الإثنين , 23 ديسمبر 2024
أخبار عاجلة

إنقاذ الفرد والمجتمع من الفراغ الموحش

بقلم إبراهيم أبو عواد – كاتب من الأردن |

     وظيفة الفلسفة في المجتمع هي تحويلُ قُدُرات الفرد المحدودة إلى أفكار إبداعية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، وبناءُ طُموحات المجتمع على أساس عقلاني، بعيدًا عن الصُّراخ، وضجيج الشِّعارات، والحماسة الجَوفاء. والصوتُ العالي لا يُكوِّن فَرْدًا مُتصالحًا معَ ذاته وبيئته، ولا يبني مجتمعًا مُتماسكًا، وإنَّما يُؤَسِّس كيانات متناحرة تعشق رنين الكلمات المُخادِعة، ولا تعرف حقيقتها. وهذه الكيانات تَقوم على أرض الواقع بفِعْل الإسناد الخارجي، ولَيس بفِعل المنطق الذاتي. والأمور غير المنطقية لا تتكرَّس في المجتمع كواقع ملموس إلا بفِعْل سياسة الأمر الواقع المعتمدة على الترهيب والتخويف والتَّلويح بالعصا، وهذا سبب انفصال اللسان عن القلب، أي إنَّ الفرد يَقول شيئًا، ويتبنَّاه، ويُدافع عنه، وهو لا يُؤْمِن به في قَرارة نَفْسه. وسبب قِيامه بهذه العملية هو شُعوره بالرُّعب مِن المجتمع، وخَوفه مِن العُقوبة في حال تعبيره عن أفكاره بحُرِّية. وهذا يعني أن الفرد ضحَّى بالسلام الداخلي والتوازن الروحي والمنظومة الأخلاقية مِن أجل حماية حياته، والحِفاظ على مُكتسباته المعنوية والمادية.وكُل كلمة لها ثمن، والفرد غَير مُستعد لدفع هذا الثمن، وكُل موقف له ضريبة، والمجتمع غَير مُستعد لتحمُّل هذه الضريبة. وفي كُل المجتمعات الأبوية المُنغلقة، تكون حُرِّيةُ التعبير جريمةً لا تمرُّ دُون عِقاب.

     عِندما يُظهِر الفَرْدُ خِلاف ما يُبطِن، فهذا يعني أن هناك شَرْخًا عميقًا بين الفرد والمجتمع، كما يعني أن المجتمع بكل مؤسساته يَضغط على الفرد لِسَلْب صوته الخاص، ومَنعه مِن التعبير عن أفكاره بحُرِّية، وهذه الخُطوة الأُولَى لتدجين الفرد، وإدخاله إلى الحظيرة، وتحويل المجتمع إلى قطيع يُساق إلى حافة الهاوية. وسياسةُ حافة الهاوية التي تُكرِّسها السُّلطة الأبوية في المجتمع المُحَاصَر، هي منهجية شديدة الخُطورة، لأنها تُحوِّل الفَردَ مِن كيان إنساني جوهري قائم بذاته، إلى شيء هامشي عَرَضي في مَوضِع العَرْض والطَّلَب، وتُحوِّل الأنساقَ الاجتماعية إلى سِلَع في أيدي أصحاب السُّلطة القادرين على الدَّفْع، وَمن امتلكَ القُدرة على الدَّفْع، امتلكَ القُدرة على الكلام. والجديرُ بالذِّكر أن سياسة حافة الهاوية تُقَدِّم صُورةً خادعة عن المجتمع، فيظهر مَجتمع القطيع للناظر إلَيه مِن بَعيد مُجتمعًا مُنظَّمًا متماسكًا ذا مَسار واحد، وهدف مصيري مُشترك. وفي حقيقة الأمر، إنَّهُ مجتمع مُفكَّك مِن الداخل، وأنساقه الاجتماعية تضمحل تدريجيًّا، وهذا الانتحارُ الاجتماعي التدريجي، يُعزِّز ثقافة التَّرَبُّص والانقضاض في المجتمع، فالفردُ يتربَّص بأخيه في الوطن والمصير، لاعتقاده أن المكان لا يتَّسع إلا لِفَرْد واحد، وإذا لَم تَكُن آكِلًا فأنتَ مَأكُول، والمجتمعُ يصير فراغًا مُوحِشًا، وصَيَّادًا يَنتظر اللحظة المُناسبة للانقضاض على الفريسة، والضحيةُ تتقمَّص جلَّادها، وتَلعب دَوْرَه، ويَشعر جميع الأفراد بأنَّهُم مَظلومون، ولا أحد يَعرِف مَن الظالم، وتتحوَّل العلاقات الاجتماعية إلى منظومة نَفعية استغلالية، حيث يأكل القويُّ الضعيفَ، ويستغل الغنيُّ الفقيرَ، ويَضطهد الكبيرُ الصغيرَ، وتصير الأحلام الإنسانية أزهارًا جميلةً لَكِنَّها سَامَّة، وتَعيش في بيئة هَدَّامة، وتَؤُول الظواهرُ الإنسانية إلى سِياقات مُوحِشة تَدفع المشاعرَ والأحاسيس إلى التَّوَحُّش، وتدفع الفلسفةَ السياسية إلى الغرق في شريعة الغاب، ويُصبح القادر على اضطهاد الآخرين هو المُتحدِّث باسمهم، الذي يتَّخذ القرارات نِيَابَةً عنهم، ويُقَرِّر مصيرهم، وهُم آخِر مَن يَعْلَم. وهذا الانهيارُ الشامل لا يَحدُث بين لَيلة وضُحاها، لأنَّه تراكمات عبر الأزمنة، وترحيل للملفات والأزمات عبر المراحل، ودفن للنار تحت الرماد، لذلك كثيرٌ مِن الناس لا يَشعُرون به، أو قَد يَستهينون به، لأنَّ تفكيرهم مَحصور في الهدوء الذي يَسبِق العاصفةَ، دُون الاستعداد للعاصفة، وهُم عاجزون عن استيعاب خُطورة وَضْع السُّم في العَسَل، لأنَّ تفكيرهم مُسلَّط على تَذَوُّق العسل والاستمتاع بمذاقه، ورُؤيتهم مُركَّزة على القَشَّة التي قَصَمَتْ ظَهْرَ البعير، أو القَطْرة التي أفاضت الكأسَ، وهذا يَمنعهم مِن التفكير بالتراكمات الزمنية، ومُسلسل الأخطاء التاريخية. وعَجْزُهم عن تفسير ظواهر التاريخ، جَعلهم يُكرِّرون نَفْسَ الأخطاء، لذلك صارَ الفَرْد يُلدَغ مِن نَفْس الجُحْر مَرَّات كثيرة، وهذا يدلُّ على انطماس بصيرة الفرد بسبب ضغط المجتمع الأبوي عَلَيه، ومُحاصرته، وَمَنعه من التفكير. لذلك لَيس غريبًا أن تُصبح إنسانيةُ الفرد آلةً ميكانيكية تتلقَّى الأوامرَ لتُنفِّذها دُون التفكير في ماهيتها وأبعادها، وليس غريبًا أن يَقفز المجتمع الإنساني في الفراغ، ويُؤَسِّس للعَدَم. إنَّ المُجتمع المُحَاصَر بالمشكلات والأزمات، والمُحَاصِر للأفراد والجماعات، والذي يَدفن النارَ تحت الرماد، ولا يُفكِّر بإطفائها، جَعَلَ الفرد مُقتنعًا بعبثية الإجراءات الوقائية، وعدم جَدوى التخطيط للمُستقبل. وهكذا، صار الناسُ يَنتظرون المرضَ، ثُمَّ يَبحثون عن العِلاج، ويَعتبرون الإجراءات الوقائية المانعة من حُدوث المرض مَضيعة للوقت والجُهد.  

 

شاهد أيضاً

مركزية الألم في شعر الرثاء… بقلم إبراهيم أبو عواد 

شِعْرُ الرِّثَاء لَيْسَ تَجميعًا عشوائيًّا لِصِفَاتِ المَيِّتِ وخصائصِه وذِكرياتِه وأحلامِه ، أوْ حُزْنًا عابرًا سَرْعَان …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024