المهندس: ميشيل كلاغاصي |
إحتجاجاتٌ، تظاهرات، هتافات، مناوشات، قطع طرقات وشلل شبه تام لحركة السير، شرطة، جرحى، معتقلين، خراطيم مياه وغازات مسيلة للدموع … متطاهرون بالاّلاف، وأصحاب “السترات الصفراء ” يملئون المكان، ويحتشدون لثلاثة أيام متتالية في ألفي موقع في أنحاء فرنسا.
احتجاجاتٌ، اتهمت الرئيس الفرنسي بعزلته عن واقع الشعب و”بإهمال الفقراء”، وبعدم التزمه بوعوده الإصلاحية بتجديد الاقتصاد الفرنسي، وبإصرار الحكومة على تطبيق وتمرير بعض القوانين والإجراءات التي تُفقد الكثير من العمال الفرنسيين والمؤقتين منهم، عديد الإمتيازات المالية والإجتماعية، وتطال العاملين في مختلف القطاعات من السائقين على السكك الحديدية والقطارات والمستشفيات ودور الحضانة والمؤسسات التعليمية وصولا ً إلى بعض المحاكم…. فغلاء المعيشة وارتفاع الضرائب وسلسلة القرارات الحكومية الخاطئة التي تسببت بتراجع القدرة الشرائية وبرفع أسعار الوقود و…. بل شملت أنظمة التوظيف والمعاش المبكر وتثبيت المؤقتين …إلخ، والأهم لجوء الحكومة إلى تطبيق نظام المراسيم القاضي بتمرير الإصلاحات دون موافقة مسبقة للبرلمان.
في الوقت الذي يتهم الرئيس ماكرون معارضيه معارضيه السياسيين بإستغلال حركة “السترات الصفراء”، من أجل وضع العراقيل في طريق برنامجه الإصلاحي، ويبرر ووزير داخليته رفع أسعار الوقود بإرتفاع الأسعار العالمية، في وقتٍ أعلن فيه رئيس الوزراء تمسكه بقرارات رفع الضرائب على المحروقات، وزيادة ضرائب التلوث، والمحافظة على ضريبة الكربون “الانتقال الإيكولوجي” , مع حرصه على القيام ببعض المبادرات لتحسين القدرة الشرائية ورصد بعض المساعدات لبعض الفقراء, مع تأكيده على “شجب الفوضى واحترام حرية التظاهر” لتبقى الأزمة قائمة ويبقى الغضب الشعبي قائما ً وسط خشية وزير الداخلية من التكلفة “بالأرواح” بالتوازي مع ازدياد أعداد المحتجين والمصابين.
ويتساءل البعض عن حركة “السترات الصفراء”، وهل هم من المعارضين أو المؤيدين لماكرون؟ هل يتحركون حزبيا ً أو نقابيا ً ومن هم قادتهم وكيف ينسقون تحركهم؟ وما هي حدود قدرتهم على استمرار التظاهر والتوقف عن العمل؟ ومع غياب الزعماء والقادة وحتى المتحدثون الرسميون باسمهم يبقى من الصعب التنبؤ بما سيحدث.
فعلى الرغم من دعم وتأييد أحزاب الوسط واليمين وأقصى اليمين واليسار ومتشددي اليسار، إلا أن أحدا ً منهم لم يعلن تبنيه لهذه الحركة، وتبقى الخطورة في إصرار الحكومة و “السترات الصفراء” على مواقفهم، مع عدم كفاية التحرك الحكومي بإتجاه تلبية المطالب الشعبية … الأمر الذي يُبشر بإستمرار الاحتجاجات.
فبعد عام من إنتخابه، يقف إيمانويل ماكرون عاجزا ً أمام ناخبيه، مؤكدا ًهزالة مقعد الرئاسة، نظرا ً لغياب القيادات الفرنسية الكبرى القادرة على استحواذ الإلتفاف الجماهيري الواسع حولها، بما يعكس حالة الإنقسام الكبير في الشارع الفرنسي داخليا ً، حول قضايا الإقتصاد المتردي، اللاجئين، الصحة، والبطالة … وخارجيا ًحيال مواقف وسياسات الحكومة تجاه الصراعات الدولية ومحاربة الإرهاب، والحروب العسكرية والتجارية.
فوعود الرئيس باتت عبئا ًعلى كاهله، وساهمت بإنخفاض شعبيته إلى مستوياتٍ قياسية، وفضحت فشله في التحكم والموازنة ما بين وعوده وقدراته وخيارات ورغبات الفرنسيين في الإصلاح اللذين منحوه أصواتهم، فتراه اليوم يقف عاجزا ً أمام تخبطه ونزيف رصيده الشعبي، بما يُثبت أنه ليس أفضل ممن سبقوه في حكم فرنسا خلال الربع قرن ٍ الماضية، بدءا ً من الرئيس شيراك وصولا ً للرئيس هولاند.
فالرجل يحصد نتائج زرعه وسيره بعكس الرياح العالمية والأوروبية التي تشهد تصاعدا ً لأحزاب وتيارات المد القومي واليميني، حيث اعتمد وفق ما دعي ب “الشعبوية” على فئات لا يعرفها ولا يضمن ولائها ووقوفها إلى جانبه، يعبر عن هشاشة التركيبة الاجتماعية المحدثة، دون الغوص في تاريخهم وأحلامهم وأهدافهم، كونهم في الغالب من الغرباء ومن الفئات التي استجلبتها فرنسا الإستعمارية، أو ممن أوصلتهم رياح التهجير والهجرات الشرعية واللاشرعية، من الاّسيويين والأفارقة والشرق أوسطيين، الباحثين عن حياة جيدة وجديدة.
إن حاجة فرنسا للجنود والأيدي العاملة ولمليء الأرياف الفارغة, وللخبرات المجانية, دفعها لتجنيس الملايين منهم, وأصبحوا فرنسيين بحكم الإقامة والهوية الجديدة والإندماج , لكن يبقى على رأس أولوياتهم الإهتمام بسلامتهم وأمنهم ورزقهم ورفاهيتهم , ولا تعنيهم الدولة الفرنسية من حيث الإرث التاريخي والبعد القومي, ولا تعنيهم هيبة فرنسا ولا سمعتها الدولية وتصنيفها بين الأمم, على عكس الفرنسيين الأصليين اللذين يُفاخرون ويتباهون ويعتزون بوطنهم وتاريخه وهيبته وسمعته وحاضره ومستقبله, ويستعدون لتقديم مصالح “فرنسا العظمى” على مصالحهم الشخصية… وكم يبدو باهتا ً اليوم مشهد مباهاة (الشعبويين) بفوز فرنسا بكأس العالم عبر اللاعبين من الأصول غير الفرنسية, أمام ماكرون التائه في سياسته الخارجية والعاجز أمام تردي أوضاع البلاد, والإحتجاجات, والتي لا يمكن لأحد التنبؤ بما ستسفر عليه مع غياب الحلول وبالأحرى مع غياب القادة التي تأتي بالحلول.
يبدو أن الشعب الفرنسي بكافة أحزابه وتياراته اليمينية واليسارية والجمهوريين والحياديين والشعبويين، يتحملون مسؤولية ما يحث في فرنسا بعدما قاموا بإنتخاب ماكرون رئيسا ً لفرنسا ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث وإنتخاب قائدٍ حقيقي، وبإعتراف ماكرون: بفشله في “مصالحة الشعب الفرنسي مع الزعماء”.