من الذكريات التي درج المسلمون الشيعة الإمامية الإثتي عشرية على إحيائها، والإهتمام بها بما تستحق، دون غيرهم من الفرق الإسلامية، ذكرى بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين، أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، التي كانت يوم السابع والعشرين من شهر رجب الأصب، وهي حادثة ذات شأن عظيم، أعطى للإنسانية أملا كبيرا، في إرساء دولة العدل الإلهي، لتعم على البشرية جمعاء، تتويجا لإرادة إلهية في تحقيق الأمن والعدل بين النّاس قاطبة، دون تمييز لأحد على آخر بسبب عرْقٍ أو لغة، أو غيرها من المعوّقات التي سادت تاريخ البشرية.
تجاهل تاريخ هام كتاريخ البعثة النبوية، يعتبر غُبنا لحادثة مصيرية، عجلت بظهور نبي جديد، حاملا للإنسانية دينا جديدا هو الإسلام، خاتما سلسلة رسالات مضت قبله، جاء بها أنبياء ومرسلون، وصفهم ربّهم بأنهم أولوا عزم وتمكين، حملة تشريع ينبني عليه نظام حكم، يأخذ أتباعه إلى الحق، ومنهاج من سبق من صالحي البشرية.
لقد كان من باب أولى أن يجتمع علماء الأمّة على اختلاف مذاهبهم، على تثبيت تاريخ البعثة النّبوية، لأنه أولى بالذّكر من تغطيته بمناسبة أقلّ شأنا منها، وهي تاريخ الإسراء والمعراج، التي وقع إختلاف كبير في سنة حدوثها، تفرّع إلى أكثر من ستة أقوال: قيل أنها وقعت قبل الهجرة بست سنوات، وقبل الهجرة بثلاث سنوات، وقبل الهجرة بسنة، وقبل الهجرة بستة عشر شهرا، وقبل الهجرة بشهر.(1)
واختلفوا في حدوث الإسراء في أي الشهور كان إلى أقوال: ( فجزم ابن الأثير وجمع، منهم النووي في فتاويه كما في النسخ المعتمدة، بأنه كان في ربيع ا لأول، قال النووي: ليلة سبع وعشرين. وجرى عليه جمع، وهكذا عن الفتاوى الأسنوي في المهمات، والأذرعي – بفتح أوله والراء وسكون الذال المعجمة بينهما – في التوسط، والزركشي في الخادم، والدميري في حياة الحيوان، وغيرهم. وكذا رأيته في عدة نسخ من الفتاوى وفي بعض النسخ من شرح مسلم كذلك، وفي أكثرها ربيع الاخر كما في نسخ الفتاوى. ونقله ابن دحية في الابتهاج، والحافظ في الفتح، وجمع عن الحربي. والذي نقله عنه ابن دحية في كتابيه: التنوير والمعراج الصغير، وأبو شامة في الباعث، والحافظ في فضائل رجب، ربيع الأول. وقيل: كان في رجب، وجزم به النووي في الروضة تبعا للرافعي، وقيل في رمضان، وقيل في شوال).(2) ليرجّح الرأي القائل بأنه تاريخ بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما تمسّك به أئمة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كون تاريخ السابع والعشرين من شهر رجب متعلّق فقط بيوم البعثة النبويّة، وأهل البيت عليهم الصلاة والسلام أدرى بتواريخهم، فلا يدخل بينهم وبينها سوى مُدّعٍ، متجاوز لشأن من شؤونهم.
في السنة الأربعين بعد عام الفيل، وعند بلوغ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم سنّ الأربعين، وفي اليوم السابع والعشرين من شهر رجب الأصبّ(1) بينما كان أبو القاسم محمد بن عبد الله مُعْتكفا متعبّدا ومتأمّلا في غار حراء، على سنة آبائه عليهم السلام، في الطلوع إلى حراء كل سنة، جاءه الأمر الإلهي، بأنه نبيّ عليه أن يبلّغ رسالة الله، إلى عشريته الأقربين أوّلا، ثم إلى قومه بعد ذلك بثلاث سنين، ثم إلى الناس كافة، لتنتشر دعوته العالمية بعد ذلك على أيدي الدعاة إلى الله، من أئمة هداة وأتباع تقاة .
في ذلك اليوم المبارك، الذي إتّخذ منه أتباع أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تبعا لأئمتهم الهداة عليهم السلام، تاريخ إبتداء مسيرة نبوّة موفّقة، أرادها الله أن تكون خاتمة سلسلة أنبياء، تعاقبوا على فترات من الزمن، من أجل هداية أقوامهم إلى الحق، وكان جديرا بأن يتبوّأ مكانة مرموقة، من بين أفضل أعياد الأمّة الإسلامية، لكنّه أُهمل من حكّام بذلوا جهودهم، من أجل مخالفة هذا المنهج المبارك، الذي قاده أئمّة الهدى عليهم السلام، في مواجهة تحريف حُكام نصبوا عداءهم لهؤلاء الأطهار.
تغييب مناسبة البعثة النبويّة، هي من الدلائل الدّامغة، على ما لقيته سيرة أفضل المخلوقات، من هضم وحيف وإعتداء على مصدر تشريعي مقدّس، يُعتبر مفتاح كتاب الله، وفكّاك أغلب مقاصده التشريعية، بما تضمنته من بيان وتوضيح، وأكثر من التغييب تزوير الروايات التي تحدّثت عن البعثة، بصورة مشوّهة لأصل الحادثة، فصغّروا فيها من شأن ومقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بحيث أظهروه لا يدري ما حصل له، وغيره يعرفون ذلك ويوجّهونه حسب قناعاتهم، ليهدّؤوا من روعه، بل لم يَسلم حتى جبرائيل عليه السلام من تحريفات هؤلاء المحرّفين الخبثاء ، فصوّروه قاسيا شديدا في نزول وحي الله على أفضل مخلوقاته، وأكثر من ذلك الإدّعاء عليه، بأنه حاول الإنتحار مرارا، كلما أبطأ عليه الوحي، فأي جناية أفظع من هذه التي ارتكبتها أيدي هؤلاء المُحرّفين؟
بلوغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشدّه، كما جاء في قوله تعالى: ( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي) (2) يستدعي نضجا وكمالا عقليا وروحيا من عامة البشر، فضلا عن صفوتهم وخاصّتهم، فتكون ردود أفعالهم متّزنة وأكثر رصانة من الانفعال.
وفي ما تعلّق بصفوة الله من أنبياء ورسل عليهم السلام، فقد أنبأنا القرآن بأن نزول الوحي لا يستدعي جزعا ولا رهبة من المخصوص به، خلاف ما حملته الرواية التي نقلها البخاري في جامع أحاديثه، دون أن ينتبه لما فيها من دسائس، لا أستبعد أن تكون إسرائيلية مقصود حشرها، لضرب عقيدة النبوّة، والحط من مقام نبي الاسلام صلى الله عليه وآله وسلم، ولسان حال القرآن، ما يؤيّد طمأنينة الأنبياء والرّسل عند نزول الوحي عليهم، قال تعالى بشأن موسى: ( لا تخف إنّي لا يخاف لديّ المرسلون) (3) ( يا موسى اقبل ولا تخف إنك من الآمنين) (4)
فكيف يرضى مسلم بمحتوى رواية، تضمّنت إساءات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تعارضت مع آيات قرآنية، بخصوص الوحي، وقبوله من طرف الموحى إليه، دون أن يكون فيه شدّة أو خوف، بينما صوّرت لنا رواية البخاري ومن نقلها منه، النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صورة مختلفة تماما، عما ذكره الله في كتابه العزيز، بشأن الأنبياء ووحيه إليهم، وقد ذكروا أن أسرافيل وكّل به ثلاث سنين رعاية وتعليما وعناية، وجبرئيل عشرين سنة، قبل البعثة ما هيّأ له أرضية مناسبة لتلقي الوحي. (5)
الرواية المذكورة نسبوها إلى ابن شهاب الزهري، وهو راوية بني أميّة عن عائشة التي لم تكن مولودة حينها، وهذا وحده كاف لسقوطها سندا، فضلا عما احتواه متنها من مخالفات، يرفضها كل ذي عقل وبصيرة سليمين:
(حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ عُقَيْلٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ح وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ ، قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ، الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءً، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ – وَهُوَ التَّعَبُّدُ – اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” فَقُلْتُ: ما أنا بقارئ”. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: ” ما أنا بقارئ”. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: ” ما أنا بقارئ”. فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) حَتَّى بَلَغَ: ( مَا لَمْ يَعْلَمْ ). فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ : ” زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي”. فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ: ” يَا خَدِيجَةُ، مَا لِي؟”. وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، وَقَالَ : ” قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي”. فَقَالَتْ لَهُ : كَلَّا، أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، فَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ “. فَقَالَ وَرَقَةُ : نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِيمَا بَلَغَنَا – حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.)(6) اللهم إنّنا نبرأ اليك فيما وقفنا عليه من باطل ألصق بدينك ونبيّك، تعصّب له أتباع خط السّقيفة، ليكفّروا من خلاله غيرهم.
الإساءات إلى رسول الله في ما عرفْناه بالصحاح أكثر من أن تحصى في مقال واحد وقد كنت جمعت بعضها في كتاب بعنوان دفاعا عن النبي صلى الله عليه وآله، فليعد إليه كل من رام الإطّلاع عليها، ليكون على بيّنة من أمره في اتّباع الأولى بالهدى ودين الحق، لأنه ليس بعد الحقّ إلا الضلال.
المراجع
1 و2– سبل الهدى والرشاد الصالحي الشّامي ج 3 ص 65
3 – السيرة النبوية ابن هشام ج 1 ص 240/ تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 15/ تاريخ الطبري ج 2 ص 293
4 – سورة الأحقاف الآية 15
5 – سورة النّمل الآية 10
6 – سورة القصص الآية 31
7 – تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 16/ الكامل في التاريخ ابن الأثير ج 2 ص 46 ــ 50
8 – صحيح البخاري كتاب التعيير باب اول ما بدئ به الرسول من الوحي ج 9ص 29 ح 6982