مقدمة …. لا يمكن تجاهل الرسائل الهامة والخطيرة، التي جاءت في البيان المطول للقاتل ومنفذ جريمة المسجدين في نيوزيلندا، والتي وجهها إلى دول وشعوب العالم، وخص أوروبا وتركيا والولايات المتحدة برسائلَ خاصة، استحوذت على القسم الأكبر من بيانه، وبعدما استعرضنا في الجزء الأول من مقال “سفاح نيوزيلندا وأوروبا”، نحاول اليوم قراءة الجزء الثاني والذي يتعلق بتركيا …
وللتذكير … فالقاتل ومن خلال بيئته الإيديولوجية, والأفكار المتطرفة التي يؤمن بها, وتلك التي تأثر بها كما ادعى, على الرغم من وصفه لنفسه بأنه “رجل أبيض عادي”, فقد انطلق من خندق “القومية البيضاء”، خائفا ً من “الإستبدال العظيم”، متأثرا ً ب “الإبادة الجماعية الكبرى”، رافضا ً لنظرية “الإنصهار”، والتعددية والديمقراطية الأمريكية، وقارب الملفات الكبرى من خلال مسارين الأول عرقي عنصري إنتقامي، والثاني ديني متطرف بحت، وذكر تواريخَ ومعارك، وزيارات إلى بعض الدول، ساهمت بتغيير نظرته لبعض الأحداث التي شهدها العالم.
واليوم سنجوب في بعض الصفحات وفي رسائله التي خص بها تركيا، من خلال الجزء الثاني.
الجزء الثاني – “سفاح نيوزيلندا – وتركيا
قبل الغوص في التفاصيل، لا بد من الإشارة إلى أن سفاح نيوزيلندا ليس شخصا ًمعتوها ً أو مهووسا ً، بل على العكس تماما ً، إذ يبدو أنه (ومن ورائه) قارئٌ للتاريخ، مدركٌ تماما ً للمعلومات ولتواريخ المعارك ونتائجها ولكافة الأحداث التي ذكرها، ويملك مخزونا ًمعرفيا ً مكنه من الحديث عن “الإستبدال العظيم” و”الإبادة الكبرى” والتي يقصد بها أحداث راوندة، والحديث عن كوسوفو وغير مجازر ومعارك ذات صبغة دينية، ولحدود تركيا السلطنة، وتركيا – لوزان …
** مالذي دفعه لتوجيه الرسائل إلى تركيا … من هي تركيا، ومن هو أردوغان بنظر “تارانت”؟
فقد وجه القاتل, كلاما ً مباشرا ًورسائل مرعبة لتركيا الحالية وللدولة العثمانية, وتوعد إسطنبول وماّذنها ومساجدها ووهاجم الدولة التركية الحديثة بحدودها الحالية وبشعبها الحالي وكتب على سلاحه “التركي الفج”, وطالبهم بالعودة إلى الأراضي التي أتوا منها, وألاّ يتخطوا أراضي شرق البوسفور, والإستيطان في الأراضي الأوروبية وإلاّ “فسيُقتلون كالصراصير”… وانتقد علاقتها بالدول الأوروبية, وأراد دق اسفين بين أعضاء حلف الناتو الأوروبيين وتركيا، بهدف “إعادتها إلى مكانتها الطبيعية كقوة غريبة ومعادية”, وتوعد بتحرير القسطنطينية وبعودتها مُلكا ً مسيحيا ً من جديد …
كذلك هاجم بتاريخ الدولة العثمانية السابقة، وهلل للمعارك التي خسرتها، وعبّر من خلال بيانه عن مدى حقده وكراهيته لهم، وهلل لقادة وسفاحين شاركوا في معارك دينية ضد الإسلام والمسلمين في صربيا وكوسوفو ورواندة …وتوج رسائله إلى تركيا بأن طالب بقتل أردوغان و(محمد خان عمدة لندن، بالإضافة إلى أنجيلا ميركل)
وذكر في بيانه أنه لا يكره الإسلام، إنما هو رجل أبيض يسعى “لمنع الإسلام من غزو أوروبا” لأجل مستقبل أبناء جلدته، وأنه نفذ الهجوم انتقاما ل ” ملايين الأوروبيين الذين قتلهم الغزاة الأجانب عبر التاريخ وآلاف الأوروبيين الذين قضوا في هجمات إرهابية على الأراضي الأوروبية”.
من الواضح أن القاتل، استحضر حروبا ً خاضتها الدولة العثمانية تحت عنوان ديني، وتخطت لأجلها حدودها، واحتلت أراضٍ وحاولت الإحتفاظ بها إلى الأبد، هي تلك الأراضي التابعة للأوروبيين البيض – بحسب تارانت-، واستجلبت بشر غرباء بالعرق والدين واستعمرت الأرض، وصبغتها بصبغتها، وارتكبت الجرائم وسفكت دماء الأوروبيين البيض اللذين دافعوا عنها.
ويذهب بكراهيته وبدوافع إنتقامه إلى أبعد من طرد وإقتلاع كل أساسٍ كرسه الاحتلال العثماني لبلادهم، ويصل إلى ما قبل نشوء وقيام الدولة العثمانية، وهدد بالزحف واستعادة القسطنطينية وإزلة مساجدها وماّذنها، واستعادة كنيسة اّيا صوفيا.
أما عن تركيا الحالية والرئيس أردوغان …. فيراهما من خلال مسارين، الأول محاولة أردوغان تقديم نفسه كقائدٍ إسلامي والمدافع الأول عن فلسطين المحتلة، وقائدا ً إسلاميا ً ومحررا ً للشعوب العربية من حكامها وأنظمتها، بعدما رعى ودعم ودرب وسلح كافة التنظيمات الإرهابية التي ادعت إيديولوجية إسلامية، كداعش والنصرة والإخوان المسلمين وعشرات المسميات لعشرات الجماعات الإرهابية من ذات النسيج، والتي قطعت الرؤوس وسفكت الدماء تحت ذريعة تطبيق شرع الله، والتي استطاعت جلب عددا ً محدودا ً من “المجاهدين الإسلاميين” إلى صفوفها من الأوروبيين البيض.
والمسار الثاني هو إعلان أردوغان نفسه كقائدٍ عثماني جديد، يسعى للمطالبة بتصحيح “الخطأ والظلم” الذي وقع على الدولة العثمانية، وسُرقت منها أراضيها عبر إتفاقيتي سيفر ولوزان، وعبر مشروعه في سوريا والذي يهدف لإستعادة ما يدعيه من حقوق، وعائدية أراضي الشمال السوري وحلب وأجزاء واسعة من أرياف حماة وإدلب وشمال غرب اللاذقية، إلى دولة السلطنة….
ناهيك عن إقترافه الذنب الكبير، عبر الدفع بالهجرات الجماعية للهاربين من الحروب في سوريا والعراق بإتجاه أوروبا، لتتفاقم أزمة القاتل تارانت ومن يشبهونه، ويزداد عدد الغرباء وغير البيض الأوروبيين، من اللذين لا يتوقفون عن الإنجاب – بحسب تارانت-، الأمر الذي يعزز هواجسه ومخاوفه وقناعاته (ذرائعه) بنظرية “الإستبدال العظيم”.
وعليه طالب بقتل أردوغان كممثل لتركيا الحالية وللدولة العثمانية، وبإعتراف أردوغان الذي قال:” القاتل يستهدفني شخصيا ً ويستهدف وبلادي”، كما طالب بقتل أنجيلا ميركل التي رحبت باللاجئين السوريين وأعلنت استعداد بلادها لإستقبال 200 ألف لاجئ سنويا ً، وطالب بقتل عمدة لندن المسلم الذي يحكم لندن والذي نال المسلمين في عهده مزايا لم يكونوا ليحصلوا عليها في السابق.
*إعلان طرفي الحروب الدينية القادمة (متطرفي النسخة الإسلاموية، ومتطرفي النسخة المسيحية اليمينية) .…
بات من الواضح أن من يمسكون بحبال اللعبة الكبرى, وأصحاب مشروع السيطرة على العالم, يسعون إلى منح الأوروبيين البيض الذريعة لإنتاج نسخهم المسيحية الإرهابية المتطرفة, على غرار الشرق الذي أنتج نسخه المتأسلمة كداعش والنصرة … إلخ, وبذلك يكون أردوغان قادرا ًعلى جرّ إرهابييه إلى ساحات قتالٍ أخرى, ويستطيع بذلك إخلائهم من الساحة السورية والعراقية وحيث هزموا, وضمهم إلى من يستنبطهم من ملايين السوريين, والمتطرفين الأتراك, ومن غير بلاد إسلامية ليشكلوا الطرف الأول, فيما يستعد الأوروبيون لإنتاج نسخهم من بيض الدول الأوروبية ( المتطرفون المسيحيون في أوروبا والبرازيل والأرجنتين وأستراليا ونيوزيلندا , واللذين يعتبرهم فريق “تارانت” هم الأوروبيون الحقيقيون ) , ليشكلوا الطرف الثاني للحروب القادمة.
فيما يساعد تأجيج الأجواء بين غرباء أوروبا من غير البيض أي من اللاجئين والمهاجرين العرب والأفارقة من مسيحيين ومسلمين وملحدين … إلخ، وبما بات يعرفون بالشعبويين، عبر زجهم في احتجاجات السترات الصفراء والأوشحة الحمراء وغيرها، الأمر الذي يساعد بإصطدامهم باليمينيين المتطرفين على تسخين الأجواء والتمهيد لدخولهم المعركة.
*هل أردوغان هو قائد إسلامي حقيقي ….
بالتأكيد، من يعتمد على الإرهابيين كداعش وجبهة النصرة والجيش الحر وغيرهم، وتحت ذريعة دعم المعارضة السورية لتغيير النظام السياسي في سوريا بحثا ًعن دعم الحرية والديمقراطية، هو شخص معاد للإسلام قولا ًواحدا ً، فقد ساهم أردوغان بشكل مباشر وعنيف ومتعمد, في الإساءة إلى الدين الحنيف، وإلى كافة المسلمين , وقدم الإسلام إلى العالم على أنه المحرك الأساسي وجوهر الإيديولوجية الساعية إلى السلطة عبر إقامة إدارات التوحش, وصلب الناس وتعذيبهم بحجة تطبيق شرع الله في المجتمعات والمناطق التي تحتلها وتسيطر عليها.
إن توقيت مجزرة المسجدين في نيوزيلندا ورغم الادعاء بالتخطيط لها منذ عامين, إلاّ أنها تأتي في وقتٍ يبحث فيه العالم عن حل لمشكلة الإرهابيين المهزومين في المعارك في سوريا والعراق, وسط رفض عديد الدول من عودة الإرهابيين إلى بلادهم, ولحشر أردوغان بعدد كبير من الإرهابيين اللذين يتحركون بإمرته في إدلب السورية, وأولئك المتواجدين على الأراضي التركية, وبحوالي أربعة ملايين لاجئ سوري على الأراضي التركية, وحشره بالتقارب مع إيران وروسيا, وبعدم الإبتعاد والخروج عن إرادة مشغليه الأمريكان, فكان القرار الأمريكي حول رفض إقامة المنطقة العازلة بالشروط التركية, وبعدم موافقتها على عودة اللاجئين, أسبابا ً إضافية لعدم إنسحابها من سوريا.
نلقاكم في الجزء الثالث بإذن الله