قدّم المخرج السوري العالمي مصطفى العقاد صورة الإسلام المُشرقة من خلال فيليمه الرسالة وأسد الصحراء، بنسختيهما العربية والانجليزية، وتُرجما لأثني عشر لغة أجنبية، وقد أظهر فيلم الرسالة الطبيعة الإنسانية والحضارية لدين الإسلام ونبي الإسلام محمد – صلى الله عليه وسلم -، بينما فيلم أسد الصحراء أو عمر المختار أظهر جوهر الجهاد الإسلامي الثوري والتحرري والأخلاقي. ولكن الإسلام الآخر ممثلاً في الدولة السعودية الوهابية حاول منع انتاج وعرض هذه الصورة المُشرقة للإسلام دون جدوى، فباء بالخذلان رغم ما يملكه من سطوة دينية ومالية، وفائض كراهية وعنف وأموال البترودولار.
وإذا كانت دولة آل سعود وآل الشيخ التي تُمثّل الإسلام الآخر عجزت عن اسكات صوت الإسلام في الربع الأخير من القرن العشرين، فإنَّ تنظيم القاعدة، الابن الضال للوهابية، وأحد إفرازات الإسلام الآخر، قد استطاع قتل مصطفى العقاد في مطلع القرن الواحد والعشرين في تفجير انتحاري بالعاصمة الأردنية عمان، فرحل عن الدنيا تاركاً خلفه أفلاماً لم تُنجز هي فتح الأندلس وصلاح الدين الأيوبي، تحمل أحلاماً لم تكتمل في إظهار صورة الإسلام المُشرقة في محاولة لمسح الصورة المشوّهة للإسلام التي قدمها للعالم تنظيم القاعدة وأصوله الوهابية وفروعه الداعشية.
الإسلام الآخر لا يقتصر على من قتل مصطفى العقاد فقط، فصوره السياسية كثيرة، منها الإسلام الأمريكاني، وهو ما ذكره المفكر الإسلامي سيد قطب في كتابه (دراسات إسلامية) في مطلع خمسينيات القرن العشرين، تحت عنوان (إسلام امريكاني)، ومما كتبه آنذاك: “الإسلام الذي يريده الأمريكان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان…. لكنه فقط الإسلام الذي يقاوم الشيوعية…الأمريكان وحلفاؤهم يريدون للشرق الأوسط إسلاماً أمريكياً، أما الإسلام الذي يكافح الاستعمار كما يكافح الشيوعية فلا أحد يتحدّث عنه…”. وبهذه الرؤية استشرف سيد قطب ما سيحدث بعد ثلاثة عقود من نشر كتابه، عندما جيء بـ (المجاهدين العرب) وهم ينسلون من كل حدبٍ وصوب إلى أفغانستان، بدعوة من الإسلام الآخر، الذي يقف على رأسه تياران إسلاميان كبيران، وزعيمان إسلاميان مهمان هما أسامة بن لاذن السعودي الوهابي والآخر عبدالله عزام الفلسطيني الإخواني، ليقيما معاً (مكتب خدمات المجاهدين) في مدينة بيشاور الباكستانية قرب الحدود الأفغانية، لتجميع الرجال العرب والأموال العربية وإلقائها في أتون الحرب الباردة المشتعلة بين الكتلتين الشرقية والغربية لتأكلهما معاً ثم انقلبت عليهم حسرة بعد انكشاف وهم الجهاد المُصنّع أمريكياً وسعودياً.
إذا كان الإسلام الآخر قد جعل أحد الفلسطينيين يترك الجهاد في فلسطين ويخرج منها ويذهب إلى أفغانستان للجهاد فيها مطلع الثمانينات، ليكون هو وكل من تبعه وقوداً لحرب الأمريكان وحلفائهم، فقد كان الإسلام يُحرّك فلسطينياً آخراً هو فتحي الشقاقي ليعود إلى فلسطين في نفس الوقت للجهاد فيها، ومعه كلمة السر – الإسلام وفلسطين والجهاد – التي تُفجرّ الثورة الإسلامية وتُنشئ حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، مؤكداً على مركزية القضية الفلسطينية للأمة، ومُحذراً من انحراف البوصلة من فلسطين والقدس إلى حيث يريد الإسلام الأمريكاني أو الإسلام الآخر في أفغانستان ومما كتبه آنذاك مُحذراً “… نحن لا نسأل الحكومات التي فتحت مكاتب للمجاهدين الأفغان على أرضها بلا حصر ولا عدد، فيما اعتقلت المجاهدين من فلسطين حاولوا أن يجمعوا تبرعات لمجاهدي فلسطين وشهدائها، ولكن نسأل الذين تحججوا بأن راية الإسلام لم تكن تُظلل المقاتلين في فلسطين، وهم يسمعون اليوم صيحات الله أكبر تتردد في كل جنبات فلسطين”. انتهت الحرب الأفغانية بخروج الجيش الأحمر من أفغانستان وسقوط النظام الحاكم الشيوعي، وبدأت حرب المجاهدين الأهلية، لينتقل الإسلام الآخر إلى ممارسة دوره في أماكن أخرى.
الإسلام الآخر كان حاضراً على الدوام في كل زمان ومكان تريده أمريكا وحلفاؤها تماماً كما استشرف ذلك سيد قطب، وغالباً ما كان يشترك في التنفيذ نفس التيارين المشاركين في حرب أفغانستان، وهذا الحضور بدأ واضحاً في سوريا بعد ثلاثة عقود من بدء الحرب الأفغانية، بعد اندلاع النسخة السورية في ثورات (الربيع العربي)، ولكن هذه المرة كان بنكهة تركية مُعبّقة برائحة حلف الناتو، ولباس سعودي قطري بالمقاس الأمريكي، وبما أن الفلسطيني كان حاضراً في أفغانستان، فلمَ لا يكون حاضراً في سوريا، وإن لم يكن بالرجال بارزاً بوضوح، فبالفتاوي الدينية والسياسية أكثر بروزاً، فها هو زعيم كبير يخرج علينا بفتوى أن الجهاد في سوريا مُقدمٌ على الجهاد في فلسطين. أما عن فتاوي أولوية قتال (المرتدين والرافضة) على قتال (الكفار الأصليين) وهم اليهود المحتلين لفلسطين، فلا حصر لها… وكما سقطت أوهام الإسلام الآخر في أفغانستان، فقد سقطت في سوريا، بعدما اتضح للمجاهدين تحت الطلب الأمريكي أنهم كانوا مجرد حطب نار لحرب ما أُريد بها وجه الله، ولا خدمة الشعب السوري، ولا حتى اسقاط النظام.
الإسلام الآخر بصورته السياسية الجهادية، سبقه انحراف في الفكر السياسي الإسلامي، أدى إلى نشأة إسلام آخر صنعه الفقهاء على مدار مئات السنين التي بدأت بنهاية دولة الخلافة الراشدة، وبداية نشأة الدولة الأموية، وتحوّل الحكم إلى ملك عضود، فقام الفقهاء أو غالبيتهم بتوظيف النصوص الدينية لتبرير الواقع السيء وليس لتغييره نحو الأفضل، فأصدروا الفتاوي لدعم الحكام المستبدين، ودعم نظام الحكم الظالم، وتقوية السلطة السياسية الفاسدة، وقاموا بالتنظير الديني لشرعنة الاستبداد السياسي، وإجازة إمارة التغلّب والاستيلاء على الحكم بالقوة، والتأصيل الشرعي لحصر الحكم في (أهل الحل والعقد)، واسقاط حق الأمة في اختيار حكامها ونقدهم وعزلهم إذا أخلوا بشروط البيعة، وتحويل الشورى من شورى مُلزمة للحاكم إلى شورى اختيارية للحاكم، وقصر نظام الحكم الإسلامي على قوالب نمطية جامدة مستنسخة من أزمنة عابرة لاستحضار شكل الحكم دون جوهرة، حتى ظهر فقهاء آخر الزمان، الذين أفتوا بذبح مخالفيهم من الرجال وسبي نسائهم واسترقاق ذراريهم.
وفي الختام لم يكن الإسلام الآخر نتيجة لانحراف في الفكر السياسي الإسلامي فقط، بل كان نتيجة لانحراف في المنظومة الفكرية والفقهية التي تراكمت عبر مئات السنين وانتجت مفاهيم خاطئة أهمها إضفاء القداسة والعصمة على التراث الثقافي والموروث الديني، ولم تتعامل معه كجهد عقلي بشري يُصيب ويُخطئ، ومن ذلك إضفاء القداسة والعصمة على انتاج زعماء المذاهب الفقهية الأربعة، وكتب الحديث المشهورة، والمدارس العقيدية الكبرى، ومفهوم (أهل السنة والجماعة) كمفهوم بديل للأمة الإسلامية… وصنعنا نموذجاً آخر للمرأة المسلمة يؤصل لدونية المرأة ويعتبرها عورة كلها حتى اسمها وصوتها، وربط وجودها بالرجل متاعاً وتبعية… وغرقنا في تفاصيل التفاصيل للعبادات التي لم يعرفها الجيل الإسلامي الأول حتى فُرّغت من مضمونها الروحي والأخلاقي والتربوي…وانشغلنا بإخراج الناس من الإسلام بتكفيرهم تمهيداً لتقتيلهم… وكل جماعة رأت في نفسها الفرقة الناجية الوحيدة من النار، وغيرها فرق هالكة في جهنم وبئس القرار… وغير ذلك كثير، ولا خيار لنا كأمة سوى ترك صحراء الإسلام الآخر إلى واحة الإسلام حيث النبع الصافي ننهل من القرآن والسنة باجتهاد عقولنا وروح عصرنا، والنافع المفيد من تراثنا.