المهندس: ميشيل كلاغاصي |
تقول الحكاية أن الرئيس الأمريكي الأشقر يكره الرئيس الأمريكي الأسود ويعشق نسف عهده وفِعل ما لم يستطيع فعله، فوعد ناخبيه وهو مرشحا ًوقال: “سأنسحب من سوريا”، واليوم وفى بوعده وهو رئيسا ً، وأكد بأنه لن يكون بعد اليوم شرطيا ً بلا مقابل، ولا بأس ببعض البزنس وبالحلابة والابتزاز والهدايا وبعض السرقة، فالرجل يجيد الصفقات ولا يجيد الحروب ولكم أن تتأكدوا من دولته العميقة…
إنسحابه أتى محسوبا ًومدروسا ًونتيجة ً لهزائم ميدانية وسياسية أمام بسالة وبطولة الجيش العربي السوري وقيادته الحكيمة ووفاء حلفائها… فجاء الإنسحاب كثير الغموض وقليل المفاجئة وشديد إمتعاض الحلفاء والشركاء والمتعاقدين المؤقتين محليا ً … لقد أنهى الرئيس ترامب سنوات الأرجحة الثلاث ما بين المشروعين التقسيميين الإنفصالي شرق الفرات والإخواني غربه … وفضل المشروع الإخواني ورمى العقد الميداني مع من حاربوا “داعش” نيابة ًعنه بداعي إنتهاء المدة والصلاحية بالقضاء –الوهمي-على “داعش”، ولأنه أمريكي فلم يشذ عن قاعدة التخلي عمن أطاعوه تعلقوا بوعوده ولن ينجو أيضا ًمن رأى فيه بلفور الجديد “سوريا كلها لك!”…
لقد ملّ الرئيس الأشقر من الحب الأزلي و”إسرائيل أولا ً” وحنّ إلى الحب الحقيقي و”أمريكا أولا ً”, فالإنتخابات النصفية إنتهت ولا بأس بالعودة إلى المؤيدين ولم الشمل وشد الأزر نحو الولاية الثانية, ولا بأس بهزيمةٍ أمريكية إضافية في سوريا هذه المرة ويبقى عزاؤه وبقاؤه في العراق ومراقبة الدول الأربعة من قواعده في أعالي جبل سنجار, ولسان حاله يقول لن أدعهم يفرحون سأعمم الفوضى والإرباك وسأجعله إنسحابا ً بنكهة الإنتقام والنكاية لمن انتصروا ولمن هًزموا, فإما أن أستعيد تركيا أو سأعلق مشنقة السلطان إنقلابا ً أو تقسيما ً…
وما بين نشوة “السلطان” وصدمة الإنفصاليين اللذين سارعوا لإرتكاب خطأهم التاريخي وللمرة الثانية بعد عفرين واعتبروا الإنسحاب “طعنة في الظهر” وطالبوا ترامب بالتراجع عنه، وبداوا بحثهم عن البدائل في عاصمة الهزائم الفرنسية… لكن سوريا لم تمنح الزمن وقتا ً إضافيا ً، وكان لها رأي اّخر….
فما إن أعلن الرئيس الأمريكي قراره، حتى أعلن الحلفاء والشركاء والأصدقاء والأعداء عن صدمتهم به, ومن شدة إرتباكهم وصفوه بالمفاجئ، مع أن الرجل أعلن نيته الإنسحاب مرات ومرات، خصوصا ًبعد لقائه الأخير بالرئيس الروسي في قمة هلنسكي، لكن المفاجئة كانت بالجدية وبالتوقيت وليس بقرار الانسحاب بحد ذاته.
وفيما يتحدث العالم عن ملئ الفراغ الذي سيحدثه إنسحاب القوات الأمريكية من سوريا، جاء لقاء العريمة والذي لم يكن سوى فرصة ً لتبادل الرسائل، فيما كان القرار السوري الجريء يصدر في دمشق ويتخذ الشكل العسكري وبتوقيع الرئيس بشار الأسد والذي قضى بتوجيه وحدات الجيش العربي السوري المرابطة في ريف حلب بالتحرك الفوري ودخول مدينة منبج …
وفيما كان الجيش السوري يدخل المدينة, كان الرئيس التركي يتحدث عن عدم إمكانية تحرك الجيش السوري نحو منبج وأنه يستخدم “الحرب النفسية”, في الوقت الذي تأكد فيه أعتى الإنفصاليين وأشد الرافضين منهم للرضوخ إلى تسليم مناطقهم للدولة السورية بأنه لا وقت للتلاعب أو التذاكي, فسارعوا إلى دمشق وحميميم , ليعلنوا من هناك بيانات دعوتهم الجيش للدخول وللدفاع عن الأراضي السورية, ويعلنون انتمائهم للأرض والشعب والدولة, فيما ارتبك إعلام أردوغان مع إرتباك القيادة التركية, وأصدروا عواجل تحرك فصائل “الخونة” الإرهابيين نحو منبج لصد الجيش السوري, ثم تراجع عنها وادعى إنسحابهم إلى محيط منبج وتجميعهم في جرابلس, أما التحالف الدولي بقيادة أمريكا فقد حلق فوق القوات السورية المتقدمة حفاظا ًعلى ماء وجهه ليظهر بمظهر العارف والمؤيد لهذا التحرك ….
لم يتأخر أردوغان بالخروج من الصدمة … بعدما وصلته الأخبار الميدانية, وأدرك أن الجيش السوري دخل منبج فعليا ً, وأن مشروعه التقسيمي ُأصيب بمقتل, وأدرك أن كلام ترامب “سوريا لك ” ما هو إلاّ تفويض أمريكي لإدارة الهزيمة في الشمال وليس لإدارة النصر, فعلى الرغم من جنون العظمة والعنجهية التي تعصف برأس الرجلين إلا ّ أن ترامب يعي تصرفاته أكثر ويعرف أنها مدعومة ًمن دولته العميقة, وما الإختلاف في الداخل الأمريكي إلاّ حول طريقة وسرعة تنفيذ الانسحاب, وبمراعاة مصالح الحلفاء والشركاء من عدمه, الأمر الذي دفع الوزير جيمس ماتيس للإستقالة بعد فشله بإقناع ترامب الذي لم يأبه بشركائه ولا بمصالحهم .
لم يكن على أردوغان سوى الصراخ، والإعتراض على زواجٍ تم ليلا ًودخول العريس إلى منبج، واعتبره خديعة ً روسية – إيرانية، فطار وزيره جاويش أوغلو إلى موسكو مصطحبا ً استخباراته ووزير دفاعه وعقدوا لقاءا ً مطولا ً مع الوزير لافروف وشويغو وقيادة الاستخبارات الروسية …. وانتهى اللقاء بمصافحاتٍ وإبتساماتٍ تؤكد توقيع صكوك الزواج السوري الشرعي في منبج، والإتفاق على خارطةٍ وتنسيقٍ يؤكد الإلتزام بمحاربة الإرهاب، واحترام سيادة ووحدة الأراضي السورية … لقاءا ً كان كافيا ً لتأجيل طلب الدولة التركية بعقد قمةٍ روسية – تركية عاجلة.
فيما أبرق الرئيس فلاديمير بوتين للرئيس بشار الأسد ليهنئه بشجاعته وببسالة الجيش العربي السوري، مؤكدا ً استمرار الدعم الروسي المطلق لدمشق في مسيرة حربها على الإرهاب … ومن اللافت أن يبرق الرئيس بوتين للتهنئة بنجاح خطوةٍ عسكرية في جغرافيا صغيرة بالمقارنة مع إنتصارات ومعارك أشد وأكبر حققها الجيش، الأمر الذي يؤكد استراتيجية التحرك ويثمن قيمته العسكرية والسياسية.
يبدو أنه من الأهمية بمكان قراءة البرقية في إطارٍ أبعد من التهنئة بالأعياد، وتتعداها إلى التهنئة بسيطرة الجيش السوري على نقطة استراتيجيةٍ هامة في جغرافيا الشمال وفي منبج تحديدا ً، والتي يبدو معها من الصعب وربما من المستحيل بعدها أن يستطيع أردوغان المضي قدما ً في مشروعه التقسيمي بالعسكرة والإحتلال وبقوة السلاح وبإستعمال الإرهابيين.
كذلك حملت تهنئة بوتين وتأكيده دعم موسكو لمحاربة الإرهاب الإشارة الواضحة نحو إدلب، فقد أحكم القيصر الروسي قبضته على عنق أردوغان بالتعاون مع الحليف الإيراني، وبعيدا ً عن الحضور الميداني للولايات المتحدة الأمريكية، وأن مسار أستانا سيسير كما خُطط له، وأن إتفاق خفض التصعيد في إدلب بكافة بنوده ومصالحاته سيكون عنوان نهاية الإرهاب في إدلب وفي سوريا.
بالتأكيد هذا نصرٌ كبير ويستحق التهنئة، والبُشرى للشعب السوري بأن الحرب إلى أفول وأنه لا مناص للعدو التركي من الانسحاب، بالتوازي مع السلوك الإيجابي المتوقع من الأحزاب الكردية وأجنحتها العسكرية، إنسجاما ً وتتويجا ً لمشاعر ورغبة أهلنا من أكراد سوريا الرافضين لكل ما يُلحق الضرر والأذى بوحدة وإستقلال سوريا …بالإضافة للسلوك الإيجابي – المستجد – للدول العربية وجامعتها، وتكريسا ً لإنتصار سوريا العظيم، فلا بد للعام الجديد أن يكون عام التسويات والمصالحات ونهاية حروب الإرهاب، والبدء الفوري من نقطة إنتهاء مهمة المبعوث ديمستورا في تشكيل اللجان الدستورية …
وقد يلجأ عثمانيو “العدالة والتنمية” إلى المماطلة بالإنسحاب واستهلاك الوقت بما يتناسب مع غطرسة وأوهام الرئيس أردوغان الذي يعتقد بأنه يحق له المشاركة في الحل الداخلي ويحق له التعويل على جمهورٍ سوري “يؤيده”، في تحقيق مكاسب على مستوى ضمان تدخله في صنع القرار السوري لسورية الجديدة! … لا بأس بالأحلام والأوهام ويحق لأردوغان أن يعيش في عالمٍ خاص به وأن يرتدي أبهى أثواب العري التي لا يراه سوى الحمقى أمثاله.