لم يستثمر آل سعود كلّ تلك المليارات في تأسيس المنابر الصحافيّة والإعلاميّة عبثاً. كانت تلك توجيهات المستشارين الأميركيين منذ البداية. والمهمّة: توظيف الأجهزة الأكثر تأثيراً في وعي الجمهور العربي لتعميق سرديّة التلفيق الملكيّ، والترويج لمعانٍ ثقافيّة تؤسّس لمناخات تخدم الأجندة الأميركيّة: الاستهلاكية، والتسخيف، وتبرير القتل، والطائفيّة، واليوم: التطبيع (العلني). «أم هارون» وأعمال دراميّة أخرى، هي مجرد قطب في نسيج عريض متشابك من إنتاج ماكينة هيمنة السلالة السعوديّة، يتولّى تنفيذه مثقفون عضويّون موالون للطبقة الحاكمة، وبورجوازيون (أو طامحون للبرجزة). قصّة اليهوديّة العراقيّة ـــ المنحولة كويتياً ـــ رصاصة أخرى تستهدف رؤوسنا يطلقها هؤلاء على الهواء مباشرة.
رغم التغييرات التكنولوجية الكبرى التي أعادت صوغ علاقة جمهور المتلقّين بالشاشات، فإنّ التلفزيون بقي الساحة الأكثر تأثيراً والأوسع انتشاراً. وبقبوله تعديلات بنيويّة على صيغ التلّقي ــ من دون مضمونها بالطبع ــ بداية عبر الكيبل، وحالياً عبر البث الرقمي، نجح في الاستمرار سيّداً أكبر للفنون جميعاً وملعباً للطبقات الحاكمة في حربها الدائمة لسلب وعي المحكومين وتأبيد هيمنتها عليهم، دائماً في موازاة مؤسسات المجتمع المدني الأخرى (وفق المفهوم الغرامشي: أي الدين الرسمي والمدارس والجامعات والصحافة وصناعة الثقافة).
هذا التلفزيون، أصبح منذ الحرب العالميّة الثانية، أداةً شديدة الخطورة في التنشئة الأيديولوجية، ومصدراً أساساً للمعلومات بالنسبة إلى قطاعات عريضة من البروليتاريا ــ بمعناها المعاصر ــ وعنصراً فاعلاً في توجيه الديناميات الاجتماعية ودفعها في اتّجاهات دون أخرى. نجح البريطانيون والأميركيون أكثر من غيرهم في توظيفه جزءاً لا يتجزّأ من عدّة البروباغاندا بمستوياتها: تلك المُوجّهة للاستهلاك المحليّ، كما المخصّصة لاستهلاك رعايا الإمبراطورية عبر العالم.
السلالة السعودية ـــ المعتادة بحكم التركيب القبلي الوهابيّ على السيطرة عبر مزيج من العنف الدموي وخزعبلات الدين، وبوصفها مشروع صهيون إسلامي في قلب المنطقة سبق مشروع صهيون اليهوديّ ذاته ــ تلقّت مبكراً توجيهات المستشارين الأميركيين (مهماتهم مجتمعة أقرب إلى وظيفة المندوب السامي للإمبراطوريّة البريطانيّة المتقاعدة) بشأن ضرورة توجيه استثمار معتبر لبناء ترسانة إعلاميّة أضخم بكثير من حاجة المملكة نفسها وتقاليدها وتشريعاتها: بداية لمواجهة المدّ العروبيّ الناصري الذي اجتاح المنطقة بإذاعاته ومجلاته ومنتجاته الثقافيّة، ولاحقاً في تنفيذ الأجندات الأميركيّة في «تعهير» الثورة الفلسطينية، ثم إسقاط العراق، ومعادة إيران، ومحاولة كسر سوريا.
هكذا بعد إطلاق جريدة «الشرق الأوسط» من لندن في 1978 كأوّل صحيفة فوق ـــ وطنيّة موجهة إلى العالم العربي ناطقة باسم السلالة السعوديّة، رغم غياب شبه كليّ للكوادر الوطنيّة عنها إلى وقت قريب، كانت السلالة سبّاقة إلى غزو ساحة التلفزيون الفضائي العابر للوطنيّات عبر مؤسّسة تلفزيون «الشرق الأوسط»، التي انطلقت من العاصمة البريطانيّة في بداية التسعينيات كأول وأهم شبكة تلفزيون في العالم العربي الذي اكتفى لغاية ربع قرن مضى بالعيش في ظلّ تلفزيوناته الحكوميّة السقيمة.
أنفقت السلالة مليارات على هذه المشاريع وأخرى لاحقة، واستقطبت من أجلها وجوهاً من أقطار عربيّة عدة، لكنّ خطّها التحريري النهائي بقي دائماً سعودياً محضاً. عملت على الترويج للأهداف الثقافيّة المتأمركة في المنطقة: نشر الثقافة الأميركيّة الاستهلاكيّة، وتسويق التردّي الأخلاقي والتهتك الثقافي، وتبرير القتل الأميركي في العراق وليبيا وسوريا واليمن، ونشر الطائفيّة المقيتة، واليوم توسيع بيكار التطبيع (العلني) مع الكيان الإسرائيلي عبر مسلسل «أم هارون».
ونقول التطبيع العلني، لأن صيغة التحالف الموضوعي والتاريخي بين إسرائيل والسلالات الحاكمة في الخليج ـــ على رأسها آل سعود بالذات ـــ مسألة سبقت حتى الإعلان الرسمي عن قيام الدولة العبرية. وهي تحت الرعاية الأميركية المباشرة تعمّقت وأخذت أشكالاً كثيرة سياسياً وعسكريّاً واستخباراتيّاً واقتصاديّاً ورياضيّاً وبروتوكولياً. لكن المرحلة الحاليّة من الغروب العربي ـــ بعدما أُسقطت مصر في غيبوبة كامب ديفيد، ودمّر العراق، وقسّمت ليبيا، وأضعفت سوريا ـــ صارت تحتمل الانتقال إلى لعبة أكثر وضوحاً: التطبيع العلني. وتلك اليوم حاجة ماسة للإسرائيلي كما هي للسعودي. للإسرائيلي كنوع من عبور للسياج واحتلال عقل شعوب المنطقة من دون المغامرة باحتلالات عسكريّة صارت مستحيلة استراتيجياً ولوجستياً على نحو يهّدئ من روع سايكولوجيا الفناء الإسرائيلي المحتّم في المحيط المعادي ولو لبعض الوقت. وهي تجربة كانت قد اختُبرت بنجاح من خلال الجبهة السوريّة عبر التشبيك مع الإسلاميين و(العرب الجدد) معاً. أما سعودياً، فهي ضرورة للبقاء، بعدما تسرّب عن الأميركيين عدة تصوّرات عن بدائل محتملة من نموذج آل سعود المئوي الذي بلي أو كاد في أجواء ما بعد الحداثة السياسية، في الوقت الذي تراجعت فيه مكانة مملكتهم لناحية إنتاج النفط، وتعدد فضائح إدارتهم المخجلة للدولة، وصراع الكراسي الدموي داخل السلالة، كما فشلهم الذريع في تحقيق انتصارات صريحة في سوريا، ولاحقاً في اليمن رغم جهود واستثمارات أسطورية عبر سنوات طوال.
لا يمكن مطلقاً تفكيك رموز موجة مسلسلات التطبيع التي أطلقتها مؤسسة تلفزيون «الشرق الأوسط» توازياً مع رمضان هذا العام من دون الانطلاق من تحديد صريح لهذا السياق، وبوصفها مجرّد طلقة أخرى في جعبة السلالة توجهها على الهواء مباشرة نحو رؤوسنا. وبما أن الأمر كذلك الآن بعد هذه المقدّمة الطويلة، فإنّه يمكن الشروع في عبور نقدي لتلك المسلسلات على مستويات أربعة.
على مستوى النص (أو الخطاب)، فإنّه يمكن الحديث عن محاولة هزيلة فنياً لفرض الوجود الإسرائيلي على المتلقين من خلال قصّة «أم هارون» المسروقة من التاريخ العراقي الحديث. إذ اقتُطعت من سياقها الجغرافي وأعيد بناؤها كويتياً. فالقصّة ذاتها شديدة الهامشية، وتعتمد خدعة بناء العمل الدرامي التقليدية البالية حول شخصيّة امرأة عظيمة تواجه ظروفاً مجتمعيّة قاسية وتسمو فوقها. وقد سمعت انتقادات شديدة لطريقة تصوير العمل، وعجزه عن تقديم المرحلة التي يدّعيها، ناهيك بالحوارات المفتعلة والدعائيّة. لكن الرسالة مع ذلك واضحة: اليهود تاريخيّاً من أهل المنطقة ــ الخليج والعالم العربي ــ والذي حصل باسم فلسطين كان مجرد تحويلة سير مكلفة لمسار التاريخ حان وقت الانتهاء منها، مع ترداد ببغائي لمصطلحات تتعلق بإسرائيل واليهود والأصوات والتقاليد العبريّة كي تبدأ الأذن العربيّة بالاعتياد في لاوعيها على أجواء الزمن القادم. وفي المسلسل الهزيل الآخر «مخرج 7»، حيث لا يمكن الهرب للسرديّات التاريخيّة، هناك اعتماد على شعبويات مسطّحة من الأفكار التي تبثّها الجيوش الإلكترونية السعوديّة على تويتر (يمتلكون منه حصّة وازنة). شعبويات تخدم غاية تطبيع المصطلحات والتقاليد والأصوات والموسيقات العبريّة في الأذن العربيّة، مع تشويه صورة الفلسطيني برسمه كمخلوق درجة ثانية مقارنة بالندّ الإسرائيليّ، مستسلم وضعيف ومعتمد على التسوّل للعيش، والآخرين لتحرير بلاده.
على مستوى ثانٍ، فإنّ ماكينة آل سعود في تلفزيون «الشرق الأوسط» تدرك تماماً أنها برسائلها التي ضمّنتها صيغة الخطاب التطبيعي، لن تقع على أسماع كتلة مصمتة متجانسة من الجمهور العربي. فهناك من دون شك الجمهور المحلي الخليجي القطيع ــ مع استثناءات نادرة بالطبع لكن بارزة ــ الذي يستهلك منتجات آل سعود الأيديولوجيّة من دون تفكير. وهذا الجمهور سيبتلع السمّ المدسوس إليه مع أطباق طقوسه الرمضانيّة بلا تساؤلات، لا سيّما جمهور المسلسلات الدراميّة الأهم من النساء المغيّبات في أكثرهن عن أيّ وعي طبقي أو سياسي أو حتى جندري. في المقابل، هناك الجمهور الذي سيقرأ الخطاب في إطار موقفه المعادي لإسرائيل، وسيكثر الصراخ غضباً من خيانة السلالات للقضيّة القوميّة – الدينيّة – الوطنيّة (كما شئت) من دون القدرة على فعل شيء تقريباً. لكنّه مع ذلك سيكون بدوره قد تلقى نوعاً من تدريب صوتيّ خفيّ على الثقافة العبرية قد لا يتوفر له من خلال وسائل إعلامه المحلية. وهو بالمجمل جمهور لا قيمة له في ميزان تلفزيون «الشرق الأوسط». لكنّ الجمهور الأساسي المستهدف من هذه الموجة هو تلك الكتلة الهائلة الهلاميّة الأفكار التي لا هي منخرطة ـــ بمصالحها الطبقيّة المباشرة ـــ بأنظمة السلالات، ولا هي تمتلك ـــ بعد عقود الإفساد والتجهيل والتسطيح المنظّم ــــ أيّ مناعة ثقافيّة أو وعي نقدي للتعامل مع أعمال تكوين أيديولوجي ملغّمة بالرموز الشديدة الخبث كالتي تحملها أمّ هارون. تتضمن هذه الكتلة فئتين أساسيتين: فئة الشباب صغار السنّ ممن ولدوا خلال ربع القرن الماضي وفقدوا أي ذكريات مباشرة عن فلسطين أو نضالات الفلسطينيين، وفئة البرجوازيّة العربيّة (ومتأمّلي البرجزة من أطراف البروليتاريا) الذين لا يمانعون الانتقال إلى أيّ مربّع سياسي ما دام ذلك خدمة لمصالحهم الطبقيّة. الرهان السعودي – الإسرائيلي اليوم هو على كسب هؤلاء إلى ضفتهم، وتبدو أدوات الدراما استثماراً زهيداً لتأسيس وعي مزيّف في أذهانهم تجاه قبول الإسرائيلي وإلغاء الفلسطيني. وعي يتم البناء عليه تراكماً كميّاً بالأدوات الأخرى (أدوات التواصل الاجتماعي، ونتفليكس، وبرامج الـ NGOs وغيرها) إلى أن يتحقق التراكم النوعيّ المنشود.
المستوى الثالث مرتبطٌ بالاقتصاد السياسي لعمليّة إنتاج الأعمال الدرامية وطبيعة الأشخاص المنخرطين فيها. وهنا ينبغي قراءة «أم هارون» وغيرها من التطبيعيين في إطار احتكار السلالات الكليّ ــ آل سعود أساساً وبصفتهم الشخصيّة لا الرسميّة ــ لمنظومة الإنتاج التلفزيونيّ العربي من المحيط إلى الخليج. وتلك ميزة استراتيجيّة تسمح لهم بالانفراد في نحت العقول على ما يوافق متطلبات المرحلة مع غياب شبه كليّ لأيّ سرديّات بديلة. وليست الدراما السوريّة وحدها قادرة على مواجهة هذا الطوق المحكم، لا سيّما أنها غير قادرة مالياً على منافسة الجيوب العميقة لحراس النفط. وهي تبقى في النهاية نتاج برجوازيّة عربيّة أخرى، زبائنها الأهم تلفزيونات آل سعود والخليج ذاتها، بما يفرضه ذلك من ظلال رماديّة شديدة على المحتوى المقدَّم. ولا بدّ هنا من التطرّق إلى طواقم إنتاج مثل هذه الأعمال التي تضم خليطاً واسعاً من التقنيين والموجهين والممثلين ـــ منتجو ثقافة وفق المفهوم الغرامشيّ ـــ الذين بحكم انتماءاتهم الطبقيّة (برجوازيّة أو متبرجزة) يندفعون للمشاركة بكثافة في مثل هذه الأعمال من دون تردّد، سواء عن تبنٍّ لا واعٍ لسرديات السلالات الحاكمة أو اعتصام واعٍ بباب الرزق المفتوح في مقابل الوعد بالفقر على الضفّة الأخرى، أو مزيج تلفيقي منهما.
دراما تصوّر الفلسطيني كمستسلم وضعيف يعتمد على التسوّل للعيش وعلى الآخرين لتحرير بلاده
أما على المستوى الرّابع أي المعاني والإشارات الثقافيّة الرئيسة التي يمكن عبورها من قراءة «أم هارون» وبقيّة التطبيعيين، فمن المؤكّد أن المعركة تتّخذ بشكل متزايد حدوداً أوضح بين الضفتين على نحو لم يعد يسمح بكثير من الرماديّة في المواقف. لن يُقدم حكماء آل سعود على التصريح بالانتقال إلى مستوى التطبيع العلني المتدرّج لولا إحساسهم الأكيد بوجود عميق لروح المقاومة في قلوب كثيرين في المشرق العربي ينبغي استئصالها سعياً لتطبيع دافئ بدلاً من التجربة المصريّة الشديدة البرودة رغم كل شيء. الأمر الثاني حقيقة أن الجماهير العربيّة عبر العالم مكشوفة تماماً أمام صناعة إعلاميّة منسقة غربيّة ــ سلاليّة لا قبل لهم بها، ولا عندها الأدوات النقديّة للتعامل مع ما يُفرض عليها من تغذية إجباريّة، فيما تفتقر البروليتاريا العربيّة وأعداء الهيمنة في المنطقة إلى أدوات إعلام فاعل، أو حتى فهم معمّق للمكوّن الثقافي للحرب الموجهة ضدّهم أو مدى خطورته.
في هذه الأجواء القاتمة، لا يتبقى أمام الأفراد سوى خوض معاركهم الشخصيّة ضد الطلقات الغادرة ــ «أم هارون» وكل «أم هارون» ــ أوّلها إثارة ضجيج شديد حيثما تسنّى ضد المؤسسات والأعمال والأشخاص المنخرطين في هذا الجهد الحربيّ المنظّم على جبهة الثقافة السلاليّة ـــ العبرانيّة، مع تنظيم أوسع أنشطة المقاطعة لهم جميعاً، وتشجيع المحيط المباشر على الالتحاق بها. وثانيها أن نتثقّف بكثافة ونتحاور لبناء أدواتنا النقديّة الذاتية التي تسمح لنا بأخذ المسافات المناسبة من الوجبات المسمومة المفروضة علينا. بغير ذلك، فسيغرقنا الطوفان الصهيونيّ الآتي (متأسلماً كان، أو متهوداً لا فرق).