تشخص الأعين اليوم إلى منطقة الخليج العربي، إثر التصعيد المتسارع الذي بدأ بقرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منع إيران من تصدير نفطها، ووصل مداه بتفجيرات ناقلات النفط في ميناء الفجيرة الإماراتي. وأصبح السؤال الأكثر تردداً في كل مكان من الفاعل؟
شملت الإجابات والتحليلات طيفاً واسعاً من الدول والجهات، في تقارير إعلامية وتحليلات سياسية تعكس الخلفيات الإيديولوجية والموقف السياسي لمن قدمها، لكننا نستطيع تسجيل ملاحظتين على هذه التقارير.الملاحظة الأولى؛ غياب أي اتهام للتنظيمات الإرهابية التقليدية (داعش، أو النصرة)، أو الأحزاب والمنظمات التي تصنفها الولايات المتحدة وبعض دول الخليج تنظيمات إرهابية.
الملاحظة الثانية؛ أن «أنصار الله» المتهمين بتلقي الدعم من إيران، قاموا بقصف منشآت نفطية تابعة لشركة أرامكو، ما فسره البعض بأنه «يعكس رغبة إيرانية بالتصعيد»، كما أن «أنصار الله» أعلنوا مسؤوليتهم عن هذا القصف، وهددوا بتكراره في حال استمرار قصف التحالف المدن اليمنية.
تعزز الاستنتاج لدى بعض المحللين بأن الطرفين الأمريكي والإيراني يرغبان في حرب ما (واسعة أو محدودة)، من خلال صور الزوارق الحربية الإيرانية وهي ترافق ناقلات النفط الإيرانية في الخليج، وما تبعها من الإعلان عن عبور حاملة الطائرات أبراهام لينكولن قناة السويس باتجاه منطقة الخليج.
ولهذه القطعة البحرية تاريخ رمزي يعزز الاستنتاج بالتوجه نحو الحرب، فقد شاركت في عملية «عاصفة الصحراء»، وقيادة قوات المهام الخاصة في الصومال، كما شاركت في عمليات القصف في السودان وأفغانستان، كذلك شاركت القطع البحرية المرافقة لها في الأعمال القتالية في منطقتنا. فالمدمرة «يو إس إس بينيريدج» شاركت في التصدي للقراصنة في خليج عدن، واشتهرت بعملية إنقاذ القبطان الأمريكي «ريتشارد فيليبس»، وهي العملية التي حولتها هوليوود إلى فيلم بعنوان «كابتن فيليبس». أما المدمرة «يو إس إس مايسون» فقد قامت في العام 2016 بقصف مواقع للجيش اليمني و«أنصار الله» بدعوى تعرضها للقصف من مواقع تابعة لهم.
التقطت وسائل الإعلام هذه الإشارات، وصعدت الحديث باتجاه الحرب، وتبرعت بعض وسائل الإعلام، خاصة الخليجية، بوضع سيناريوهات المعركة، وإطلاق التهديدات في كل الاتجاهات.
الشيء الوحيد الذي بدا خارجاً عن سياق التصعيد العسكري والإعلامي، كان رد الفعل الإيراني الذي كان واثقاً من صعوبة وصول الأمور إلى درجة المواجهة العسكرية المباشرة. وبرغم بعض التصريحات الحازمة لبعض مسؤولي الحرس الثوري التي كان الهدف منها طمأنة الشارع الإيراني لاستعداد بلاده للحرب حال حدوثها، لكن الخطاب السياسي الإيراني حافظ على هدوئه.
بعد مرور أيام على الأزمة، بدأ الضباب يتبدد، وظهر أن الهدوء الإيراني كان في محله، فبعد فشل زيارة وزير الخارجية الأمريكي بومبيو إلى أوروبا لحشد موقف موحد داعم للموقف الأمريكي، والتصريحات الروسية والصينية الرافضة للتهديدات الأمريكية. وجدت الولايات المتحدة نفسها وحيدة في المواجهة، كما أجهضت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المخطط الاحتياطي الأمريكي القائم على استفزاز إيران للانسحاب من الاتفاق النووي، ما يمنح الولايات المتحدة مسوغاً لدفع شركائها الأوروبيين لتغيير موقفهم. التقطت الدبلوماسية الإيرانية الإشارة الروسية، وسرعان ما قام وزير الخارجية الإيراني بجولة على مجموعة من العواصم من بينها طوكيو، لتأكيد التزامها بالاتفاق النووي، وهو الأمر الذي أكده الاتحاد الأوروبي. لم تكتف إيران بتأكيد موقفها، بل سعت إلى تحويل الأزمة إلى فرصة للمطالبة بتحويل الدعم اللفظي الأوروبي، إلى إجراءات على الأرض.
استمرت حدة الأزمة في التراجع، وتمثل ذلك في الإهمال الأمريكي اللافت لحادثة قصف منشآت أرامكو في السعودية.
تسارع التراجع الأمريكي، ووصل ذروته خلال زيارة الرئيس السويسري إلى الولايات المتحدة، والبدء (كما يبدو) بقناة خلفية للحوار غير المباشر، هذا التراجع المتسارع يطرح تساؤلاً مشروعاً عن جدية الولايات المتحدة في الذهاب للحرب أصلاً؟!
لا نستطيع التغاضي عن أن فكرة الحرب قد جالت في بال الكثيرين في الإدارة الأمريكية، خاصة أولئك الذين ينتمون إلى معسكر اليمين النيوليبرالي من أمثال مستشار الأمن القومي جون بولتون، السياسي الأمريكي الذي اشتهر إبان العدوان على العراق عام 2003، ولعب لاحقاً الدور الأهم في صياغة ما يسمى «قانون محاسبة سورية» عام 2005. من الواضح، أن الدوائر السياسية والاقتصادية الأمريكية، سمحت ببعض حرية التحرك لتيار التصعيد، وقبلت بجر الأمور إلى حافة الهاوية، بهدف استثمار الحصار المفروض على صادرات النفط الإيرانية، وقبلها على صادرات النفط الفنزويلية، ووضع المزيد من الضغط على صادرات النفط السعودية، ما ينعكس ارتفاعاً على أسعار النفط تستفيد منه الشركات الأمريكية ويضع ضغوطاً على الصين، يؤدي إلى ارتفاع أسعار منتجاتها التي تعد المنافس الرئيس للمنتجات الأمريكية والأوروبية. لكن التعنت الأوروبي في قبول هذا السيناريو، وانشغال بريطانيا بأزمتها السياسية الداخلية المتعلقة بالبريكست، بالإضافة إلى معطيات أخرى، كلها أدت إلى سحب البساط من تحت أقدام الصقور، وعودة الأمور إلى خانة التهدئة، وهو ما تجلى بتصريحات الرئيس ترامب بأن وسائل الإعلام نقلت سيناريوهات أدت إلى تأزيم الموقف، وأنه لا يريد الحرب مع إيران.
الحرب في زمن النفط لها شروط كثيرة، والإمكانات العسكرية ليست سوى واحد من هذه الشروط. فالوضع الجيواستراتيجي لإيران وحلفائها في المنطقة أكثر قوة. وهي قادرة على إعاقة التجارة الدولية في ممرين بحريين مهمين (مضيق هرمز وباب المندب)، كما أن وصول ضربات إيران وحلفائها إلى أهداف في السعودية و«إسرائيل» أمر سهل، مقارنة بإمكانية ضرب أهداف داخل العمق الإيراني. ما زالت الحرب احتمالاً بعيداً، والتراجع الأمريكي فرصة لنا للتقدم على جميع الجبهات. هذه الفرصة لم تكن متاحة يوماً في تاريخنا الحديث، كما هي متاحة اليوم. فالطليعة المقاومة للأمة بقيادة الجيش العربي السوري في حالة تقدم على الأرض، وهي قادرة على تشكيل الرافعة الضرورية لإطلاق مشروع التحرر الوطني العربي والوصول به إلى أهدافه.
كاتب من الأردن