يشترك معي كثير من المؤمنين بأن من قيّضه(1) الله سبحانه ليكون رجل إصلاح الأمّة الإسلامية في هذا العصر، هو الإمام المجتهد المجدد، روح الله الموسوي الخميني رضوان الله عليه، ذلك أنه لم يكن عالما مدرّسا لعلوم الدين، ومؤلّفا لتخصّصاتها المتفرّعة فقط، مع ما في ذلك من فضل كبير وخير عميم، ولكنه كان فوق ذلك عاملا بما علِم، مجاهدا في سبيل الإسلام، بالكلمة والموعظة والموقف المتطابق مع أحكام الله، لم يخش فيها لومة لائم، وكان هدفه فقط إرضاء الله في جميع حركاته الإصلاحية.
من أجل تفانيه وصدقه أحبه الشعب الإيراني، ومعهم شتات من المؤمنين بحتمية قيام الدين، على يد مصلح عظيم، أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله، أنه من قوم سلمان المحمّدي الفارسي، يمهّد لمولى الأمة الإسلامية الإمام المهدي عليه السلام، في إظهار هذا الدين على الدين كله، كما في النصوص التي في كتبنا الإسلامية المعتبرة، وقد مثّلت حركته الإصلاحية الثورية، قياما مباركا من طرف الشعب الإيراني المسلم، نجح في ازاحة نظام حكم دكتاتوري عميل، لم يكن الغرب بدوله الداعمة له تتوقع سقوطه المدوّي، وزادهم حيرة وذهولا اختيار الشعب لنظامه الإسلامي، الذي اقترحه عليهم قائدهم الرّبّاني المُطاع.
من بين طروحات الإمام الخميني في سبيل إصلاح شعبه وأمّته الإسلامية، نشره لثقافة الإسلام المحمّدي الأصيل، وتوجيه المسلمين إلى معرفة معنويات وروحانيات شعائرهم، بالقصدِ الذي أراد تبليغه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لا معنى لحركاتٍ ظاهرية يقوم بها المسلم، دون أن تكون لديه ثقافة البعد الروحي والمعنوي لتلك الحركات، سواء أكانت متعلقة بأركان صلاة، أو أعمال مشاعر حج وعمرة، ثقافة روحية استلهمها الإمام الخميني رضوان الله عليه، من آداب وسلوك الأئمة الهداة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
فهو مثلا عبّر عن تعريف الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام لحقيقة الصلاة، في رسالته الشهيرة المعروفة برسالة الحقوق، بقوله: “فأمّا حقوق الصلاة، فأن تعلم أنها وفادةٌ إلى الله، وأنك فيها قائمٌ بين يدي الله، فإذا علمت ذلك، كنت خليقاً أن تقوم فيها مقام العبد الذليل، الراغب الراهب الخائف، الراجي المسكين المتضرّع المعظّم، مقام من يقوم بين يديه، بالسكينة والوقار، وخشوع الأطراف، ولين الجناح، وحسن المناجاة له في نفسه، والطلب إليه في فكاك رقبته، التي أحاطت بها خطيئته واستهلكتها ذنوبه، ولا قوة الا بالله”.(2)
كما شرح ابعادها الروحية والمعنوية بقوله: “إعلم أن أهل المعرفة يرون القيام، إشارة إلى التوحيد الأفعالي، كما أن الركوع عندهم، إشارة إلى التوحيد الصفاتي، والسجود إلى التوحيد الذاتي، وأما الكلام بأن القيام إشارة إلى التوحيد الفعلي، فهو أنّ في نفس القيام إشارة إلى هذا وضعاً، وفي القراءة إشارة إليه لفظاً”.(3)
من بين دعوات الإمام الخميني رضوان الله عليه، الموجّهة منه فكريّا لإصلاح ما بهتت معالمه من هذا الدين، دعوته المباركة لتفعيل شعيرة الحج إلى بيت الله الحرام.
” عندما يقف الحجاج في المواقيت الإلهية، والمقامات المقدّسة في جوار بيت الله تعالى المبارك، ينبغي أن يُراعوا آداب الحضور في محضر الله المقدّس، وأن لا تتعلق قلوبهم بأيّ شيء غير الحقّ، وتتحرر من كل ما هو غير حبيب، وأن تتنوّر بأنوار التجلّيات الإلهيّة، حتى تتجمّل هذه الأعمال ومناسك السّير إلى الله، بمحتوى الحج الإبراهيمي، ومن ثم الحج المحمّدي، وأن يعودوا إلى أوطانهم سالمين من أيّام الأنانية، يحملون معهم زاد معرفة الحق وعشق المحبوب.” (4)
كما أن الحج في جوهره الأساسي تعبير عن مفهومين أساسيين ضروريين في حياة المسلمين، وهما إعلان البراءة من أعداء الله، كما أمر الله به في كتابه العزيز: (وآذان من الله ورسولِهِ الى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولُهُ) (5) وأمر بتنفيذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة التاسعة من الهجرة، فيما عُرف بالحج الأكبر، فلا يكون الحج مكتملا بدون اعلان البراءة والخروج عمليّا من دائرة تأثير شياطين الإنس والجن من أهل الشرك والكفر والنفاق، سواء أكانوا اشخاصا، أم مؤسسات، أم أحزاب، أم حكومات، أم أصحاب نظريات عقيمة ثابت عُقمها، لا ترى في شريعة الإسلام مصدرا أساسيا ووحيدا لقيادة البشرية، كما أن في اعلان الولاية لله بالخضوع له، وإتّباع أوليائه الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
وهذا ما كان يقصده الإمام الخميني رضوان الله عليه، من ثقافة تعرية مظاهر الشرك في نفس الإنسان وعلاقاته، بصرخة إعلان البراءة، من مركزها في النفس وخارجها، وإعلان الولاية لأهل الإسلام المخلصين له قولا وعملا، وهذا ما أزعج كل أولئك الذين كانوا لا يرون بأسا، من بقاء علاقاتهم المتعدّدة قائمة، مع قوى الشرك العالمي، قوى الإستكبار والصهيونية، وسائر تكتّلات معاداة الإسلام المحمّدي، من قوى النفاق المتغلغل بيننا، بالإساءة إليه وسكوت المسلمين شعوبا وحكومات على ذلك.
لقد أعطى الإمام الخميني الحج ثلاثة ابعاد: بعدا معنويا، وآخر إجتماعي، وثالثا سياسيا. وهو يربط البُعْدين الأخيرين بالبعد الأوّل لُزوما.
“إنّ البُعد السياسيّ والإجتماعيّ للحجّ، لا يتحقّق إلّا بعد أن يتحقّق البُعد المعنويّ”
أما البعد المعنوي:
إنّ المراتب المعنويّة للحجّ، هي رأسمال الحياة الخالدة، وهي الّتي تُقرّب الإنسان من أُفق التوحيد والتنزيه، وسوف لن نحصل على شيء منه، ما لم نطبّق أحكام وقوانين الحجّ العباديّة، بشكل كامل وصحيح، وعلى الحجّاج المحترمين والعلماء المعظّمين مسؤولي قوافل الحجّاج، أن يصرفوا وقتهم، ويكون كلّ همّهم تعلّم وتعليم مناسك الحجّ، وعلى العارفين مراقبة من يرافقهم، حتّى لا يتخلّف أحدٌ عن الأوامر لا سمح الله، إنّ البعد السياسيّ والاجتماعيّ للحجّ لا يتحقّق إلّا بعد أن يتحقّق البُعد المعنويّ والإلهيّ، وأن تكون كلمة “لبّيك” الّتي تتلفّظون بها، استجابة لدعوة الحقّ تعالى، وأنتم مُحرِمُون لأجل الوصول إلى ساحة الحقّ المقدّسة، تشعرون بأنفسكم أنّكم بالتلبية للحقّ تعالى، تنفون صفة الشرك بجميع مراتبها، وتهاجرون بأنفسكم الّتي هي منشأ الشرك الأكبر، نحو الباري جلّ وعلا، والأمل في أن ينال الباحثون عن ذلك أجرهم – وهو على الله – فيما لو أدركهم الموت، وهم في طريق هجرتهم. (6)
أما البعد الاجتماعي: فيقول فيه: إنّ إحدى الفلسفات الاجتماعيّة لهذا التجمّع العظيم توثيق الوحدة بين أتباع نبيّ الإسلام. (7)
أما البعد السياسي: فقال فيه: ” إنّ إحدى أكبر فلسفات الحجّ ـ القضيّة ـ هي البعد السياسيّ الّذي تسعى أيادي الجُناة لاقتلاعه واجتثاثه من كافّة جوانبه وهم يعملون على ذلك. وللأسف إنّ دعايات وتبليغات هؤلاء قد أثّرت على المسلمين حيث أصبح كثيرٌ من المسلمين يعتبر أنّ السفر إلى الحجّ عبارة عن عبادة جافّة وصعبة وخالية من أيّ تفكير بمصالح المسلمين. إنّ الحجّ منذ ذلك اليوم الّذي وجد فيه لم يقلّ بعده السياسيّ أهميّة عن بعده العباديّ أبداً، وإنّ البعد السياسيّ بنفسه عبادة، إضافة لكونه سياسة.” (8)
إنّ البعد السياسيّ لهذه المناسك العظيمة من أكثر الأبعاد المهجورة. وقد عمل الجُناة وما زالت أياديهم الخائنة تعمل أكثر وستبقى تعمل لأجل إبقائه مهجوراً.
ينبغي على الملتزمين والواعين والّذين تحترق قلوبهم لأجل غُربة الإسلام، وهجرانه أن يبيّنوا هذا البعد في أحكام الإسلام وخاصّة في أحكام الحجّ، حيث إنّ هذا البعد أكثر وضوحاً وتأثيراً. لينهضوا جميعاً ويسعوا لأجل ذلك من خلال أقلامهم وأحاديثهم وبياناتهم وكتاباتهم وخصوصاً في أيّام موسم الحجّ وبعد الانتهاء من هذه المراسم العظيمة، وعودتهم إلى ديارهم وبلادهم.(9)
إنّ إعلان البراءة من المشركين، تُعتبر من الأركان التوحيديّة، والواجبات السياسيّة للحجّ، فحاشا أن يتحقّق إخلاص الموحّدين في حجّهم، بغير إظهار السخط على المشركين والمنافقين، وأيّ بيت هو أفضل من الكعبة، البيت الآمن والطاهر، بيت الناس، لنبذ كلّ أشكال الظلم والعدوان، والإستغلال، والرقّ، والدناءة، واللا إنسانيّة قولاً وفعلاً، وتحطيم أصنام الآلهة، تجديداً لميثاقه: ﴿ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ﴾…(10)
المعنى والمصادر:
1 – قيّضه بمعنى هيّأه وأعدّه
2 – بحار الأنوار العلامة المجلسي ج81 ص248
3 – كتاب سرّ الصلاة /حيث يشرح الإمام الخميني قدس سره العلاقة بين الأفعال الثلاثة، وكل من التوحيد الأفعالي والصفاتي والذاتي في فصول: في أسرار القيام، في بعض أسرار الركوع، في سر السجود
4 – صحيفة الامام ج16ص384
5 – سورة التوبة الآية 3
6 – أبعادُ الحجّ في كلام الإمام الخميني ص18
7 – نفس المصدر ص33
8 – نفس المصدر ص44
9 – نفس المصدر ص45
10 – نفس المصدر ص64