1
إحساس الإنسان بالتغيرات الاجتماعية لَيس خيالاتٍ هُلامية ، وإنَّما هُو نظام فكري مُتماسك يتكوَّن مِن الصُّوَر الذهنية الناتجة عن الواقع ، ومَصادرِ تفسير هذا الواقع . ولا يُمكن فصل الصورة الذهنية التي تتشكَّل في وَعْي الإنسان عن إطارها الواقعي ، لأنَّ الواقع هو المنظومة المعرفية المركزية التي تُقدِّم التفسيرَ المنطقي للأحداث ، كما أن الواقع هو المرجعية لتحليل العناصر المثالية والمادية في العلاقات الاجتماعية ، وهذا يستلزم بالضرورة تفكيك عناصر التاريخ كما هو على أرض الواقع ، وليس كما نُحِبُّ أن يَكون ، وليس كما نتخيَّله في الأذهان.والتاريخُ الحقيقيُّ هو الذي حدث على أرض الواقع، وليس الذي تَمَّت أدلجته وتَسييسه في الأذهان تحت ضغط السُّلطات الأبوية ، التي تَخترع المُسلَّمات الافتراضية لتحقيق مصالح شخصية ومنافع ذاتية.
2
مَن أُصِيب بالعطش في الصحراء ، عليه أن يَبحث عن المياه الجوفية داخل الأرض ، ولا يُضيِّع وقته في مُطاردة السراب فوق الأرض . ومَن أرادَ التفسيرَ المنطقي للأحداث ، عليه أن يَبحث عن العلاقات الاجتماعية داخل تاريخ الأمم والشعوب ، ولا يُضيِّع وقته في مُطاردة التفسيرات الجاهزة ، والتأويلات المُعَدَّة مُسْبَقًا ، والمُسلَّمات المُكرَّسة بفِعل التَّكرار الخاضع لمنطق القُوَّة لا قُوَّة المنطق.
3
التفسيرُ الحقيقي للتاريخ يُشبِه الطعامَ الثقيل الذي يُطبَخ على نار هادئة ، ويَستغرق وقتًا طويلًا للنُّضج ، ولا يُمكن أن يكون وجبةً سريعةً ، لأن عملية التفسير فِعل تراكمي تحليلي يقوم على تفكيك العناصر ثُمَّ تجميعها ، وترتيبها بشكل منطقي تسلسلي ، وهذا يستغرق وقتًا طويلًا، ويتطلَّب مجهودًا فكريًّا كبيرًا . وبما أن أغلب الناس يَميلون إلى الاستسهلال ، ويَتعبون مِن التفكير العميق ، ولا يُريدون إرهاق أنفسهم في عمليات عقلية مُعقَّدة ، فإنَّهُم يَقبَلون بالشيء المُتَدَاوَل دُون فَحْصه ، ويتمسَّكون بالحُلول الجاهزة دُون اختبارها ، ويَقبَلون بالأمر الواقع دُون النظر إلى ما وراء الواقع ، ويَلتزمون بالتفسيرات الشائعة دُون عرضها على قواعد المنهج العِلمي في البحث والاستدلال . إنَّهُم مُعجَبون بجَمَال الشَّجرة التي تُغطِّي الغابة ، ولا يُريدون اقتحامَ الغابة ، ومعرفة أشجارها. وهُم بذلك يُشبِهون الأشخاصَ الذين يتناولون الوجبات السريعة ، ويذهبون إلى النوم ، ولا يُريدون إضاعة وقتهم في المطبخ لتحضير الطعام .
4
التعاملُ مع التاريخ يعني التعامل مع ثلاثة سِياقات معرفية متشابكة : أ _ التاريخ في الواقع ( التاريخ الحقيقي) . ب_ التاريخ في الذهن ( التاريخ المُتَخَيَّل ). ج _ تفسير التاريخ ( التاريخ المُختبئ وراء التاريخ ). ومِن أجل السيطرة على هذه السِّياقات الثلاثة ، وكشفِ أبعادها ، وتحليلِ مضامينها ، ينبغي إجراء عملية تَنقيب في الأنساق الاجتماعية ، وهذه العملية هي الضمانة الأكيدة للوصول إلى حقيقةِ المشاعر الإنسانية ، وماهيةِ السلوكيات الفكرية ضِمن الزمانِ والمكانِ. ولا معنى للتاريخ إلا مِن خلال إجراء حفريات واسعة في المُكوِّنات المعرفية للحضارة بشكل عام ، والمُكوِّناتِ الإنسانية للمجتمع بشكل خاص . ولا شرعية لتفسير التاريخ إذا لم يتم التفتيش عن الإنسان داخل الإنسان ، والبحث عن التاريخ السِّري للأحداث المَوجود خَلف الكواليس . وإذا لم يتم الوصول إلى الوجه ، فلا فائدة مِن معرفة الأقنعة.
* كاتب من الأردن