في الأيام الأولى للعدوان على سورية كانت خارطة تحالف العدوان حادة ومتماسكة، وكانت الاصطفافات الدولية والاقليمية متجانسة حدّ الذهول، فالادارة الأمريكية الى جانب نسق أوروبيّ واضح ومتراصّ تماماً، يستعين باصطفاف اقليمي مخيف جدّاً، اصطفاف تعبّر عنه أنظمة ملكية عربية تمتلك أقوى سلاح دوليّ نعني به “الكاز والغاز”، والذي يعني أخيراً سلاح المال والذي سيُصرفُ تحريضاً وتجييشاً واعلاماً وسلاحاً يستبيح البنى السورية على مستوى الدولة والمجتمع..
إنّ هذا الاصطفاف الحاد والكبير والقويّ، والذي اعتبر ذراعه الأساسية في هذا العدوان “الأخوان المسلمين”، استطاع أن يتقدّم على جبهات رئيسية، خاصة في المرحلة الأولى، فاستباح خطوط الدفاع الأولى للدولة والمجتمع السوريين، حيث بدا هذا الداخل السوريّ رخواً في كثير من زواياه المجتمعية، خاصة في ظلّ التحريض والاشتغال على عناوين مذهبية وطائفية ودينية واستغلال بعض البنى التي كانت ضعيفة لجهة تلك العناوين، حيث توفّر سيلٌ من مال استطاع أن يتمكّن من “رموز مجتمعية” كانت مستعدّة لذلك، إضافة الى أفراد كانوا يشكّلون مفاتيح في بعض مؤسسات الدولة..
لا نستطيع القول موضوعيّاً إلا أنّ الدولة والمجتمع أخذا يعانيان نتيجة هذا العدوان في موجته الأولى، وتأثّرا تأثراً كبيراً، خاصة حين كانت الأمور غامضة لكثير من السوريين، في ظلّ انهيارات أخرى كانت جليّة على المستوى الكلّي لمشهد “الربيع العربي”، وذلك عندما نجح “ثوّار الناتو” في السيطرة على مؤسسة الحكم في ليبيا، أمام مشهد أسود شنيع لمقتل “العقيد القذافي”..
سيناريو العدوان الليبي كان أساسيّاً في العدوان على سورية، وكان الدفع باتجاه نسخة مكرّرة منه، لا بدّ لها من أن تمرّ في سورية، وذلك من خلال إسقاط الدولة وتفتيتها ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بإسقاط “النظام” فيها..
كان الاصطفاف الأمريكي الأوروبي الإقليمي يشكّل مرحلة صعود وتماسك مذهل، فالتصويب حاد جدّاً على رأس الحكم في سورية، تحديداً على شخص الرئيس الأسد، حيث استطاع النسق “العربي” في هذا الاصطفاف إخراج سورية من “جامعة الدول العربية”، في اللحظة التي ظهرت بها فجأة هذه “الجامعة” بأنها قادرة على فعل الكثير، حيث نجحت وبزمن قياسيّ من تجريد سورية من عضويتها، ثم دفعت بهذا العنوان لتجريد سورية من عضويتها الأمميّة أيضاً، تحت وابل أشرس عدوان لماكنة إعلامية في التاريخ..
كلّ الاعلام بكل مستوياته لتحالف العدوان كان يعمل وفق تعليمات واحدة، وبآلية ناريّة لا ترحم، ليس مطلوباً منه إلا ان يدفع باتجاه “اسقاط النظام” في سورية كبنية سياسيّة، والسيطرة عليها سيطرة تحاكي سيطرة “الناتو” على ليبيا، فنجح هذا الاعلام في السيطرة على عقول كثير من السوريين، حيث شكّل لهم قناعات جديدة ووعياً جديداً بعيداً تماماً عن ثقافة جامعة شكّلت بنيتهم التحتية الوطنية لعقود عديدة من عمر الدولة الحديث..
كانت المواجهة باسلة من قبل الدولة السورية بقيادة الرئيس الأسد، والحقيقة أنّه استطاع الصمود وتوزيع طاقات الدولة والاستثمار فيها خير استثمار، علماً انّها لم تكن طاقات أو إمكانيات كبيرة، قياساً لم كان محشوداً من أطراف العدوان، وكثيرون هم الذين لم يؤمنوا بقدرته على الصمود، أو حتى المؤمنين بقدرته على تأمين شروط خروج آمن له شخصيّاً، فكثر الكلام حول ذلك، وكثرت التأويلات والقرءات والتصورات حول نهاية الرئيس الأسد، حتى أنّ هناك مقولات تمكنت من كثيرين بأنّ الرئيس الأسد ترك البلاد، وأن الرئيس الأسد ليس موجوداً أساساً في سورية، وإنّما هو موجود في إيران وأحيان أخرى في روسيا، وفي روايات أخرى قيل بأنّه موجود في عرض البحر، ضمن باخرة روسية، وهو غير قادر على الحضور إلى سورية، نتيجة الانهيار الكبير الذي تتعرض له الدولة و”نظامه”، أو كما كان يقال في لحظتها!!!..
الرئيس الأسد كان جريئاً حدّ الخيال، كان مسكوناً في التاريخ وتجلياته، وكان يؤمن إيماناً مطلقاً بالنصر، ويؤمن أيضاً بأنّه قادرٌ على إلحاق الهزيمة بأعدائه، وهذا الاستنتاج بالنسبة لي لم يكن ناتج قراءة سياسيّة، أو ناتج معطيات ومعلومات من قلب تفاصيل المعركة، علماً أنها كافية بالنسبة لي كي تقنعني بموقف الرئيس الاسد وقدرته التي كانت واضحة وجلية..
لكنّ لقاء جمعني بسيادته كان فيه قويّاً صلباً واضح الرؤية، كلّ الأسئلة كان يمتلك لها الأجوبة الشافية والكافية والمطلقة الجازمة، حتى أنّني أذكر في لقاء خاصٍ معه خلال عام 2012م، والمعركة في سعيرها الاقوى، كان مطمئناً للنصر واثقاً بما يملك من طاقة على الصمود والثبات..
اتذكّر يومها أنّ الملاحظة الرئيسية التي حكمتني بعد هذا اللقاء، هي أنّ سيادته كان يحدّثني عن مراحل لاحقة من عمر المعركة، في حين أنّ العالم كان مشغولا بلحظيّ الوقائع منها، فقد حدّثني عن قضايا وملفات داخلية وقد حصلت في مواعيدها التي حدّدها لي، إضافة إلى بعض الملفات والعناوين الخارجية التي ذهلني أنّه يعيش تفاصيلها المستقبلية، وذكر لي مواضيع لم تكن بالحسبان، الأمر الذي جعلني أؤمن يوما بأن الأسد في موقع متفرد ليس بمقدور أحد ان يصل إليه، بمعنى انه كان الاقدر على تحديد ما يحصل تماماً، ليس باعتباره قارئاً جيّدا للاحداث، وإنما هو صانع حقيقيّ لها..
لم يكن قلقاً من أيّ شيء، على العكس تماماً كانت جميع القضايا واضحة أمامه، القضايا الداخلية والاقليمية والدولية، حتى أنّه حدّثني في أمور تفصيلية لم تكن لتخطر في ذهن أحدٍ منّا، لا من قريب ولا من بعيد..
أتذكّر هذا اللقاء جيّداً بكلّ تفاصيله، وقد كان اللقاء الأهم الذي التقيت به سيادته، باعتبار أنني وصلت إلى قناعة مطلقة، وهي أن الرئيس الأسد لم يكن معزولا عن العالم، كما كان يقول او يسوّق اعلامهم، بمقدار ما كان العالم معزولا عن الأسد، الأسد صانع الأحداث ومغيّر خارطة العالم!!..
*شام تايمز