بقلم: فوزي حساينية-كاتب جزائري |
يوم 08 جوان 2018 أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحابه من الاتفاق النووي الدولي مع إيران والمعروف رسميا بـ” خطة العمل الشاملة المشتركة ” منفذا بذلك واحدا من أبرز الوعود التي تعهَّد بها خلال حملته الانتخابية، ومحققا واحدة من أغلى الأمنيات الإسرائيلية ، وعلى إثر هذا الانسحاب الذي أضر بمصداقية وسمعة الولايات المتحدة الأمريكية كطرف موثوق في مختلف الالتزامات الدولية ، وبعد محاولات غير مجدية لثني الرئيس الأمريكي عن موقفه، راح الأوروبيون والكنديون يلتحقون علنا بالموقف الأمريكي فيما يخص العودة إلى فرض المزيد من الشروط والمطالبات في وجه إيران فيما يخص الملف النووي ! والغريب الأقرب إلى العبث والسخافة هو أن القوى الغربية الكبرى وبعد أن قامت بالتوقيع على الاتفاق سنة 2015 عادت لتطالب إيران بحتمية التفاوض حول اتفاق جديد انسجاما وخضوعا للرغبة الأمريكية ! ووصل الأمر برئيس الوزراء البريطاني إلى أن يدعو إيران إلى قبول اتفاق ترامب بديلا عن اتفاق سنة 2015 المُوقع مع القوى الكبرى ! و لاغرابة في ذلك فالحضارة الغربية، لاتريد صعود بلد لا ينتمي لفضائها الثقافي والتاريخي خاصة في منطقة المشرق العربي الإسلامي ولاشك أن الهدف من هذا الموقف الأوروبي الأمريكي المُوحد هو الرغبة في إيصال الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي، وما سيتبع ذلك من إجراءات ضد إيران غير أن الأمر سيكون صعبا هذه المرة، فما قامت به القوى الغربية ضد العراق وليبيا عن طريق مجلس الأمن، لايمكن تكراره مع إيران لسبب واضح وبسيط ، لقد تغيرت الظروف، ولم تعد القوى الغربية تملك بين يديها 99 بالمائة من الأوراق كما كان يقول محمد أنور السادات عن الولايات المتحدة الأمريكية فيما يخص ملف الصراع العربي الإسرائيلي وهي القناعة الشاذة التي أوصلته إلى الهاوية ، هاوية السياسية وهاوية التاريخ، وجعلته يُوقع على واحدة من أسوأ اتفاقيات السلام في التاريخ، أو ماوصفه محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية المصري الأسبق بالسلام الضائع في اتفاقيات كامب ديفيد،الأمر الذي جعل صحيفة إسرائيلية تعلق على قتل أنور السادات بقولها : “..إن السادات ليس هو الرجل الذي أتت به العناية الإلهية بل هو الرجل الذي أتت به لحظة الخطأ في التاريخ..” والإيرانيون يفهمون جيدا خصومهم من الأمريكيين والأوروبيين، ويعلمون أن أية تنازلات تُقدم لهم ستكون متبوعة بمطالب جديدة أكثر تشددا ومسّاً بالسيادة الإيرانية وهو ما فهمه الكوريون الشماليون أيضا في مفاوضاتهم النووية مع الوحش الأمريكي المتخبط في أزماته الداخلية وصراعاته الخارجية، فكانوا أكثر تشددا وعزما على عدم الانخداع بأية وعود أميركية، إذ يعرف زعماء كوريا الشمالية أن العقيد معمر القذافي كان قد وثق بالقوى الغربية وسلمها برنامجه النووي مقابل رفع العقوبات وتطبيع العلاقات ، ولكن القوى الغربية لم يهنأ لها بال إلا بعد أن قامت بتدمير الدولة الليبية، وتصفية القذافي نفسه بأبشع طريقة، وأكثرها تجردا من القانون والأخلاق، الغرب إذا ليس محلا للثقة، ولايمكن أن يكون محلا للثقة، والقوى الغربية لاتتردد أبدا في الاعتداء على الدول الضعيفة ونهب ثرواتها وتدمير مؤسساتها، كما أن القوى الغربية لاتريد للآخرين أن ينهضوا وأن يتقدموا، نتذكر بهذه المناسبة ماقاله رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد : “…الحقيقة هي أن الغرب لايريدنا أن نتقدم …” ولذلك فإن المسلك الذي سلكته إيران مع القوى الغربية هو المسلك الصحيح، وعلى الدول العربية أن تدرس هذه التجربة جيدا.
وعلينا هنا أيضا أن نأخذ بعين الاعتبار مايرددهُ قادة الكيان الصهيوني، ومايقوله الرئيس الأمريكي باستمرار من أنه: ” لن يسمح لإيران بامتلاك السِّلاح النووي ” ويظهر من هذه التصريحات فوق كونها أداة للحرب النفسية المكثفة على إيران ومحاولة لزعزعة استقرارها الداخلي أن قرار الحرب على إيران قد تمَّ اتخاذه في الواقع لكن القوى الأساسية في الحضارة الغربية، تريد استكمال استعداداتها، والتدقيق في حسابات الربح والخسارة، فما يؤخر الحرب على إيران بالأساس، هو عدم تأكد القوى الغربية من مآلات حرب كهذه، وليس أمرا آخر، فالأسد الفارسي ورغم كل الظروف والمحن لن يكون فريسة سهلة لوحوش الحضارة الغربية بل وقد تكون عنده مفاجآت غير سارة على الإطلاق في حالة تجرأت تلك الوحوش على تكرار مافعلوه مع ليبيا أو العراق.
لكن يمكنُ القول أنه في حالة هجوم القوى الأساسية للحضارة الغربية على إيران، فقد نكون إزاء نتيجتين ، الأولى، وهي – لاقدر الله – انتصار القوى الغربية على إيران ، وفي هذه الحالة سنشهد موجة رهيبة من الانتقام تفوق ما تعرض له العراق، النتيجة الثانية ، هي فشل العدوان الغربي، وانتهائه إلى مآلات مأزقية، وهنا سنكون إزاء اختفاء عدة أنظمة عربية، وقد ينفتح باب من الأمل بانهيار هيبة وسطوة الغرب، وما سيتبع ذلك من ارتدادات كثيرة ومثيرة قد لا يتسع المجال لاستعراضها هنا ولكن لابد من القول أن الولايات المتحدة الأمريكية إذا ما دخلت في حرب شاملة ضد إيران فستكون هذه آخر حرب تخوضها أمريكا كدولة اتحاديه لأنه بعد حرب كهذه سيصبح الإتحاد الفيدرالي الأمريكي جزءا من الماضي وسيبدأ مسلسل التفكك، وكل المؤشرات تدل على أن كاليفورنيا وتكساس ستكونان من أولى الولايات انسحابا من الإتحاد الأمريكي في حالة التورط في حرب كبيرة وممتدة، هذا وبالنظر للتاريخ والثقافة الأمريكية فإنه لا وجود لأي ضمان بأن مثل هذه الانسحابات من الإتحاد ستجري بطريقة سلمية.
وهنا وباعتبار ماهو جوهري وأساسي لابد من لفت الانتباه إلى أن غضب وحقد الولايات المتحدة، واسرائيل، وسائر القوى الغربية على إيران، لايعود بالأساس إلى الملف النووي الإيراني الناجح، بل إلى مجمل التجربة التنموية في إيران، وهي تجربة لايملك الغرب مفاتيحها أو آليات فهمها والتأثير عليها، الغرب يخشى من انتقال عدوى النموذج الإيراني، وبالتالي تكاثر الدول ذات السيادة في المنطقة….فالملف النووي عنوان للصراع ، وليس هو جوهر الصراع.
وحتى إذا نحن حصرنا الحديث في الملف النووي الإيراني، فإن القوى الغربية لم تستسغ على الإطلاق كيف يمكن لإيران وفي ظل الحصار المتواصل، والحروب والأزمات، ومختلف التحديات، أن تواصل بناء مشروعها الحضاري بكل هذه العزيمة والإصرار، ودون أن يكون للقوى الغربية فضل أو دور في ذلك وبالتالي المقدرة على تدمير كل شئ أو تمييعه عند الضرورة، الأمريكيون والأوربيون والإسرائيليون يعرفون أن البرنامج النووي الإيراني جزء لايتجزأ من المشروع الحضاري الذي شرعت إيران في تنفيذه منذ أربعين سنة، كما يعرفون حق المعرفة أن إيران لن تتخلى أبدا عن برنامجها النووي، فهي في أمس الحاجة مثلا إلى توليد الطاقة الهكربائية النووية لأغراض التنمية المختلفة ، فإيران بلد شاسع ، ويقارب تعداد مواطنيه الثمانين مليونا من الأنفس كما تعاني الكثير من مناطق إيران من ظاهرة الجفاف، ومن هنا الحاجات التنموية الضخمة المطروحة على صانعي القرار في الجمهورية الإسلامية، وبإيجاز المشروع النووي السلمي بالنسبة لإيران مسألة حياة أو موت.
ومرة أخرى وباعتبار ماهو مهم وجوهري، فإن امتلاك إسرائيل للأسلحة النووية يعد كابوسا لحاضر ومستقبل الشعوب العربية والإسلامية، ويعد على الأخص تحديا وجوديا للإنسان العربي واغتصابا مسبقا لكل آمال واحتمالات المستقبل، ولذلك فإنه لايمكن لأي عربي أن يساوره القلق من برنامج إيران النووي، وحتى إذا افترضنا جدلا أن إيران نجحت في امتلاك السلاح النووي، فإن تطورا مثل هذا يجب أن ننظر إليه بإيجابية مطلقة ، لأنه سيؤسس لعهد جديد على الأقل من التوازن في منطقة تريد فيها إسرائيل وداعيميها من قوى الحضارة الغربية وسائر القوى الدولية الأخرى ترسيخ هيمنتهم الدائمة.
والمنطقة ، أي الوطن العربي مشرقا ومغربا سيبقى محلا لهذه الصراعات، في انتظار المعركة الأخيرة التي ستفصل في مصير المنطقة وشعوبها ربما لعدة قرون قادمة، ولا أقصد هنا بالمعركة الأخيرة مجرد مواجهة أو تراشق بالأسلحة في مواجهة عسكرية، بل أقصد الإشارة إلى ذلك التحول الذي يجعل من الإنسان العربي قادرا على كسب معركة استعادة الدور العربي انطلاقا من حسن استغلال الجيوبوليتيك بما يسمح بتوظيف إمكانيات الجغرافيا العربية وموقعها في قلب العالم، وذلك لن يكون ممكنا إلا إذا توفر المشروع العربي الذي يضع نهاية للضياع العربي وسط الإستراتيجيات الدولية والإقليمية المتصارعة على زعامة العالم انطلاقا من أرضه.