الإثنين , 23 ديسمبر 2024
أخبار عاجلة

استراتيجية “الإلهاء” الفلسطينية

يؤكد علماء الاجتماع والسوسيولوجية السياسية إن المجتمع بوعيه وثقافته الجمعية سابق على السلطة السياسية التي تعتبر الأداة لتجاوز حالة الفوضى والقبول بمرجعية، وتسعى لتأسيس وتكريس الضمير الجمعي والهوية الوطنية والثقافة المجتمعية والإحساس بالانتماء المشترك، في حين ان التجارب التاريخية لصيرورة المجتمعات وتطورها تؤكد أن وحدة المجتمع بوعيه وثقافته الجمعية تتجاوز من حيث أهميتها على وحدته السياسيةعلى الرغم من ان الأخيرة هي تجسيد لنتاج وعيه وتفاعلات ثقافته في تطلعاته وانتماءاته.

في حال المجتمع الفلسطيني الذي يعاني من احتلال ارضه ومجتمعه, ومحاولات تفكيكه وتذويب هويته الوطنية وثقافته وانكار وجوده من قبل الاحتلال، يواجه أيضا تحديات داخلية بنيوية عميقة جدا-في الحفاظ على تماسكه ووحدته الداخلية- بسبب الانقسام المُعمّم على كافة المستويات: السياسية والمجتمعية والثقافية، حيث ان المسألة المجتمعية الفلسطينية وتماسكها غائبة تماما عن اهتمام الشريحة السياسية الفلسطينية في اطروحاتها وبرامجها ، في الوقت الذي تنشغل فيه هذه القوى السياسية بمهرجانات المصالحات الإعلامية الفوقية والثنائيةبكل انواع الاغتراب والتهميش المتعمد والارادوي لوعي المجتمع الفلسطيني وثقافته وتطلعاته, متجاهلة خطورة ما يجري داخل المجتمع الفلسطيني من تحولات خطيرة تهدد وحدته وتماسكه.
فالمجتمع الفلسطيني اصلا منقسم على نفسه جغرافياً وديمغرافياً بسبب سياسة الاحتلال وتغريباته المتكررة في الداخل الفلسطيني والشتات، وزاد في “الطين بلّة” انقسامه السياسي والمجتمعي ما بين” سلطتين سياسيتين” تتحكم بهما اجندات خاصة ومشاريع سياسية متلونة بلون انتماءاتهم وتحالفاتهم الخارجية المرتبطة بأجندات سياسية وتمويلية وثقافة انفصالية انهزامية، والكل “يُغرّد على ليلاه” دون أدنى اعتبار للهم الوطني العام والمصلحة العليا للشعب الفلسطيني في تجسيد لحمته الداخلية ووحدة هويته الوطنية ووحدة قضيته في تلازم حقوقهاوهو التعبير المادي والأخلاقي والوطني لوعيه وضميره الجمعي المصرح عنه بهويته الوطنية ومشروعه الثقافي الوطني والمقاوم.
هذا ما يجعل من مسألة انهاء الانقسام السياسي السلطوي والعودة الى التوافق الوطني مسألة معقدة وشائكة جدا, بحجم الاغتراب السياسي والبرنامجي للقيادات الفلسطينية المتنفذة عن متطلبات تحديات الحالة الفلسطينية وروافع استنهاضها,ورهاناتها المتواصلة على سياسيات انتظاريه وعقيمة, الهدف منها, الحفاظ على تداول السلطة وامتيازاتها, وهذا ما أكدته مجموع الحوارات الثنائية والفوقية بين قطبي السلطة السياسية, بعد ان ربطت مصيرها بالمساعي الإقليمية والدولية والرهان عليها, ما ساهم في تأزيم المجتمع الفلسطيني واغترابه عن حالته الوطنية ووعيه الجمعي المقاوم, اضف الى ذلك,ما استجد حديثا من أساليب المكر والخداع والتضليل والالهاء على عقول جماهير الشعب الفلسطيني وضميره الحي وخياراته الوطنية.
لا يمكن مقاربة إشكاليات فهم علاقة الهوية الوطنية وثقافتها بالتحديات المصيرية للمجتمعات، دون تحديد أية هوية وطنية ثقافية قادرة على تجاوز هذا الانحدار الفكري والسياسي للنخب السياسية الفلسطينية، وايضا من غير توضيح طبيعة الاختلاط والإبهام الثقافي والمعرفي لأطروحاتها السياسية، وكيف تتمكن الثقافة الوطنية-وليست الفصائلية-بأصالتها من بناء أدواتها المعرفية لتجاوز المأزق الراهن وإنهاء الانسداد المعرفي والسياسي.
للأسف لم تتمكن القوى السياسية الفلسطينية، من التمييز بين الإنتاج المعرفي والثقافي، وبين العمل السياسي والحزبي الفصائلي، فلم تتبلور حركة ثقافية متأصلة في الهوية الوطنية منفصلة عن الواجهة السياسية وأسلوب ادارتها، وبذلك فقدت الثقافة الوطنية مهمتها في إحداث الدافع المطلوب لتأصيل السياسة وحملها على الانصياع للوعي الجمعي الفلسطيني وإبراز هويته الوطنية والثقافية, فتداخلت السياسة بالحزبية بالثقافة، وسقط المشروع السياسي في إيجاد مقارباته الثقافية الحاملة له، وأصبح اغلب المثقفين رجال سياسة واغلب السياسيين رجال ثقافة، فانهزم السياسي والمثقف, وخسرت السياسة فكر المثقف وخسرت الثقافة محرضها الأبرز, وفقد كل منهما مكانته وملامحه.
حين تغيب الثقافة الوطنية المتأصلة في الهوية الوطنية الفلسطينية, القائمة على المقاومة والتحرير وتلاحم الوعي الفلسطيني العام لخصوصية بناء المجتمع الفلسطيني على انقاض نكبته وتمزيق مجتمعه, بفعل سياسة الاحتلال، تحضر السياسات الضيقة والجزئية والمأزومة بفعل الانتماءات الطبقية والأيديولوجية والحزبية, لتتصارع فيما بينها للحفاظ على مغانمها وامتيازاتها على حساب الهم الوطني العام واستحقاقات إنجازه, في ظل غياب الأهداف والمهام الوطنية الكبرى ليحل محلها المصالح الفئوية والجزئية, هنا ينقسم الوعي الجمعي الفلسطيني والثقافة الوطنية على نفسيهما في معركة تتسبب بشقاء الجميع.
في الظروف الراهنة بالغة التعقيد على قضيتنا الوطنية، علينا أن نعود الى مكونات هويتنا الوطنية و مشروعها الثقافي المتأصل فيها, ثقافة قادرة على البناء ورسم الأهداف والمصالح العليا للكل الفلسطيني بدون ان تغترب عن وعيه الجمعي المتراكم عبر عقود من الزمن, ثقافة قادرة ان توحد كل الأيديولوجيات والنظريات والمفاهيم وتصهرها في بوتقة المقاومة والتحرير, ثقافة قادرة على التصالح مع ماضيها وحاضرها وتضمن إمكانية بناء مستقبلها, ثقافة واعية ومتجذرة تدرك مصالح وأهداف شعبها الوطنية والسياسية والمجتمعية, ثقافة تراعي التعددية السياسية والحزبية والفكرية وتحترم مكونات التشكيل للوعي العام للشعب الفلسطيني وثقافته الوطنية.
في مواجهة الاحتلال وسياساته, والابداع في اشكال مقاومته وتحديدا في انتفاضاته, كانت الهوية الوطنية الفلسطينية جامعة للكل الفلسطيني في الوطن والشتات ، هذا التداخل والتماهي بين الكل الفلسطيني جاء نتيجة العملية الكفاحية ضد الاحتلال وسياساته, ما أسّس لوعي فلسطيني عام وصقل مرتكزات ثقافته وهويته الوطنية حيث لم يعرف الفلسطينيون انتماء إلا لفلسطين بكل فسيفسائها(الجغرافية والتاريخية والديمغرافية)، في حين ان العزوف عن مواجهة الاحتلال ومقاومته وحالة الانقسام الداخلية المدمرة وتكلس الفكر السياسي للنخبة السياسية الرسمية, أفرزت تداعيات سلبية وجداً خطيرة على وحدة وتماسك المجتمع الفلسطيني وهويته الوطنية التي تتعرض الان لأسوأ حالات التشويه والمصادرة والتهديد: سواء من الاحتلال, او من افرازات حالة الانقسام والتشرذم,او من الانشغال بالخلافات السياسية المحكومة بأجندات خارجية دون أن تولي النخبة السياسية الفلسطينية المتصارعة على “السلطة الوهمية” اهتماما بذلك، لا بالتلميح ولا بالتشخيص, ولا بالعودة الى أولويات العمل الوطني في سمته المرحلية, للحفاظ على مكتسبات الهوية الوطنية الفلسطينية واستكمال بناء مشروعها الثقافي الحاضن للوعي الجمعي الفلسطيني بتلازم حقوقه الوطنية, على الرغم من الخطر المحدق الذي بات يهدد كل كيانات المجتمع الفلسطيني.
عندما تنتفي الهوية الوطنية الجامعة عن شعب أو يتم تشويهها اوالتشكيك بها، تسقط مرجعيته في براثن الصفقات المشبوهة التي تسعى لتدمير هويته وإلغاء حقوقه، لان هناك علاقة جينية تصل لدرجة التماهي بينهما، فالهوية الوطنية بمكوناتها ومكتسباتها تمثل العنوان العريض لأصالة القضية الوطنية أخلاقيا وتاريخيا، وتجسيد للوعي العام للشعب الفلسطيني عبر محطات تاريخه النضالي الطويل لنصرة قضيته واحقاق حقوقه.
استراتيجية “التدمير الذاتي”؟!:
من المفهوم والطبيعي ان يسعى الاحتلال الغاصب وحلفائه عبر سياساتهم وصفقاتهم المشبوهة، الى تدمير البنية التحتية والفوقية للمجتمع الفلسطيني, وتشويه منظومته القيمية والأخلاقية والثقافية، وطمس هويته الوطنية ومكوناتها، وضرب لحمته الوطنية والتشكيك بتاريخه، لكن الغير مفهوم مطلقا – لا في ادبيات التجارب العالمية لحركات التحرر ولا في نظريات ومفاهيم الصراع الطبقي، ولا بأية أيديولوجية سماوية كانت ام دنيوية – سياسة التدمير الذاتي (الهوياتي والثقافي) والانتحار السياسي للرسمية الفلسطينية ونخبتها السياسية, بإقرار مجموعة من القرارات السياسية الخالية من الزخم السياسي الا من سياسة الرهانات المجربة والعقيمة واستراتيجية الالهاء والتضليل على الشعب الفلسطيني بكَي وعيه وتجريح ثقافته, ووضع مصير الشعب الفلسطيني وقضيته على” كف عفريت” ونشر حالة من اليأس والإحباط وعدم الثقة بكل المرجعيات الفلسطينية الرسمية منها والحزبية الفصائلية. هكذا سياسة في “التدمير الذاتي” (اجتماعيا وثقافيا وسياسيا) هي الانجع والاقل تكلفة على الاحتلال، الذي عجز بكل معاركه وسياساته واساليبه القهرية من النيل من عزيمة وصمود الشعب الفلسطيني ولحمته الداخلية.
الية الحل الوطني:
إن متطلبات الواقع الفلسطيني الحالي وتحدياته الداخلية والخارجية يتطلب وعلى وجه السرعة بناء جبهة وطنية فلسطينية تضم الكل الفلسطيني دون استثناء من داخل الوطن المحتل والشتات, من القوى الفلسطينية المعارضة لنهج وسياسات الرسمية الفلسطينية في الضفة وغزة, وكل الفعاليات الوطنية والاجتماعية والمدنية والمؤسسات والهيئات الشعبية, وكل من يتبنى اعتماد استراتيجيات وطنية بديلة عن رهانات الرسمية الفلسطينية على أوسلو وملحقاته وخيار المفاوضات العقيمة ينبثق عنها قيادة وطنية موحدة ملتزمة بالبرنامج الوطني وبحقوق الشعب الفلسطيني الغير قابلة للتصرف او التفريط, ويكون من أولوياتها الوطنية تصعيد المقاومة بكل اشكالها وتحديدا المقاومات الشعبية لتتويجها بانتفاضة شعبية شاملة في الضفة والقطاع, وعودة سلطة القرار السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها الشرعية, وتوفير ما امكن من مقومات الصمود والمواجهة للشعب الفلسطيني فوق ارضه.
لا بد من تأسيس وحشد تيار سياسي وطني وجماهيري، يشكل أداة ضغط وطنية
للعودة الى أسس الشراكة الوطنية الحقيقية والتوافق الوطني، لحل الرزمة كاملة وفق متطلبات المرحلة، في انهاء الانقسام والتوافق الوطني والتجديد المؤسساتي لكل الهيئات التشريعية.

mansour.othman12@gmail.com

 

شاهد أيضاً

هل ستكون حوارات المصالحة في بكين مختلفة عما سبقها؟…بقلم إبراهيم أبراش

مع أننا لا نعول كثيرا على حوارات المصالحة ونفس الأمر بالنسبة لغالبية الشعب غير المهتم …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024