اغتيال العلماء الإيرانيين ليس جديداً على إيران، كما أنه ليس مفاجئاً للعالم العربي أيضاً، لأن مسلسل اغتيال العلماء العرب، منذ بداية القرن العشرين ولغاية اليوم، لم يتوقف يوماً، وبلغ حصاده، وفق مصادرَ عربيةٍ، مئات العلماء، منهم من تمّ اغتياله في بلده ومنهم من اغتيل في البلد الذي هاجر إليه حين رغب بالعودة إلى بلده ليساهم في تطوّر مجتمعه. ولا يقتصر الاغتيال على علماء الذرّة فحسب بل شملت معظم العلوم التي يحتاجها العصر الحديث.
كانت أهمّ الاغتيالات، وفق المصادر المصرية، في العام 1940 حين تمّ اغتيال عالم الفيزياء النووية، المصري، د. إسماعيل أحمد أدهم، عالِم الذرّة المصري، الذي نشر أبحاثه العلميّة عام 1940 معلناً أنه اكتشف كيفية صناعة القنبلة النووية قبل أميركا والإتحاد السوفياتي آنذاك. طالت الإغتيالات أيضاً الدكتورة سميرة موسى، عالِمة الذرّة المصريّة، التي تلقّت عام 1951 عرضاً للسفر إلى أميركا لاستكمال دراستها، وهناك سُمّيت “مدام كوري الشرق”، وحين رغبت بالعودة إلى مصر لتدريس علوم الذرّة، دهستها سيارةٌ “عابرة” على قارعة الطريق وأنهت حياتها. ومن العلماء الذين تمّ اغتيالهم أيضاً د. رمّال حسن رمّال اللّبناني عام 1989 ود. عبير عيّاش اللبنانية، ود. نبيل فليفل الفلسطيني عام 1984 الذي وُجدت جثّته بجانب قرية بيت عور في الضفة الغربية في ظلّ الإحتلال الإسرائيلي، ولم يحقّق في الحادثة أحد.
أيضاً د. سامية مومني الطبيبة والعالمة السعودية، المختصّة في جراحة الدماغ في الولايات المتحدة، وقد استفاد العلم من خبرتها في جراحة الدماغ فتحوّلت العمليات المعقّدة إلى عملياتٍ سهلة من خلال الأجهزة التي طوّرتها. رفضت دكتورة مومني عروضاً مغرية لبيع براءات اختراعاتها والبقاء في الولايات المتحدة مع جنسيةٍ أميركية، وأصرّت على العودة إلى بلادها، فلاقت حتفها خنقاً في ظروفٍ غامضة لم يحقّق بها أحد. العالم أردشير حسن بور، عالم الصواريخ الإيراني، اغتيل أيضاً عام 2007 على يد عملاء الموساد.
ولا يمكن أن ننسى أن نقطة الخلاف الأخيرة بين الإدارة الأميركية والرئيس صدام حسين كانت حول طلب أميركا تسليم قائمة بأسماء العلماء، بعد أن تم تسليمها كل المشاريع العلمية لتطوير الأسلحة غير التقليدية، مقابل الإمتناع عن غزو العراق، ولكن الرئيس صدام حسين رفض تسليم القائمة الأخيرة، فكان الردّ الأميركي بالغزو الوحشي، وكان مَن بقي من العلماء العراقيين هم أوّل المطارَدين وهم أوّل الضحايا، إذ تمّ اغتيال 48 عالماً في الأيام الأولى للغزو، واعتقال 18 منهم وتهجيرهم إلى الولايات المتحدة.
أما في سوريا، فقد تمّ اغتيال عالِم الصواريخ السوري د. نبيل زغيب، مع جميع أفراد أسرته في حزيران/يونيو 2012 على يد مجموعةٍ مدرّبةٍ على تنفيذ اغتيالاتٍ “مجهولة الهوية”. ولا تتّسع الصفحات لتوثيق مسلسل اغتيالات العلماء العرب والمسلمين من غير العرب، وكان آخرهم الشهيد البروفيسور محسن فخري زاده. فمن اغتاله يا ترى؟
رصد العلماء.. نهج إسرائيلي ثابت
مراجعةً بسيطةً للماضي غير البعيد، تشير إلى الجهة المنفّذة ومن يقف وراءها، خاصّةً أن إحدى أدوات التنفيذ هي درّاجات نارية تقودها مجموعةٌ مدرّبةٌ على الاغتيالات وهي ليست الحادثة الأولى في إيران بالذات. ففي عام 2012 نشرت شبكة N.B.C خبراً مفاده أن “إسرائيل موّلت ودرّبت وسلّحت جماعات مجاهدي خلق بهدف اغتيال علماء الذرّة الإيرانيين”، وكان هذا قبل عام 2007، وأن إدارة أوباما، وفق مصادر أميركيةٍ رسمية ورفيعة المستوى، كانت مطّلعة على ممارسات هذه الجماعات ولكنها ليست شريكةً فيها، لأن أميركا كانت تعرف مسبقاً أن جماعة “مجاهدي خلق” هي “منظمةٌ إرهابية” وفق القانون الأميركي.
ويقول الكاتب أن هذه المجموعات المدرّبة جيداً استخدمت الدرّاجات النارية في عملياتها، إضافة إلى الأجهزة الممغنطة التي تُلصق على سيارات من تخطّط لاغتيالهم. وتفيد مصادر أخرى أن هذه المجموعات قامت بعمليات اغتيالٍ ابتداءً من العام 2007 ونجحت في اغتيال 5 علماء إيرانيين بين 2007-2017 بالإضافة إلى زرع متفجرات عدة في مواقع المشروع النووي الإيراني.
يُشير الباحث الإسرائيلي في الشؤون الأمنية، رونين برغمان، في كتابه “الموساد وفنون الإغتيالات” أن “الموساد يعتقد أن اغتيال الأفراد يمكن أن يغيّر مسار التاريخ”. وفي محاضرةٍ للباحث الأمني شاؤول شاي، في المؤتمر السنوي لمعهد هرتسليا في حزيران/يونيو 2017 قال: “إن الإغتيالات تهدف إلى منع العدو من امتلاك السلاح غير التقليدي، وإن لم تدخل ضمن تعريفات العقيدة الأمنية الإسرائيلية بشكل علني، إلا أنها في أساس هذه العقيدة فعلياً منذ الخمسينات وحتى اليوم، وحان الوقت لكي تصبح الإغتيالات إحدى مركّبات العقيدة الأمنية علناً”.
لقد ذكّر شاي بما حصل للعلماء الألمان الذين حاولوا مساعدة مصر في إنتاج الصواريخ الباليستية في بداية الستينيات من القرن الماضي، ولاحقاً قصف المفاعل النووي العراقي، وما قيل أنه بناءٌ لمفاعل نووي سوري، وقد سُمّيت هذه العقيدة في “إسرائيل” “بعقيدة بيغن”.
يُذكَر أيضاً، تأكيد جميع المصادر المقرّبة من الأجهزة الأمنية أن اغتيال العلماء أو اختطافهم هو قرارٌ سياسيٌّ بالأساس، وأنه لا بدّ من أن يحصل نتيجة تعاون أجهزة المخابرات الدولية وعناصر محلية، وقد شهدت عمليات الاختطاف لعلماء إيرانيين سابقاً تنسيقاً بين الموساد الإسرائيلي وال C.I.A و M16 البريطاني بالاضافة إلى جهاز المخابرات الألماني، وتعاون مخابراتي تركي أحياناُ.
شمّاعة السلاح النووي الإيراني
يناقش المختصّون في “إسرائيل” حقيقة الخطر المزعوم من السلاح النووي الإيراني، بين الحقيقة والمبالغة، بينما تبقى وسائل الإعلام الصهيونية جميعها مصرّةً على تأكيد الخطر الوجودي على “إسرائيل” بسبب هذا السلاح. لكن، هل الخطر نابعٌ من “القنبلة” النووية أم من “القدرات” النووية؟ كانت هذه نقطة الخلاف بين باراك أوباما وبنيامين نتانياهو قبيل الوصول إلى الإتفاق النووي مع إيران، ففي حين كان أوباما يَعدُ “إسرائيل” بمنع إيران من امتلاك “السلاح” النووي، كان نتنياهو يؤكّد على ضرورة منع إيران من امتلاك “القدرة” النووية، لأن “القدرة” النووية تعني امتلاك العلوم النووية التي تُستخدم في عشرات مجالات التطوّر الصناعي والطبي، وهي مجالات سلميّة لا تتعارض مع القانون الدولي الخاص بالعلوم النووية، ولكنها تتعارض مع استراتيجية “إسرائيل” في منع امتلاك أي دولةٍ في الشرق الأوسط للعلوم والتكنولوجيا من شأنها تهديد استراتيجية الهيمنة الصهيونية في الشرق الأوسط.
في دراسةٍ لمجموعةٍ من علماء الذرّة في “إسرائيل” صدرت في 2.8.2009 عن معهد التخنيون، حيث يتركّز غالبية علماء الذرّة الإسرائيليون، وتحت عنوان “النووي بمنظار عملي”، يقول العالم النووي د. يهوشوع سوكول في الإستنتاج الرئيس لمقاله: “بالرغم من أن السلاح النووي لا شبيه له، لكنه مع ذلك محدود….فخوف الجمهور مبالغٌ فيه إلى حدٍّ كبير، أما الفهم الصحيح للخطر، يقلّل من الأضرار المحتملة”. (يُذكر أن هذا الاستنتاج تمّ مسحه من النسخة التي طبعها المستوطنون لهذا المقال عام 2017). ويقول الكاتب في مضمون المقال الذي امتنعت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن نشره أن “التقديرات الحاصلة من جراء وقوع قنبلة نووية على مدينةٍ ما، هي أكبر بكثيرٍ من الواقع، لأن الأضرار الفعليّة لا تأتي من القنبلة ذاتها بل من الهزّة التي تحدث من جرّائها وتدمّر البنايات المحيطة، وعليه إذا تمّ اتخاذ التدابير اللاّزمة فلن تكون الخسائر بالأرواح كبيرة”. ويعطي مثلين على ذلك، الأوّل أن غالبية ضحايا القصف الألماني لمدينة لندن خلال الحرب العالمية الثانية، كان نتيجة الهلع الذي أصاب المدنيين وليس نتيجة القصف بحدّ ذاته. أما المثل الثاني فيقول: إن ضحايا الإشعاع النووي المباشر في هيروشيما قتل 1000 شخص بينما قُتل 100 ألف نتيجة سقوط المباني على السكان وعدم القدرة على إنقاذهم من بين الركام.
من هنا، يقول د. سوكول، يمكن لـ”إسرائيل” تفادي خطر القنبلة النووية من خلال ثلاثة إجراءات مسبقة، الأوّل من خلال تدعيم المباني القائمة لمنع سقوطها على رؤوس ساكنيها، خاصةً في منطقة المركز (تل أبيب وضواحيها).
ثانياً، من خلال توزيع السكان خارج المركز المكتظّ بواسطة خطط بنيةٍ تحتيّة مناسبة، كما يمكن توزيع السكان في أماكن بعيدة خلال ساعاتٍ قليلة في حالات الحرب التي يُحتمل فيها استخدام أسلحةً نووية.
أما الإجراء الثالث، فهو الإختباء في المرافق تحت الأرضيّة، مثل الملاجئ ومواقف السيارات متعددة الطوابق تحت الأرض وأنفاق السكك الحديدية، وهي تتّسع حسب المعطيات إلى حوالى مليون شخص في تل أبيب وضواحيها. وهذا يمكن أن يحصل خلال دقائق في حالة الخطر. من هنا يقول الكاتب أن “التهويل بالخطر الوجودي أمرٌ مبالغٌ فيه إلى حدٍّ كبير”.
كيف ينظر الإسرائيليون إلى التطوّر العلمي لإيران؟
حقيقة الأمر أن الخطر الوجودي على “إسرائيل” يكمن في التطوّر العلمي والتكنولوجي لدولةٍ مثل إيران أو مصر أو العراق أو سوريا، لأن مثل هذه الدول، المؤهلة بقواها البشرية وتاريخها لتكون قوى إقليميّة، تهدّد المخطّطات الإستراتيجية التي أُنشئت من أجلها “إسرائيل”، وتهدّد الهيمنة الإسرائيلية المطلوبة استعمارياً للتحكّم بمقدّرات الشرق الأوسط وثرواته الطبيعية، نظراً لأهمية هذه الثروات في الإقتصاد العالمي.
استمراراً لمقال د. سوكول، يقوم معهد نئمان في حيفا، بمراقبة التطوّر العلمي والتكنولوجي لـ”إسرائيل” مقارنةً بدول العالم ودول الشرق الأوسط، خاصةً إيران وتركيا، ويرى فيهما خطراً داهماً نظراً لسرعة تطوّرهما العلمي والتكنولوجي، ويصدر ذلك في تقريرٍ سنويٍّ يحثّ فيه دائرة اتخاذ القرار في “إسرائيل” على ضخّ الاستثمارات في العلوم والتكنولوجيا قبل أن تسبقهم إلى ذلك إيران وتركيا.
الفارق بين إيران وتركيا هو أن التطوّر التركي مرتبطٌ باستثمارات غربيّة يمكن توجيها، أما الإيراني فهو مستقلٌّ واستثماراته ذاتيّة ومعادٍ للغرب و”إسرائيل” وهو يسير بتسارعٍ كبيرٍ نتيجة القدرات الهائلة لإيران. وعليه، وجب إبعادها عن مصادر التمويل الإضافية في الخليج. من هنا جاءت مقولة شمعون بيريز بضرورة أن “تجتمع الأموال الخليجية مع العقل اليهودي لمواجهة الخطر الإيراني”، وهذا ما يسعى إلى تحقيقه نتنياهو وأميركا من خلال تحالفاتٍ إسرائيلية-خليجية، تُستثمر فيها الأموال الخليجية، بمليارات الدولارات، في الصناعات الإسرائيلية المتقدّمة ومعاهد الأبحاث العلميّة، في الوقت الذي تُفرض فيه العقوبات على إيران للحدّ من تطوّرها.
في مقالة صدرت في ملحق “ذي ماركر” عام 2011 تحت عنوان “إيران في طريقها لتكون دولةً عظمى في العلوم والتكنولوجيا”، يقول الكاتب إن “إيران تتقدّم و”إسرائيل” تراوح مكانها” ويأتي الكاتب بلوائح مقارنةٍ بين تطوّر العلوم والتكنولوجيا في إيران وتركيا مقارنةً بـ”إسرائيل”، مستشهداً بعدد المقالات العلمية المنشورة وعدد الإقتباسات من هذه المقالات، والمبالغ المالية المتوفرة في إيران للاستثمار في العلوم والتكنولوجيا مقارنةً بالضعف الإسرائيلي في ذلك. وحين أُطلقت إيران قمراً اصطناعياً إلى الفضاء السنة الماضية كتب د. عوزي روبين من “معهد القدس للاستراتيجية والأمن”، أن “برنامج الفضاء الإيراني قوةً استراتيجيةً مضاعفة للهيمنة الإقليمية والعظمة الدولية”. هكذا تفهم “إسرائيل” معاني التطور العلمي والتكنولوجي للدول المحيطة بها.
في الخلاصة، يتم اغتيال العلماء الإيرانيين بالذات، وقبلهم، أو معهم، العلماء العرب، بحجّة منع هذه الدول من التسلح النووي، ولكن الأساس هو منعهم من التطور العلمي. لأن العلم أساس التطور المتعدد المجالات والنهضة لأي أمة في العالم، وهو أساس التطوير التكنولوجي، وتعاظم القوة الاقتصادية والعسكرية والبشرية، وهو أساس السيادة والإستقلال ومواجهة الأعداء بعزة وكرامة وأنفة. وهو الذي يزرع في الشباب طموحاً لتحقيق الذات، وتعزيز الإنتماء والإستعداد للتضحية، وكل هذا يقلق المستعمر أيّما قلق.
أهمية العقوبات الإقتصادية في ذلك
الإقتصاد القوي ضروري لتطوّر التعليم في أي بلد، وبناء عليه يمكن الاستثمار في التعليم الإبتدائي حتى الجامعي، والاستثمار في المختبرات ومراكز الأبحاث لاستيعاب الخرّيجين، وإيجاد البنية التحتية لتطور التكنولوجيا محلياً لأنها ضمان للإستقلال الحقيقي والسيادة، ضمانٌ لمنع هجرة العقول وهي أكبر مصائب المجتمعات العربية، ضمانٌ للأمن بأدواتٍ وطنية دون الحاجة إلى الإستعانة بالمستعمر. العلم والتكنولوجيا هما الأساس لتطوير الأسلحة الدفاعية والهجومية، والوسيلة لغزو الفضاء وإطلاق الأقمار الصناعية، وبدونها تعيش الدول في ظلام وتحت رحمة الدول المتطورة، وهما الأساس لمنظومات السايبر التي أصبحت مركّبا أساسياً في التجسس العسكري والإقتصادي وفي إدارة الحروب في العصر الحديث.
العقوبات الإقتصادية لكل من يتعاون مع إيران حتى في صناعة الأدوية، لا علاقة له بالخطر من السلاح النووي المزعوم، وهو إجراءٌ مخالفٌ للقوانين الدولية ويشكّل جريمةً ضد الإنسانية، ذلك لأن التطور التكنولوجي، مهما بلغت الدولة من قوة، يحتاج، بدون شك، إلى تعاونٍ علمي مع دول وشركات أخرى وعلماء آخرين وإلى أموال طائلة.
هذه العقيدة ليست إسرائيلية بالأساس، بل هي العقيدة الإستعمارية على مدى التاريخ، وهي في صلب ملخصات مؤتمر كامبل-بنرمان للدول الإستعمارية، 1905-1907 في بريطانيا. هذا المؤتمر الذي أسّس لإنشاء كيانٍ غريب في فلسطين، برعاية المنظومة الإستعمارية الغربية، وفق مبادئ “التفوق” و”الهيمنة” على شعوب المنطقة، وتطوّرت فكرة هذا الجسم من خلال وعد بلفور في إنشاء “إسرائيل” وضروة تفوّقها العسكري والتكنولوجي والعلمي، وهدفه الإستراتيجي هو “السيطرة على الثروات ومفاتيح الإقتصاد في المنطقة عامة”، الأمر الذي يتطلّب، وفق توصيات المؤتمر، دعماً عسكرياً وعلميا غير محدودٍ “لإسرائيل”، و”إبقاء شعوب الشرق مفكّكة ومتخلّفة” في المجالات كافة، لضمان هيمنة الدولة التي يتوجب زرعها في فلسطين، وهي دولة “إسرائيل”.
(الميادين)