبرنامجي التنموي ,هذا من جانب, ووهن فعالية قوى اليسار الفلسطيني وتشرذمها من جانب اخر, فيما يواصل الاحتلال الإسرائيلي سياساته ومشاريعه الاستيطانية والتهويدية والضم الزاحف بمزيد من الاجراءات وفرض الوقائع على الارض التي تجعل منه امرا واقعا, بعد اخفاق استراتيجية التفاوض وفشل ما يسمى “عملية السلام” في اطار أوسلو واستحقاقاته المدمرة على المشروع الوطني الفلسطيني وطنيا واقتصاديا واجتماعيا, فالسياسات الاقتصادية التي تنتهجها السلطة و الحكومة الفلسطينية وما تنطوي عليه من تهميش مقومات الاقتصاد الوطني الفلسطيني المستقل, والاعتماد على أوسلو وملحقاته الاقتصادية والتمويل الخارجي بكل اشتراطاته المأساوية من التبعية والخضوع, والتي لا يقف تأثيرها على الجانب الاقتصادي المعيشي والاجتماعي فقط, بل يمتد ليتحول إلى أداة ابتزاز سياسي للحالة الفلسطينية ومشروعها الوطني .
هذا الواقع بأبعاده المختلفة, يشير إلى أزمة فكر وعمل فلسطينية عامة، ويضع قوى اليسار الفلسطيني أمام استحقاقات فكرية و برنامجية أكثرعمقا, بحيث توضع علامة سؤال جدية على مشروع اليسار الفلسطيني السياسي والاجتماعي والاقتصادي والوطني بشكل عام, وقدرة ذلك المشروع على الموائمة بين قدرات الشعب الفلسطيني الكفاحية ومتطلباته الحياتية والاجتماعية والوطنية, بما يوفر التوازن والتناغم بين مهام التحرر الوطني وانهاء الاحتلال وتحقيق طموحات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال, ومهام البناء الاجتماعي وتلبية حقوق واحتياجات المجتمع الفلسطيني الاقتصادية والاجتماعية .
موضوعياً , هناك العديد من المحفزات لكي يضطلع اليسار الفلسطيني بدور فاعل ومؤثر في الحراك الفلسطيني : سياسات الاحتلال الإسرائيلي القمعية والعنصرية والاستيطانية والتهويدية ضد الشعب الفلسطيني والتي تستهدف تصفية حقوقه الوطنية, وحالة الانقسام الفلسطيني وما يرافقها من عملية استقطاب سياسيي واجتماعي بين ” طرفي الانقسام”، وما ترتب عليه من تأزيم الحالة الفلسطينية سياسيا واجتماعيا وجغرافيا، وما رافقه من تعطيل مؤسسات الشعب الفلسطيني الوطنية والتمثيلية والجماهيرية والشعبية, والوضع الاقتصادي المتفاقم الذي يعاني منه المجتمع الفلسطيني بكل شرائحه الاجتماعية وخاصة قطاع الشباب, وما يترتب على ذلك من نتائج اجتماعية كارثية, اضف الى ذلك, ما يجري في المنطقة وعلى امتداد العالم، يشير إلى نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، منظومة عالمية وإقليمية يتشكلان من جديد، ويمكن جدًا أن يكون للفلسطينيين حضورهم القوي والمميز إذا استطاعوا توفير مستلزمات الحضور المطلوبة.
لكن وبالرغم من هذه الحقائق الموضوعية إلا أن الواقع يشير إلى إشكالية القراءة لليسار الفلسطيني للظواهر الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الفلسطيني,رغم كل المحاولات التي تستهدف طرح بعض التصورات والأفكار لفهم ومواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية البنيوية، والتي سرعان ما تسقط في الخطاب المجرد والعموميات, وكأن المشكلة يمكن تجاوزها بالخطاب, ومثالنا على ذلك ,عدم التمييز بين دور ومهمة اللجان الاجتماعية في تقديمها للخدمات الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني رغم أهميتها القصوى, ووظيفة هذه اللجان الاجتماعية ومهمتها الأساسية في النضال الاجتماعي – الطبقي داخل المجتمع الفلسطيني.
هذه الواقع يعكس اشكاليات فكرية – فلسفية واجتماعية على مستوى تعامل اليسار الفلسطيني مع المهام الوطنية والاجتماعية، لأن تشكل الظواهر، بما في ذلك نشوء الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ,تأتي في سياقاتها الموضوعية, وبالتالي فإن مواجهتها تستدعي بالضرورة العمل من أجل تأسيس سياقات واليات عمل وبنى بديلة.
وحماية “المشروع الوطني” والتأقلم مع معطيات “المتغيرات الدولية والإقليمية”؟!! الا إذا كان ذلك، تبريرا لإشكاليات بنيوية فكرية وانهيار في التفكير السياسي لهذه القوى التي تدعي اليسارية, وبالاتفاق مع رأي (لينين): فإنّ المثقفين “هم أكثرُ الناس قدرةً على الخيانة لأنّهم أكثرُهم قدرةً على تبريرها.” لأنهم يهرولون نحو الامتيازات والألقاب على حساب مواقفهم المبدئيّة. ,لهذا نجد من الفصائل الفلسطينية والتي تدعي اليسارية منها لحقت بركب السلطة وامتيازاتها الوظيفية, من دون أنْ تمتلك حتى مجرّدَ القدرة على التمايز اللفظيّ عن نهج السلطة وفكرها, فاضحت ديكورا لا اكثر ولا اقل, لمركز القرار الفلسطيني ومطبخه السياسي, ودعموا تراجعَهم الموقعي والفكري بسلسلةٍ من التبريرات الإيديولوجيّة لتكون بمثابة “مراجعة فكريّة ضروريّة”
واقع الحال, يكشف أن التصدي لتلك الأزمات ( البنيوية و البرنامجية) يجري في الغالب بصورة ارتجالية واحيانا “عاطفية”، وفق استراتيجية ردة الفعل على مفاهيم وسياسات وحراك الاخر, وليس وفق ما يتطلبه بناء الفعل وروافعه استراتيجيا، وكأن التناقضات السياسية والاجتماعية هي مجرد سوء فهم وليست تعبيرا عن تناقضات لواجهات سياسية تمثل مصالح فئات وشرائح اجتماعية ولا يمكن التنازل عنها.
بل اختلافا في الطبيعة السياسية العضوية .,لذلك, يبدو ان اداء اليسار الفلسطيني في مرحلته الراهنة لا يتناسب مع رسالته التاريخية وتضحياته ودوره الوطني الجذري ومصداقيته الثورية في تعامله مع الحالة الفلسطينية السائدة, هذه المصداقية لا تتحقق باستراتيجية النقد والمعارضة الخطابية فقط ,بل تتحقق في سعيها الى تأسيس البدائل الوطنية والاجتماعية واليات عملها ,أي ان تتصدر قيادة المرحلة سياسيا واجتماعيا, فالاختلاف مع شريحة السلطة الفلسطينية ليس اختلافا في” الطباع”
واليساري لا يعني السياسي الذي يؤمن بالمزايا السحرية لأفكاره , بل في التزامه وتبنيه لمصالح الجماهير الشعبية في خلاصها الوطني والاجتماعي,
وفق اليات عمل مرحلية واستراتيجية , متقدما الصفوف برصيده الجماهيري الملتف حوله وعليه ان يدفع ” الثمن” المطلوب.
ان الرهان على التغيير في بنية الشريحة السائدة في السلطة الفلسطينية وسياساتها هو رهان نظري لا يمت بصلة لأية رؤية تحليلية علمية لصراع الطبقات الاجتماعية و مصالحها ,ذلك, يستدعي مغادرة اليسار الفلسطيني حالة “حرب المواقع الثابتة” الى “حرب الحركة والبناء”, وهذا لن يتحقق الا اذا امتلك اليسار الفلسطيني شروط” التجاوز الجدلي” للواقع القائم.
لتحاشي سلطة الجغرافيا وسلطة الاحتواء وسلطة الامتيازات الطبقية، لابد من السعي وراء التجديد الفلسطيني من “اللامركزية” في داخل الأطر الجماهيرية والنقابية والمؤسسات المدنية والاجتماعية, لان سلطة المركز الفلسطيني والتشتت الجغرافي سيحولان دون ذلك.,ان التجديد والتغيير في الحالة الفلسطينية ابعد ما يكون عن” المركزية الفلسطينية”
*كاتب و باحث سياسي