ما زالت الاحداث في السودان تتصدر جميع الصحف الإقليمية وتثير اهتمامات دولية نظرا ربما للموقع الاستراتيجي للسودان وأهميته موقعه في القرن الافريقي الذي تتكالب العديد من الدول على مد سيطرتها ونفوذها الى تلك المنطقة الحيوية.
الاحداث الأخيرة والتي تم فيها الانقلاب العسكري على المكون المدني في الحكومة الانتقالية من قبل عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس “السيادة” السوداني الحاكم الفعلي للسودان جاء ليدلل بكل شفافية ووضوح أن الحكومة الانتقالية لم تكن الا ديكور أراد منها المكون العسكري للسلطة وعلى وجه التحديد الفريق البرهان الالتفاف على ثورة الشعب السوداني ومصادرتها والعودة بالسودان الى حكم العسكر كما هو حال نظام السيسي الذي استنسخه العسكر في السودان. ولم تكن كل الوعود بتسليم الحكم الى المدنيين وشعارات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية الا دعوات كاذب ومحاولة لشراء الوقت لتثبيت حكم العسكر والقضاء على كل من يعارض حكم العسكر.
واتضح هذا من خلال حملة الاعتقالات الواسعة من قبل السلطة العسكرية لكل المعارضين السياسيين ورؤساء أحزاب ونشطاء ميدانيين في الحراك السوداني الى جانب اعتقال رئيس الوزراء وعدد آخر من الوزراء والسياسيين تحت حجة تعريض “الامن القومي” للبلاد وتجنيب البلاد حربا أهلية. هكذا هو الحال مع كل الديكتاتوريات في عالمنا العربي. اللجوء الى اعلان حالة الطوارئ يعني تسليط السيف على رقاب المعارضة والمعارضين والتهرب والتنصل من اية مسؤولية او محاسبة قانونية او أخلاقية للنظام ولعناصر الأجهزة الأمنية التي ترتكب جرائم ضد الشعب وضد ثورته. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد بقيت عناصر الاجهزة الأمنية والجيش والشرطة السودانية التي قامت بقتل ما يقرب من 100 متظاهر اثناء الثورة الشعبية قبل حوالي سنتين حرة طليقة ليومنا هذا دون محاسبة او تحقيق او مساءلة.
والذي يبدو للان على الأقل ان البرهان ماض في تثبيت حكم العسكر وقمع المعارضة متبعا مسارين متوازيين. فهو من جانب أعلن حالة الطوارئ في البلاد وحل مجلس السيادة الذي كان يترأسه والحكومة وغيرها من المؤسسات التي كان من المفترض ان تؤمن نظريا مسارا ديمقراطيا تتم فيه الانتخابات والانتقال السلمي الى الحكم المدني. هذا الى جانب حل جميع الكيانات النقابية والاتحادات المهنية في السودان. وبهذه الإجراءات هو لا يستنسخ رفيق دربه السيسي بل أيضا يستنسخ ربما الكثير مما قام فيه الجنرال بينوشيه في تشيلي في عام 1973 عندما قام بالانقلاب العسكري في تشيلي على حكومة اليندي المنتخبة. الديكتاتوريات يجمعها نفس الصفات ونفس العقلية ونفس التصرفات بغض النظر عن الفارق الزمني والجغرافي.
من الجانب الاخر يحاول الفريق برهان استمالة بعض القوى والأحزاب الانتهازية مثل الاخوان المسلمين في السودان الى جانب العسكر لإظهار ان هنالك قوى سياسية وشعبية تدعم حكم العسكر الذي يحاول إظهار انه الطرف الذي يحافظ على الاستقرار في البلد ومنع الانجرار الى الحرب الاهلية. وضمن هذا المسار يحاول الفرق برهان وزمرته اتهام المتظاهرين والمعارضين على انهم ضد الجيش السوداني وانهم يتبعون اجندات خارجية للعبث بأمن السودان.
الكيان الصهيوني ومنذ البداية لم يخف دعمه لعبد الفتاح البرهان حيث صرح العديد من سياسييه انه من الأفضل تقديم الدعم الى رئيس مجلس السيادة البرهان وليس لرئيس الحكومة المدني حمدوك لأنه الأول يريد إقامة علاقات جيدة مع الإدارة الامريكية و “إسرائيل” وخاصة في مجال التطبيع. ولا نستبعد من ان الكيان قدم او سيقدم الدعم في المجال الأمني والاستخباراتي لحكم العسكر في السودان حتى يضمن استكمال مسار التطبيع الذي بدأه الفريق البرهان بشكل منفرد.
الشعب السوداني وقواه الحية مصرين على الاستمرار بالتظاهر والتصدي لحكم العسكر الذي يحاول مصادرة الثورة وحرمانه من تحقيق أهدافها وكما اثبتت التجارب انه يمتلك من المقومات التي تؤهله الى خوض هذه المعركة حتى النهاية لنيل حريته وتحقيق حياة كريمة وتحقيق العدالة الاجتماعية. وهو يعول على قواه الداخلية وليس على المجتمع الدولي المنافق وإن صدر من بعض دوله استنكار او إدانة لما يقوم به النظام العسكري في السودان فقد اثبتت التجارب ان هذا المجتمع الدولي سرعان ما يتصالح مع الأنظمة الديكتاتورية والقمعية كما هو الحال نظام السيسي على سبيل المثال وحتى مع قتلة الأطفال ومرتكبي المجازر كما هو الحال مع السعودية.
كاتب وباحث اكاديمي فلسطيني