غالبا ما يستعمل العرب لفظ العجب والعجيب، ليعبّروا به على استغراب من شيء فيه انتقاد وتنبيه، فيقولون عجبا لك يا فلان، أو عجبا لك ياإمرأة، بسبب قصر فهم، أو اتيان أمر على غير طريقه، إحداث عمل غير مألوف بينهم، وبخصوص عرب اليوم شعوبا وحكومات، لا نملك الا أن نقول لهم جميعا عجبا لكم فيما أتيتموه قديما، وعجبا لما أتيتموه حديثا، ويبقى العجب منكم أليف سيرة مضطربة، غير مستقرة على حال، شعوب نائمة حالمة وحكومات، لم تعد تميّز بين ما هو مطلوب منها وواجب عليها، وبين ما هو مملى من خارج بلدانها، ولا تقدر على ردّه خوفا من عواقب محسوبة.
لقد ابتلي العرب باستعمار فرنسي وبريطاني، فلم يرحم فيهم قيما ولا وطنا، ولم يغادر غير مأسوف عليه، باستثناء ايتامه، الذين غادروا معه، ولم يبق بيننا سوى أولئك الذين ظهروا بيننا، بوجه وطني مزيف، وظهروا لأسيادهم بمظهر العملاء الذين استجابوا لهم بلا تردد، فأخلصوا في الخدمة، بحيث أثنوا عليهم ثناء رضا، بما قدموا لهم على حساب شعوبهم.
هذا البلاء عام رسم حياة الدول العربية، الا ما رحم ربك، وهو أعلم بالمهتدين، حتى السلطة الفلسطينية، وعلى رأسها محمود عباس، هذا الحاكم بأمر بني صهيون، لا يملك حتى عن نفسه دفعا، ولو شاءوا لقتلوه، ولكن طالما أنه يعمل بما يرضي الكيان الصهيوني، ففي بقائه مصلحتهم، والشعب الفلسطيني لا يملك من أمر ازاحته من كرسي السلطة شيئا، فهو باق الى أن يرحل بكرسيه الصهيوني.
ولمن لم يكن على علم بالصراع العربي الصهيوني، أقول له إن ما أغرق القضية الفلسطينية، في وحل الضياع عربيا ودوليا، هم حكام العرب أنفسهم، فما كان بالإمكان القيام به منذ البداية، هو عدم حصر القضية الفلسطينية في اطار عربي ضيق، انتهى بها الى طريق مسدود، حُفّ بالمؤامرات، وجاءت بالهزائم والانتكاسات، ولم ينتقل ملف القضية من حال الانكسار الى عالم الانتصار، الا عندما أمسك به مفجّر الثورة الاسلامية الايرانية الامام الخميني، الذي دعا الى ازالة الكيان الصهيوني من الوجود، ولم تكن دعوته من باب المجاملة والتنظير، بل كانت نابعة من إطار ديني وعقائدي ملزم.
لقد أسست دعوة الامام الخميني واقعا جديدا للقضية الفلسطينية، وبثّت فيها روحا جهادية، لم تكن موجودة من قبل بعنوانها الإسلامي، وعلى مدى41 سنة كبر محور المقاومة، ونما بعناصره التي رفعت شعاراتها الاسلامية للتحرير، واجمعت على عدم التفريط في شبر واحد من الأراضي الفلسطينية المغتصبة، خلافا لما ذهبت اليه الدول العربية وجامعتها، التي اقتربت بخياناتها وعمالتها، من تغير اسمها الى جامعة عبرية، قد تجنّدت لخدمة أمريكا وبريطانيا وصهيونيتهما.
وقد لا يكون عجبا ما صدر قديما وحديثا، من جلسات ومؤتمرات هذه الجامعة، دورات وقمما واجتماعات، على مستوى رؤساء وملوك وامراء الدول،ووزراء خارجيتها وداخليتها، فالشيء من مأتاه لا يستغرب، وكل إناء بما فيه ينضح، وما طبع خدام الغرب الممتثلين لرغباته، في تنفيذ ما رآه متمشّيا في صالح الكيان الصهيوني الغريب عن المنطقة، والهدف منه السيطرة بواسطته عليها بأسرها واخضاعها لمشيئته.
سباق محموم بين محور المقاومة، الذي تسهر عليه إيران الاسلام، وبين المحور الثاني الصهيوني، الذي بدأ يحتضن دولا عربية خليجية، افتتحت علانيته الامارات العربية، ذات التاريخ القديم في التطبيع معه، وينتظر أن تلتحق بها دول اخرى، دون أن ننسى التاريخ المخزي للتطبيع الذي صبغ كلا من تركيا، وما أدراك ما تاريخها المشين مع الصهاينة، ومصر الكنانة وكامب دافيد وعار السادات، والاردن والملك حسين واتفاق وادي عربة.
أما جامعة الدول العربية، فهي من ذلك الجنس والنسيج، الباعث على الغثيان، كلما صدر منها بيان، فهي لا تملك غير التنديد والاحتجاج، قد اجتمع فيها لفيف من حكام، فقدوا القدرة على قيادة سفن بلدانهم الى بر الامان، فجنحت بها سياسات بنت آمالها على منح وقروض ومساعدات الغرب.
وكما عودتنا الجامعة بطلعاتها،المحسوبة لفائدة من يدفع اكثر، لم تشذّ اليوم عن أسلوبها العجيب، في خيانة قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ففي دورتها 154 كشفت، عن وجه متواطئ مع الامارات، في اتفاقها الذي اعنته مع الكيان الصهيوني، والذي ستمضي عليه في أمريكا الاسبوع المقبل، دول العرب أسقطت بتخاذلها، مجاملة للإمارات العربية، مشروع قرار فلسطيني استحقاقي، يدين اتفاق التطبيع بين الإمارات والكيان الصهيوني،فصدر البيان الختامي خاليا من الادانة، فاتحا الباب أمام من طبعوا من قبل سرّا، وعبروا على تأييدهم للخطوة الإماراتية،في خطرة استباقية لما أعدّوا له عدة الخيانة، التي لا تختلف في شيء عن كامب دافيد، واتفاق وادي عربة.
الجانب الفلسطيني اعتبر أن الموقف الاماراتي، قد شكل خروجا عن المبادرة العربية، الأرض مقابل السلام لسنة 2002، التي اشترطت ربط التطبيع، بالإنهاء الكامل للإحتلال، والالتزام بحلّ الدولتين، ما أثار استغرابنا في تونس، أن يمتنع وزير خارجيتنا عن التصويت، فلا ينتصر للمشروع الفلسطيني، فيشكل ذلك تناقضا مع موقف الرئيس قيس سعيد، التطبيع خيانة عظمى، ونتساءل إن كان ذلك بموافقة منه، أم أننا عدنا الى عصر المناورات والمؤامرات، الذي خرجنا منه منذ 2011.
القيادي محمود الزهار قال في تعليقه على إفشال مشروع القرار الفلسطيني: أن الموقف الرسمي للدول العربية من قضية فلسطين تراجع بشكل خطير الى درجة قد يصل الى الخيانة، وان هذه الفترة من اسوا الفترات التي تمر على الامة العربية في العصر الحديث،مثل هذه الحالة التي يصبح فيها العدو صديقا، وصاحب الحق العربي مهملا ومحاربا، كما يحصل مع القضية الفلسطينية.
الابعاد الحقيقية وراء هذه التحركات، هو ما يشبه انقلاب الصورة، بشأن القضية الفلسطينية، فمرحلة التخلي عليها في طورها العلني، بدأتها الإمارات العربية، في مخطط أمريكي صهيوني بات واضحا،وهو تحويل بوصلة الصراع العربي الصهيوني الى عكس وجهتها، فيصبح الكيان الصهيوني صديقا حميما العرب، وحليفا استراتيجيا للأنظمة العربية بجامعتهم، وتتحوّل ايران عدوا لدودا، تجب مواجهتها مع حلفها المقاوم بالتحالف مع أعدى أعداء الله، وهذا من أعجب العجب، الذي إذا ما حصل، وهو وارد جدّا، فإن دولا بأسرها، ستذهب بها شقوتها وحماقة أنظمتها، الى مصير لم تحسب له حسابا، وهي تحسب أنها أحسنت صنعا، بالخديعة جاءت وبالغدر ستذهب مع جامعة دار الندوة ومجتمع قريش الى جاهليتهم الأولى، وغدا ستكتمل الرّدة.